الثلثاء ٢٦ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: شباط ٢٧, ٢٠١١
المصدر: جريدة الحياة
 
دعوة إلى وقف التندر على القذافي - حازم الأمين

قبل سنوات طويلة، عبر لي صديق ليبي عن ضيقه وبرمه بميلنا، نحن أصدقاءه العرب، الى اسـتحضار مـأسـاة الليبيين مع نـظــامهم على نحو لا يـخـلو من تـنـدر وفكاهة. ذاك أن معمر القذافي قد يثير فينا، نحن الذين من غير ضحاياه المباشـرين، ميلاً إلى السخرية والاندهـاش الذي يُخفف من الاستهوال البديـهـي لأفعاله. المأسـاة اللـيبية كانـت عنصراً أكيداً في الفكاهة التي يبعث عليها حضور القذافي وخطابه ورطانته. فبالأمس عندما قارن نفسه بملكة بريطانيا التي قال إنها حكمت 57 عاماً فيما حكم هو أقل منها بخمسة عشر عاماً، فان الضحك الذي يبعث عليه ذلك ينطوي على مأساة شعب بأكمله.


نعم، لقد استعنّا بما يبعث عليه الرجل من سخرية ومفارقة وابتذال في عملية قبوله. والاعتراف بذلك ربما ساعدنا على التخفف من التبعات الأخلاقية لصمتنا عنه، إذ إن ليبيا، وطوال عقود طويلة لم تمثل لنا مأساة شعب وعسف نظام، بقدر ما مثل لنا نظامها وعقيدها وجه هزل وسخرية!
كنا نعرف كل شيء، أو على الأقل نتوقع كل شيء، لكننا تواطأنا. بعضنا بسبب كسله، وابتعاد ليبيا عن مجال تفكيره وهمومه، وبعضنا كان مستفيداً من العقيد الذي أغدق على أحزابنا ومثقفينا وأدبائنا على نحو لم يفعله صدام حسين.


اليوم قد يسأل المرء نفسه سؤالاً من نوع: لماذا لم يكن معمر القذافي ونظامه مجالاً لانقسام ثقافي وأخلاقي عربي على نحو ما كان صدام حسين مثلاً؟ لماذا تغاضينا عن ثقافة وصحافة وأحزاب و «ثورات» كانت ممولة من هذا الرجل. صدام حسين فعل ذلك، لكنه، وخصوصاً في العقد الأخير من حياة نظامه، كان مادة خلاف كبير في أوساط سياسية واجتماعية وثقافية. أما القذافي، فلم يكن يُصاحب تمويله مؤسسة أو حزباً أو جامعة أكثر من شعور بالدهاء غير المُدان راود المستفيد منه، من دون التبعات الأخلاقية التي من المفترض أن تصاحب ذلك. لنأخذ مثالاً يساعد على المقارنة هو قضية كوبونات النفط التي وزعها صدام حسين على شخصيات سياسية وإعلامية عربية، بهدف شراء ولائها. المستفيدون من هذه الكوبونات خاضوا حروباً ضارية دفاعاً عن أنفسهم ولدفع التهمة عنهم، على رغم أن التهمة كانت موثقة بمستندات هي اليوم في حوزة كثيرين. أما من استفاد من أموال العقيد، فلم يشعر يوماً بضرورة الدفاع عن نفسه حيال رأي عام يتهمه، لا بل إن كثيرين من هؤلاء كانوا يتحدثون عن دعم القذافي لهم. وقد فعلوا ذلك مزهوين بادعاء مكر أعجبنا في الكثير من الأحيان. ولم تطرح فعلتهم علينا سؤالاً عن حقيقة أننا نمول ثقافتنا وسياستنا على حساب شعب يرزح تحت ثقل نظام أفقره وقتله.


