الثلثاء ٢٦ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: شباط ٢٥, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
 
سقوط "العنف الثوري" لا "الأفكار الثورية" - عايدة الجوهري

في قراءته للذات البشرية، أقر أفلاطون بدور الغضب (القوة الغضبية)، كمكون نفسي جوهري، في التأثير على الحدث، وفي احداث تحولات في مسار الافراد والمجتمعات، خلافاً لبعض الافكار الشائعة التي تبخس قيمة الانفعالات، وفي طليعتها الغضب. فالثورات الشعبية تولد من رحم الغضب والاهتياج. كان غضب المصريين مكتوماً، مكدساً في ثنايا الوجدان والذاكرة والعقل. العقل ايضاً يغضب، يغضبه العبث والزيغ والعسف. كان غضب المصريين يرتد على ذواتهم، او على امثالهم واشباههم. كانت الصحف المصرية تحفل بأخبار متفرقة امنية وسريعة. او على العكس، كان اولئك يتشفون بالشكوى والدمدمة والنق، او بالنكات، كشكل من اشكال المكابرة على الواقع واحتوائه، او إدعاء السيطرة عليه، وما لم تجدِ هذه الوسائل او تلك كان بعضهم يهرب من الزمن الراهن الى ماضٍ مؤسطر، يحمل له بعض السلوى والرجاء. (...)


في سياق ثورته، يتخلص الثوري، وهنا المصري المقهور، وبدرجات متفاوتة، من مشاعر الدونية في مواجهة المهيمنين عليه وعسفهم، مستعيداً احساسه بالقوة والقدرة على المجابهة، متخففاً من شعوره المقيت بالافتقار الى القوة والقدرة اللازمتين للمواجهة، ذلك الشعور الذي يبعث في نفسه العنفوان واحترام الذات ويخلصه من الشعور بالهزيمة، ومن الشعور بالعار الوجودي، ومن حالة الدفاع الدائم، خوفاً من افتضاح عجزه وفقره وضيعان شرفه، ومن انكشاف جرحه النرجسي، وشعوره الدائم بالذنب، وادانة ذاته، كأنه صانع مصيره الاوحد، يكتشف الثوري فجأة "أناه" المنهوبة، المسحوقة بأنا عليا مزيفة، والمحاصرة بالضغط والخوف والقلق الدائم. يتحرر الثوري من ادران الذات واوجاعها، في الوقت الذي يطالب فيه بحرياته السياسية والعامة.


فالشعور بالكرامة الشخصية شعور بشري فطري. فالطفل الصغير يلح على الاعتراف به، واحترام رغباته او اقناعه بالتخلي عنها، وإلا غضب او احبط، وعلى مرّ الزمن يطالب المرء بحقه في السيادة على عقله وارادته وحاجاته ورغباته وجسده، فيما تشيّء الانظمة الاستبدادية، كما العشائرية الطائفية الافراد وتحولهم الى ارقام، فاقدي السيطرة على حياتهم. ولكن الوعي بقضية الحرية هو منبع الحرية.
لم يكن ينقص الثائر المصري، المدرك لموبقات النظام، الغضب اللازم للقيام بالثورة، ولكن الانتفاضة التونسية نبهته الى وظيفة الشارع والساحات، واهمية التضامن ووحدة الاهداف السياسية الشعبية لتغيير مجرى التاريخ.


تبرز التظاهرة، وفق التعريف الاكاديمي لوظيفة وسائل الاعلام، كوسيط اعلامي ممتاز كـMedium، رغم عدم تصنيفها اكاديمياً وتداولياً كذلك. فالتظاهرة، على غرار الوسائط الاعلامية الاخرى، تكشف الوقائع وتنقل الرسائل، وبحدة. ولكنها وخلافاً للوسائط الاعلامية الاخرى، الحائرة بين الحكام والمحكومين، والمنحازة غالباً للحكام، خصوصاً في البلدان غير الديموقراطية، لاحتكار هؤلاء للمال والسلطة، لا تنطق سوى باسم المحكومين، ما لم توظف خلافاً للمعهود والمتوقع الحاكم، كما يحدث في لبنان وسوريا، رغم ان بعض اللبنانيين يرفضون المقارنة بين النظامين.
لم يخف تأثير هذا الوسيط الاعلامي حتى في اكثر الديموقراطيات عراقة، ففي هذه الديموقراطيات ما زالت الشعوب تنزل الى الشوارع والساحات، عند انقطاع الحوار بينها وبين حكامها، وتغاضي السلطة عن حقوقها، وعجزها عن تلبية توقعاتها وحاجاتها.


بعزمهم النزول الى الشوارع بكثافة، اي بتضامنهم، تحرر الثوار المصريون من خوفهم، خوفهم من اهل النظاعم وادواته، وخوفهم من انفسهم على انفسهم، فبتواجده بين عشرات او مئات الالوف، بل احياناً الملايين، شعر كل فرد مصري غاضب بقوة ذاتية غير اعتيادية، هانت امامها الحواجز، تحرر من خوفه وعجزه، مدركاً ان بعض انواع الحريات تقضي المجازفة القصوى، كانت حياته السابقة على الثورة هي اصلاً مجازفة يومية.


بسيطة وميسرة، ومآل وعي حقوقي عميق او ابتدائي، تولد التظاهرات وعياً وحماسة لدى الجماهير. اذ تأتي التحركات الشعبية بمثابة احتجاج على صمت العامة السلبي، وانتهاك قانون الصمت الجماعي، والطمأنينة الاجتماعية السلبية. يؤول التظاهر، المسنود الى غضب الجماهير، الى فضح الظلم، اي ظلم في الساحات العامة، وتساعد العلانية على وضع الشعب امام مسؤولياته. جعلت الفضائيات الثوار المصريين المتظاهرين مسؤولين امام العالم اجمع، مما زاد من عزيمتهم وجموحهم وزهوهم.


اسقطت التظاهرات والاعتصامات الحاشدة والمنظمة، نسبياً، والواضحة الاهداف، نظرية "العنف الثوري" ولكنها لم تسقط مفهوم "الافكار الثورية" فالتوق الى "الحرية" و"المساواة" و"العدالة الاجتماعية" و"النزاهة" و"الشفافية"، هي نتاج جهد فكري نظري، حداثوي، مديد. والغضب، محرك الثورات الشعبية الحقوقية، هو نتاج هذا الوعي النظري التاريخي، المأخوذ بكرامة الانسان أنى حل. ثبت عملياً إمكان دمج الأفكار الثورية بالاحتجاجات اللاعنفية، بقي ان نسأل لماذا لا تعرف بعض الشعوب كيف ولماذا وأين، ومتى، وضد من، تغضب وتتضامن؟

(استاذة جامعية)



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة