في التاريخ السياسي السوري الحديث، من يخسر في المرة الأولى لا يستطيع ربح الجولة الثانية إن حاول خوضها (الهاشميون 1920 - أديب الشيشكلي 1954 - بعث القيادة القومية 1966 – بعث صلاح جديد 1970 - عبدالحليم خدام 2005). في نهاية شهر شباط 1982 (فبراير)، خسرت جماعة الإخوان المسلمين جولة من الصراع الدامي مع السلطة السورية بدأت في يوم 16 حزيران 1979 (يونيو) مع مجزرة مدرسة المدفعية بحلب التي ارتكبتها «جماعة الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين». ذهبت عشرات الآلاف من القتلى في ذلك الصراع الدموي، وبسببها وفي ظلها جرى ضرب كل القوى السياسية المعارضة، ومن خلالها وعبر نتائجها قامت السلطة بإجبار المجتمع السوري على صيام عن السياسة لم يكسره إلا يوم الجمعة 18 آذار (مارس) 2011 مع اندلاع الأزمة السورية من خلال ما جرى في مدينة درعا ذلك اليوم. حاولت الجماعة لملمة جراحها من خلال تفاوض مع السلطة جرى على جولتين في 1984 و1987، ثم بأشكال غير مباشرة في1996-1997، وعندما بدأ العهد الجديد في يوم 10 حزيران 2000 كان موقف (الإخوان المسلمين) أكثر اعتدالاً من باقي أطراف المعارضة، ولم يبدأوا التشدد في موقفهم إلا مع بيان 3 نيسان (ابريل) 2005، في أجواء أزمة السلطة السورية بلبنان، قبل أن يدخلوا في «إعلان دمشق» (16 تشرين أول 2005) ثم يديروا الظهر للإعلان ويذهبوا في 2006 للتحالف مع نائب الرئيس المنشق عبد الحليم خدام، وبعدها ليقوموا بعد أن أوصلهم تحالفهم مع خدام إلى اللامكان السياسي بإعلان تجميد معارضتهم للسلطة السورية في شهر كانون ثاني (يناير) 2009 أثناء حرب غزة. كان مفاجئاً وخارج السياق إعلان المهندس رياض الشقفة، المراقب العام للجماعة، عن «دور فاعل» للإخوان في الحراك السوري بعد مضي أقل من أسبوعين على بدئه، وهو الذي كان مثل السيل العفوي الذي اجتاح بشكل مفاجئ مجرى نهر قديم توقف عن الجريان تسعة وعشرين عاماً، الشيء الذي أربك وفاجأ السلطة والمعارضة معاً، من حيث كونه مجهولاً بملامحه ومحمولاته ومساراته، وهو يختلف عن أحداث 1979-1982، التي كانت حراكاً لفئات وسطى مدينية في حلب وحماة واللاذقية مع بعض بلدات محافظة ادلب، من زاوية أنه إذا استثنينا مدن درعا وحمص وحماة فقد كان في فترة2011-2013 حراكاً في الريف السني السوري، في حوران وريف دمشق وأرياف حمص وحماة وإدلب وحلب ودير الزور، الذي كان واقفاً مع السلطة ضد (الإخوان) في أحداث 1979-1982. على الأرجح، كان تدهور الزراعة السبب، مع ليبرالية الإجراءات الاقتصادية في فترة 2001-2010، كما أن الاقتصاد هو السبب في عدم تحرك مدن حلب ودمشق والرقة ضد السلطة خلال عامين كاملين من بدء الحراك السوري، وما جرى في حلب ودمشق منذ تموز (يوليو) 2012 كان حراكاً مسلحاً دخل إليهما من الأرياف، وهو ما ينطبق على الرقة في شهر آذار2013، التي أتاها المسلحون من أرياف دير الزور وحلب. عندما تأدلج الحراك السوري وتسلح، لم يأخذ الفعل العسكري المسلح المعارض في تعبيراته الأقوى أشكالاً إخوانية، بل سلفية - جهادية مع «جبهة النصرة» وسلفية مع «كتائب أحرار الشام»، وكان أضعفه من ارتدى العباءة الإخوانية في «لواء التوحيد» و«كتائب الفاروق». هذا شيء ملاحظ أيضاً في مصر عندما يستند السلفيون، بخلاف الحركة الإخوانية ذات الطابع المديني أساساً، إلى قاعدة ريفية أو إلى فئات آتية حديثاً من الأرياف إلى الضواحي العشوائية للمدن، وهو ما يلاحظ أيضاً في تونس. وحتى عندما أظهرت حماة وحمص ودير الزور في عام2011 حراكاً مدينياً سلمياً، فإن جماعة الإخوان المسلمين، قبل أن تنجر منذ خريف عام2011 للعمل المسلح، لم تستطع جعله يرتدي عباءتها بعيداً من طابعه العفوي أو عن محاولة البعض الآخر من التنظيمات الجديدة في «التنسيقيات» تحريكه وتأطيره وتنظيمه. هذه الصورة جعلت جماعة الإخوان المسلمين السورية تنظيماً خارجياً من حيث الواقع الفعلي في فترة أزمة 2011-2013، وليس مستنداً إلى أرضية اجتماعية صلبة في الداخل السوري: حاولت الجماعة القفز على هذا الواقع من خلال علاقاتها الإقليمية مع إسطنبول والدوحة، وفي ظل أجواء من اتفاق التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين مع واشنطن في مرحلة ما بعد سقوط حكم الرئيس المصري حسني مبارك، أثمر تعبيد الطريق أمام الجماعة للوصول للسلطة في تونس والقاهرة. كانت هيمنة الجماعة على «المجلس الوطني السوري» (2 تشرين أول 2011) و «الائتلاف الوطني السوري» (11 تشرين ثاني 2012)، ترجمة لتلك الوقائع الاقليمية - الدولية وليس تعبيراً عن وقائع تعطيها هذا الحجم على الأرض السورية. منذ البدء، كان هناك حذر أميركي من تلك الهيمنة الإخوانية، ربما بسبب خصوصية الوضع السوري: قبيل ثلاثة أيام من تشكيل «المجلس الوطني» في إسطنبول، أتى السفير الأميركي روبرت فورد إلى مكتب المنسق العام لـ «هيئة التنسيق» بدمشق، حسن عبد العظيم، طالباً مشاركة الهيئة في المحادثات التي كانت بدأت للتو عند البوسفور من «أجل تخفيف الطابع الإسلامي للكيان السياسي السوري الجديد المعارض»، وهو ما كانت قد سبقته محاولة فاشلة برعاية قطرية في الدوحة في بداية شهر أيلول لتشكيل كيان، سمي أيضاً الائتلاف، شارك في تشكيل جنينه كل من (الهيئة) و(الاخوان) و(اعلان دمشق)، قبل أن يموت الجنين نتيجة رفض الأخيرين طلب الهيئة بتضمين النص «رفض التدخل العسكري الخارجي» و «رفض العنف». هذه المحاولة لتفادي أو تخفيف الهيمنة الإخوانية على «المجلس»، الناتجة عن عامل تركي- قطري، حاولها روبرت فورد من جديد عام 2012 مع تشكيل «الائتلاف» وفشلت. في خريف 2012، كان هناك في خلفية تفكير مسؤول الملف السوري في الإدارة الأميركية، السفير فورد، حادثة مقتل السفير الأميركي في بنغازي، التي أظهرت حصاداً للمتغيرات العربية لم تكن تتوقعه واشنطن لما وضعت البذار مع تدخل الناتو في ليبيا في آذار2011 قبيل عام ونصف من حادثة بنغازي، وكان هناك غيوم الفشل الإخواني التي بدأت بالتجمع في أجواء القاهرة وتونس. أضف إلى هذا وذاك، في التفكير الأميركي، واقع الاتفاق الأميركي-الروسي الذي بدأت ملامحه في (بيان جنيف) الصادر في 30 حزيران 2012 وحاجة الولايات المتحدة إلى جسم تفاوضي سوري معارض رأت واشنطن بأن «المجلس»لا يستطيع إنتاجه، ما جعلها تفكر في إنشاء «الائتلاف». خلال ستة أشهر مضت من عمر «الائتلاف»، كان هناك عرقلة إخوانية للجهد الأميركي، الذي كانت مبادرة الشيخ معاذ الخطيب بمثابة جس نبض وميزان حرارة لقياس استعداد «الائتلاف» للتسوية أكثر منها مبادرة موجهة للسلطة، وهذا ما أنشأ هوة أميركية - إخوانية كان يسدها سابقاً الجسر التركي-القطري، الأمر الذي، على ما يبدو، لم يعد قائماً أو فعالاً في عام 2013، وينذر بانقلاب الطاولة فوق رأس الجماعة، التي في ظل اصطدام تجربتها المصرية بالحائط وفي ظل تباعد الخليج (ما عدا قطر)عن الاخوان، فإن الأجواء أمامها لا توحي بإمكانية تكرار تجربة مرسي والغنوشي في دمشق. * كاتب سوري
|