ثم ماذا عن علاقة النظام الليبي بقضيتنا المركزية فلسطين؟ ألم يُلوث ذلك النظام هذه القضية بأمواله ووجوهه القذرة؟ نعم فعل ذلك، ومرة أخرى تواطأنا جميعنا معه في ذلك. قبل أيام قليلة، انطلقت تظاهرة في مدينة رام الله الفلسطينية مؤيدة لثورة الشعب الليبي ضد نظام القذافي، ولهذه التظاهرة، بحسبي، مضمون مختلف عن كل التظاهرات التي شهدتها مدن عربية انتصاراً لغضبة الليبيين، إذ أنها قد تساهم في تبديد وهم لطالما سعى القذافي الى بعثه في خطابه المنتفخ والركيك، وهو انحيازه الى القضية الفلسطينية. التظاهرة تلك، وإن كانت متواضعة لجهة المشاركة، إلا أنها قالت، على نحو رمزي، لرجل مثل القذافي، إن «قضيتنا ليست بحاجة الى دعم رجل مثلك» وإنك تـحـتل ليـبـيا تماماً كما تحتل إسرائيل أرضنا.


لكن تظاهرة رام الله المتواضعة تحتاج الى الكثير من الدأب والعمل حتى تتكرس معادلةً في علاقة أنظمة العسف والفساد بالقضية الفلسطينية. فالحال إن تلك الأنظمة جعلت من فلسطين احدى الدعائم الرئيسية لشرعيتها، ومزقت مجتمعاتها مستعينة بهذه القضية، وقتلت معارضيها وتدخلت في بلدان مجاورة لها. ثم إن لفتة رام الله سابقة كان من المفترض، لكي تُجري فلسطين عملية تطهرها من هذه الأنظمة، أن تُسبق بلفتة مماثلة ضد صدام حسين، وهو أمر لم يحصل بل ما حصل هو عكس ذلك تماماً. لكن يقظة متأخرة خير من عدمها.


ذلك كله لا يجيب عن سؤال عن سبب غياب القضية الليبية عن وعينا الأخلاقي والثقافي على نحو ما كان العراق حاضراً، وعلى نحو ما هي حاضرة قضايا الكثير من الأنظمة المستبدة والفاسدة في بلداننا؟ فـ «كرم» العقيد ليس سبباً كافياً لهذا الغياب، ذاك أن أنظمة أخرى لم تبخل على هذا الصعيد، وخدمها «كرمها» في أنها تحولت الى موضوع انقسام في إعلامنا وسياستنا، من دون أن يحجب استبدادها ودمويتها.


هل ســاعد التجـانس الـطـائـفـي والـعـرقـي بيـن المُـسـتَبِد والمُـسـتَبَد به في عـدم بلـورة غـضـبة عربية في وجـه النظام في ليبيا؟ قد يكون لهذا البعد في المأساة اللـيبـية قيمة تـفسيرية، فالاسـتـبداد عـندما يـحـمل مضـموناً قومياً أو طائفياً يصبح أكثر عرضـة للغضب وللتشهير، كما انه يحمل مضامين عـنـفيـة أعلى وأشد. لكن الإجابة تبقى غير كافية، ولا بد من مزيد من البحث. وهنا تلوح حقيقة أخرى تتـمـثل فـي أن نـظـام الـعقـيد هو سـليل مرحلة الانقلابات العربية التي أنتجت أنظمة تآلفنا مع عقدائها، لا بل أنشأنا مع استبدادهم وعياً وثقافة وحياة، ولم يكن عقيد ليبيا غريباً عن منظومة الوعي البائس هذه.


لنأي ليبيا ولبعدها قيمة في محاولة التفسير هذه، لكن النأي كان فعلاً مدبراً من قبل النظام، وإلا لماذا لم يفعل البعد الجغرافي فعله مع الجزائر التي كانت قضاياها أكثر حضوراً في وعينا ودأبنا اليومي. وربما يصح السؤال هنا عن أسباب غياب الدياسبورا الليبية عن مشهد الـ «دياسبورات» المعارضة في أوروبا وفي غيرها من بلاد اللجوء الكثيرة؟ فالشتات العربي في الغرب لعب دوراً مهماً في تقديم صور المأساة في بلداننا.
أسئلة كثيرة يطرحها استيقاظ ليبيا، وسط موجة اليقظة العربية المستجدة.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة