أدى الانقلاب السريع والمفاجئ، الذي شهدته أوضاع دولتين اعتبرتا من أكثر الدول العربية استقرارا، واعتبر نظاماهما من أكثر نظم الحكم صلابة في المنطقة، إلى سقوط كل الحقائق والمسلمات القائمة بخصوص أوضاع ومآلات معظم النظم الحاكمة في العالم العربي، وأخذ سؤال واحد يتردد في كل مكان: على من الدور؟ بعد تونس والقاهرة، أي عاصمة عربية ستتلقى صواعق الثورة قبل غيرها، عمان، صنعاء، بغداد، دمشق، الرياض، الرباط أم الجزائر؟
وبدت الجزائر لبعض الوقت، أقرب محطة لقطار الثورة الشعبية الهادر، أو هكذا على الأقل، رآها كثيرون، فخلال ندوة صحافية للرئيس ساركوزي عقدها قبل فترة وجيزة، وجد الرئيس الفرنسي نفسه في حرج ظاهر أمام سؤال حول موقفه في حال طلب الرئيس بوتفليقة اللجوء إلى باريس في مواجهة ثورة شعبية محتملة على الطريقة التونسية. وهكذا بدا المستحيل ممكنا، فموجة التفاؤل التي أطلقها انتخاب عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية عام 1999، والتي استمرت لغاية انتخابه لعهدة ثانية عام 2004، تلاشت وخبت منذ أمد بعيد، وخلفتها موجة تذمر وقنوط عام، رغم الاستقرار الأمني المحسوس، والتحسن النسبي للوضع الاقتصادي، الناتج عن الارتفاع الكبير في أسعار المحروقات والذي مكّن الدولة من إنفاق مبالغ هائلة لشراء "السلم الاجتماعي" وهو ما خلق وهم الاستقرار، لأن الحقيقة هي أن الجزائر تغرق في مزيج ملتهب، قابل للاشتعال في أي وقت، فالمصالحة الوطنية السياسية لم تستكمل وقد علقت بها بقايا إرهاب لم ينته ولا يبدو انه يريد أن ينتهي، والفساد المالي بلغ مستويات مرعبة، والصحف تنقل أخباره يوميا وعلى امتداد سنوات، في شكل قضايا رشاوى واختلاسات، قروض مصرفية مشبوهة، وتبديد للمال العام ، والأرقام المنشورة خيالية بل خرافية، لكن معظم القضايا تنتهي بإخلاء سبيل المتهمين أو بعقوبات خفيفة.
الى جوار هذا الفساد، خيّم ركود سياسي ناجم عن الغلق المبيّت للحياة السياسية، بالتضييق على الحريات وتقليص مساحتها إلى الحدّ الأدنى فتكاد تنحصر في صفحات بعض الجرائد المستقلة، وتحويل التحالف الرئاسي (القائم على ثلاثة أحزاب هي: جبهة التحرير الوطني، التجمع الوطني الديموقراطي، وحركة مجتمع السلم) إلى شكل جديد للحزب الواحد، بثلاثة أثواب مختلفة، مع تركيز مطلق للسلطة في يد رئيس الجمهورية، علما أن "راية التوريث" رفعت لبعض الوقت في سماء جزائر "العزّة والكرامة"!!.
الحكومة الصّماء... تواجه الشارع الأخرس
إن غضب الشارع في الجزائر تحوّل إلى حالة "تمرد دائم"، خلال السنوات العشر الأخيرة فبعد عشرية الإرهاب، عاشت الجزائر عشرية الفساد، ومع الفساد نما الغضب وتفجر الاحتجاج. فتوزيع قطع الأراضي للبناء أو المساكن، الشوارع غير معبدة، وانقطاع الغاز أو الكهرباء، وحادث مرور قاتل، وقصة حبّ بين مراهقين، تتحول إلى صراع بين عائلتين أو قبيلتين.. تعسف شرطي أو دركي، وهزيمة أو انتصار فريق رياضي... هذه الأمور و عشرات أخرى غيرها أصبحت شرارات كافية لإشعال نيران الاحتجاج والمظاهرات في أي نقطة من البلد، وهكذا شاهدنا خلال الفترة الماضية مئات من الحوادث الصغيرة و "التافهة" أحيانا، تتحول إلى محطات للاحتجاج تنتهي في الغالب بأحداث شغب متفاوتة الحجم والخطورة. وأحصت جهة رسمية أكثر من 2400 حالة "شغب عام" خلال السنتين الماضيتين.
