هناك عبارة ذاعت مؤخّراً، أذاعتها بضع محطّات تلفزيونيّة وصحف ومجلاّت. العبارة هذه تقول: "البوصلة فلسطين". وهي تقال في لهجة منبّهة كأنّها تحذّر من ضلال اقتُرف أو من انحراف عن صراط مستقيم. فـ"فلسطين هي البوصلة" لا يلزمها إلاّ قرع ألحان حربيّة تدعو الجميع لأن يتأهّبوا، وتهدّد غير المتأهّبين بالخيانة والتشكيك. والحال أنّنا كنّا نظنّ أنّ فلسطين، منذ نكبة 1948 وقيام دولة إسرائيل، هي البوصلة. أفلم نقل مراراً وتكراراً إنّها "قضيّة العرب المركزيّة" وإنّها قضيّتهم "الأولى"، وإنّه على أساس الموقف منها تُرسم مواقفنا من بلدان العالم، ومن أجلها خيضت الحروب واحدة بعد الأخرى وتضخّمت الجيوش جيشاً بعد جيش وانعقدت مؤتمرات القمم العربيّة المؤتمر بعد المؤتمر؟ إذاً لماذا يُطلق اليوم هذا التحذير وبهذا التكرار وتلك العصبيّة، ولماذا يُسبغ عليه طابع الاكتشاف لأمر كان مجهولاً؟ أغلب الظنّ أنّ عبارة "فلسطين هي البوصلة" إنّما يراد منها الآن أن نبقى حيث كنّا منذ 1948، متاجرين بالفلسطينيّين وبقضيّتهم التي تخسر وتتراجع عاماً بعد عام. ذاك أنّ زمن التعويل اللفظيّ على فلسطين وتحرير فلسطين ينبغي، عند المستفيدين منه، أن لا يزول. لكنْ إذا كان الفلسطينيّون أوّل ضحايا عبارة "فلسطين هي البوصلة"، فإنّ السوريّين هم ثاني الضحايا. ذاك أنّ هذا التنشيط للعبارة القديمة إنّما حصل في المناخ الذي أطلقته الثورات العربيّة، ولا سيّما منها الثورة السوريّة. وما يراد قوله هنا هو تسخيف الاهتمام بقضايا الحرّيّة والخبز كما طرحتها تلك الثورات. ذاك أنّ المطلوب عدم الاكتراث بالأفق الجديد الذي افتتحته، والبقاء في الزمن القديم حيث نردّد "فلسطين هي البوصلة" ثمّ نغطّ في نوم عميق. أمّا العرب عموماً فهم الضحيّة الثالثة لأنّ المطلوب، والحال هذه، غضّ النظر عن مسائل تقدّمهم وحرّيّتهم وخبزهم وتعليمهم وصحّتهم، بحجّة أنّ... "فلسطين هي البوصلة". أبعد من هذا، تُستخدم العبارة المفتاحيّة إيّاها لمنع العرب من العيش في أوطان ودول تكون لواحدتها همومها الخاصّة، فيبقى هؤلاء "العرب" كمّاً هلاميّاً لا ينقسم شعوباً ولا يتجسّد مجتمعات. وباختصار فإنّ الهدف الفعليّ، بحسب العبارة هذه، هو إبقاء منظومة الممانعة على حالها، سيّدةً للساحة، لا تقدّم إلاّ الكلام لفلسطين، فيما تنتهك المجتمعات والبلدان واحداً بعد الآخر، مانعة الشعوب من أن تلتقط مصيرها بيدها وتضع حدّاً لعسف الاستبداد. فهي إذاً عبارة رجعيّة لأنّها لا تضمر إلاّ الرجوع إلى ما عشنا عليه طويلاً. وهي، فوق هذا وقبله، مُعدّة لخدمة الاستبداد كما لا تفعل عبارة غيرها.
|