استسهل كثر من الكتّاب العرب مقاربة المسألة الطائفية بوصفها معطى لبنانياً لا سمات له في مجتمعاتهم، وعدّوا التداول فيها إنْ تناوَلَ الولاءات السياسية أو شرّحَ بنى الأنظمة الحاكمة، إسقاطاً قسرياً للحالة اللبنانية على الحالات العربية، أو استسلاماً لمنهج استشراقي يُؤْثِر تحليل الأمور في منطقتنا انطلاقاً من الهويّات الأوّلية. ولم يغيّر ما جرى ويجري في العراق منذ 2003 من آراء الكتّاب هؤلاء، فهم ردّوا أسباب «العنف» والأبعاد المذهبية للصراع على السلطة الجديدة في بغداد إلى الاحتلال الأميركي وخبثه، ثم إلى النظام الفيديرالي وما رافقه من «تطييف مفتعل» في توزيع المناصب. وهكذا، غدت الطائفية في أدبيات رائجة لوثةً لبنانية معدية أو داءً يبثّ عدوّ خارجي سمومَه تآمراً على مجتمعات وبلدان، أو تأسيساً لنزاعات يريدها ليُسيطر بواسطة إدارتها على المنطقة. وفي الحالين هي جسم برّاني يُزرع في مؤسسات أو في قوى سياسية فيسبّب الأضرار ويوهن «الوحدة الوطنية». وقد أدّى هذا التبسيط والرفض للتحليل العلمي للطائفية بوصفها ظاهرة اجتماعيةً سياسيةً مركّبة في معظم بلدان المنطقة، إلى التعمية على الكثير من القضايا وحجبها، عوض البحث فيها ووضعها في سياقاتها التاريخية، ذلك أن الطائفية في المشرق العربي ظاهرة فيها بالتأكيد إرث عثماني ومأسسة فرنسية وسياسات بريطانية، لكن فيها أيضاً -وفي ما غذّاها ويغذّيها- مؤسسات مذهبية وقوانين أحوال شخصية وهيئات تعليمية وجمعيات أهلية وعصبيات وروابط اجتماعية وممارسات سلطات «وطنية» وأشكال انتظام سياسي وتوزيع منافع اقتصادية. وإن هي اتّخذت في لبنان منذ دستور 1926 ثم الميثاق الوطني المرافق للاستقلال عام 1943، الطابعَ العلني، إذ اعتُمدت ركيزة للتمثيل السياسي عبر الفلسفة التوافقية للنظام، فإنها كانت مُضمرة في الحقبة الليبرالية في باقي بلدان المشرق قبل أن تُصبح عصبية يستند إليها نظام البعث في مؤسساته الأمنية القمعية ويحظر البحث فيها بدءاً من منتصف الستينات في سورية، ثم في العراق، في وقت ادّعت السلطات المصرية منذ الناصرية تجاوزاً لها، تاركة للتهميش المستند إلى خصائص الديموغرافيا أن يفاقم تجلّياتها. وفي موازاة الحرب الأهلية في لبنان، التي قوّت الطائفية وتركت أثراً عميقاً في المجتمع، لجهة الفرز السكاني جغرافياً واشتداد الاستقطاب داخل كل طائفة، فإن الاستبداد المغلّف بالعلمنة وبالأيديولوجيا القومية في سورية والعراق، والمتّكئ في الوقت نفسه إلى قواعد مذهبية، أجّج الطائفية المُضمرة وجعلها منطلقاً للكثير من مناحي الفرز السياسي والثقافي المُنتظِر فُرصَ التعبير عن ذاته. بهذا المعنى، لم يكن من الصحيح مرّة اعتبار الطائفية المظهّرة بلا حُجب في لبنان أشدَّ حضوراً فيه منها في محيطه، كما لم يكن من الصحيح تجاهل عدم تناقض مأسستها اللبنانية مع تجربة ليبرالية لم تشهد سجناً سياسياً أو انقلاباً عسكرياً أو حالة طوارئ، على نقيض البلدان التي نفتها أو جرّمتها. ولا يُفسَّر هذا بالعلاقة السببيّة بين الطائفية والحرّيات، على ما كان ينظِّر دعاة النظام الطائفي اللبنانيون، فللتعليم المتنوّع ولأدوار بيروت في القرنين الماضيَين ولخصائص النخب السياسية ولقوّة المجتمع المدني، الفضلُ الأوّل في تحصين لبنان من الميول التسلّطية. لكن لا يمكن نفي قدرة النظام التوافقي على كبح تمدّد القوى الطائفية على حساب بعضها، بما يمنع على إحداها الاستبداد أو الهيمنة المطلقة على إرادات الآخرين (ولَو أنه لا يَحُول دون الاستبداد داخل الطائفة الواحدة). وفي المقابل، يبدو جليّاً أن ادّعاء انتفاء الطائفية وقمعها لا يُفضي إلى إضعافها، بل يتحوّل في ظل غياب الحريات السياسية والفكرية إلى سردية «وطنية» إضافية للاستبداد، والى مجرّد تأجيل لانبعاثها بأكثر أشكالها حدّة. ولنا بالطبع في الحالتين العراقية بعد سقوط صدّام والسورية منذ اندلاع الثورة، مثالان، كما لنا في الحالة المصرية منذ سنوات سبقت سقوط نظام مبارك مثال آخر أقل حدّة من المثالين السابقين. وما تمكن إضافته في هذا المجال ختاماً، أن الطائفية لم تقترن في لبنان لغاية أواخر التسعينات بتقدّم التيارات الدينية-الأيديولوجية سياسياً، وإن استثنينا حزب الله اليوم، لصحّ الأمر نفسه، إذ ما زالت الحالات الإخوانية والسلفية حالات محدودة الانتشار في الوسط السنّي، في حين أن سقوط الاستبداد أو بداية سقوطه في باقي دول المشرق أظهر أن القوى الدينية هي الأكثر حضوراً وتماسكاً وجهوزية للفوز بالانتخابات. ويجوز تفسير ذلك ربطاً بغياب الحرّيات وتحوّل المساجد الى أمكنة لقاء وتواصل وحيدة للناس. ويمكن أيضاً الحديث عن أدوار الأنظمة المستبدّة نفسها في تعزيز بعض أوجه النشاط الديني الدعوي تحصيناً لمشروعيّتها ومنافسة لبعض تيارات الإسلام السياسي، ويمكن البحث في الإمكانات المادية والتعبوية للإسلاميّين... لكن هذا قد لا يكفي للإحاطة بالأسباب جميعها. هل نستنتج إذاً أن مجتمعاتنا محكومة بالطائفية؟ لا نظنّ ذلك. غير أن التصدّي لما تثيره الطائفية من إشكاليات لن يستقيم من دون بحث في أسبابها العميقة وفي خصائصها وتجلّياتها بلا «محرّمات» أو مسلّمات، وهو يقتضي في كل الأحوال التفكير في شكل الأنظمة السياسية والقوانين التي قد تسمح بإضعافها وبتقليص المساحات التي احتّلتها لصالح فكرة المواطنية. وهذا بالطبع عمل شاق. لكن ربّما تقدّم اللحظة السورية الراهنة، على مأسويّتها، فرصة جدّية للخوض فيه والخلاص من مجمل المقولات القديمة التي حصرت كل مظهر طائفي بآفة لبنانية أو بقسر خارجي...
|