وفي الحقيقة عبّرت هذه الاحتجاجات بشكل أساسي عن انقطاع كل قنوات الاتصال السلمية بين السلطة والمجتمع، هذه القنوات التي تمثلها في الظروف الطبيعية الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام المختلفة. وفي الحقيقة أيضا يجب القول أن السلطة تتحمل المسؤولية الأساسية في انقطاع قنوات الاتصال بينها وبين المجتمع، فخلال العشرية الماضية تمكنت السلطة من تدجين النخب الممثلة في الأحزاب السياسية و منظمات المجتمع المدني، كما استطاعت اختراق وسائل الإعلام بصيغ مختلفة، وبدا الأمر انتصارا كاملا للسلطة على كل أشكال المعارضة والاحتجاج السياسي المنظم، لكن الوجه الثاني لهذا الانتصار هو أن تجد السلطة اليوم نفسها في مواجهة "المجهول"، أي كل القوى الاجتماعية الصاعدة التي لا تنظمها أحزاب ولا تؤطرها منظمات أو جمعيات ولا تعبر عنها وسائل الإعلام، هذه القوى المجهولة تعبر عن نفسها بموجات الاحتجاج والشغب المتوالية، في حين تمثل أفواج الحرّاقة(1) والانتحاريين أطرافها الأكثر تمردا ويأسا.
يأس متولد أساسا عن حالة غياب الرؤية وفقدان الأمل، فتحول الأحزاب إلى أجهزة انتخابية وغياب النقاش السياسي الحقيقي والإجماع المصطنع حول مشروع مجتمع هلامي بلا معالم ولا ملامح، كلها عوامل أدت إلى انفضاض المجتمع عن كل ما هو سياسي وظهور حالة "قرف" جماعي من كل ما هو سياسي بل من كل ما هو نشاط عام أياً كانت التسمية. في ظل غياب الرؤية والهدف وطغيان الإحباط واليأس يتملك الجزائريين اليوم على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية وأوضاعهم المهنية خوف خفيّ من غد مجهول، بسبب ما يشاهدون ويعيشون في حاضرهم المضطرب.
لكن يبدو أن الحراك الكبير الذي عاشته تونس والقاهرة، قد نسج في العقول وفي النفوس، حبائل غواية فكرية قديمة، غواية استنساخ النتائج السريعة، و تعميم الاستنتاجات المتسرعة، وهذه غواية من الصعب دفعها في مثل هذه الظروف، ولعل الأمر يتجاوز غواية الانسياق للسهولة والركون للكسل الفكري، ويتحول بالنسبة لبعض محترفي السياسة وهواتها، إلى تعبير عن رغبات دفينة في رؤية التغيير يحدث دون الاضطرار لدفع ثمنه.
فبعد الحوادث التي عاشتها كثير من المدن الجزائرية في كانون الثاني المنقضي، عاشت الجزائر نهاية أسبوع مثيرة، بعد أن دعا حزب التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية، وبعض الناشطين ضمن ما سمي "التنسيقية الوطنية للتغيير والديموقراطية"، إلى المسيرة بالعاصمة، كانت الاستجابة الشعبية شبه معدومة، وتحولت المسيرة إلى ما يشبه "التجمع" وسط حضور مهول لقوات الأمن التي أغلقت كل الشوارع المؤدية لساحة أول أيار، وكان عدد رجال الشرطة يعادل مئات أضعاف المتظاهرين، في صورة شبه كاريكاتورية عن "الاستخدام اللامتكافئ للقوة".
فالشارع لم يفهم كيف أن بعض الذين ينادون بتكرار ثورتي تونس ومصر، كانوا وحتى أسابيع قليلة من المنادين بتعميم "نموذج بن علي" على دول المنطقة لمواجهة الإسلاميين، كما أن الخلفيات الأيديولوجية والمسارات السياسية المريبة لكثير من الداعين لـ"إسقاط النظام"، جعلت الناس يترددون ويحجمون في النهاية، فجراح عشرية الموت مازالت نازفة في النفوس والأبدان، وبدا غريبا بل مستفزّا أن يشترك طرفا النقيض سعيد سعدي (زعيم التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية، ذي النزعة البربرية العلمانية) مع علي بلحاج (نائب رئيس الجبهة الإسلامية المحظورة) في مسيرة واحدة للمطالبة بالتغيير والديمقراطية! ويبدو أيضا أن رائحة الانتهازية فاحت بأكثر مما هو مقبول، فكثير من المتملقين والمتسلقين المعروفين، اعتقدوا أن ساعة الغنيمة قد أزفت، وأن قيادة الثورة الوشيكة لن تكلّفهم أكثر من الجلوس أمام شاشة الكمبيوتر أو كاميرات الفضائيات.
في عصر ثورات الفيسبوك... التغيير بأفكار معّلبة حاضر الجزائريين، يطبعه شعور عارم بغياب العدالة بكل معانيها، اجتماعية، اقتصادية، قانونية وسياسية، في ظل استشراء اللاعقاب على كل المستويات، وتحول الرشوة إلى قاعدة في تسيير الشؤون العامة، ولعل أكثر صور غياب العدالة وضوحا ومأسوية هي صورة الفقر المدقع في مواجهة الغنى الفاحش. فالتفاوت الطبقي بين الأكثر غنى والأكثر فقرا يكاد يشبه التفاوت القديم بين "الخمّاسة"(2) وكبار "الكولون"(3)، والنهب المنظّم والعلني للثروة الوطنية يكاد يشبه النهب الاستعماري في أوج طغيانه.
وسط هذا كله، يظهر النظام السياسي من رئيس الدولة والحكومة إلى أحزاب التحالف الحاكم وباقي القوى والتنظيمات، عاجزا عن فتح آفاق جديدة وصياغة مشاريع جديدة، وما هو مطروح لا يعدو أن يكون "سلالا" جمعت فيها الحلول الترقيعية البالية لمواجهة الأزمات المزمنة للبطالة والسكن والقدرة الشرائية والنظام التعليمي...الخ، وآخر ما تفتقت عنه عبقرية الحكومة هو "التراجعات" عن قرارات سابقة اعتبرت غير شعبية في حينها، مثل قرار ضبط الاستيراد وقرار إلزام تجار الجملة بالتعامل بالشيكات والفواتير، وقرار منع الباعة الفوضويين في الشوارع. وقرارات أخرى كثيرة، لا مجال لسردها، هي "تراجعات" سترسخ في أذهان الناس ضعف السلطة وخوفها من الشارع، الذي عجزت عن فهمه مثلما عجزت عن قمعه، وهذا يؤكد عقم السلطة عن وضع حلول مبدعة، وسياسات خلاّقة توظف الطاقات والموارد الهائلة المتاحة للجزائر الآن.
فالتجديد والإصلاح يحتاجان أفكارا طازجة، وهو أكثر ما تفتقده السلطة في جزائر اليوم، لكن هذا لن يشعل نار الثورة غدا، فالمزج بين ريوع النفط، وذكريات سنوات الفوضى والجنون، كفيل بتأجيل الحريق الكبير، أما النخبة الممزقة بالانتهازية المشتتة بالحسابات الصغيرة والثارات القديمة، فإنها تحتاج إلى نضال حقيقي تحمل فيه صليبها حتى النهاية، قبل أن تتحول أحلامها إلى حقائق. وتشتعل نار ثورة جديدة في أرض الثورة و المليون شهيد.
1 – الشباب الذين يحاولون الهجرة إلى أوروبا بالقوارب. 2 – وصف كان يطلق على الفلاحين الجزائريين أيام الاستعمار لأنهم يحصلون على خمس المنتوج لقاء عملهم سنة كاملة. 3 – كبار المستعمرين الفرنسيين من ملاك الأراضي.
( صحافي جزائري)
|