السبت ٢٣ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: نيسان ٢٨, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
مرّة أخرى: مَن قتل شكري بلعيد؟ - محمد الحداد
في تقريرها الأخير حول حقوق الإنسان في العالم، عبّرت الخارجية الأميركية عن تخوفات جدّية من انحرافات «الربيع العربي» وعودة الاستبداد والقمع في كثير من البلدان التي شهدت أو تشهد انتفاضات شعبية. لكنها استثنت نسبياً التجربة التونسية من هذا التشخيص الذي يغلب عليه التشاؤم إذا قارنّاه بتقرير الخارجية الصادر في السنة الماضية، وأقرّت بوجود إنجازات ديموقراطية مشجعة في البلد الذي شهد انطلاقة الثورات العربية.

والواقع أن تونس تستعدّ لختم المرحلة الانتقالية الثانية التي بدأت مع انتخابات 23 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 وأسفرت عن ائتلاف حكومي يضمّ حزب «النهضة» الإخواني وحزبين «علمانيين» (مع أن هذه التسميّة غير معتمدة لدى التونسيين). إذ سيعلن مشروع الدستور قريباً وستجرى الانتخابات التشريعية والرئاسية نهاية السنة، هذا على الأقلّ ما تم الإعلان عنه رسمياً، على رغم أننا نرجّح أن المواعيد المعلنة ستشهد بعض التأخير. وكان من حسن حظّ تونس أن الحركة «الإخوانية» فيها لا تتمتع بقوة «الإخوان» ذاتها في مصر، لذلك كانت أكثر مرونة في تعاملها مع الشأن السياسي، وفي ترتيب علاقاتها مع القوى الحزبية الأخرى.

وعلى عكس ما دأبت قناة «الجزيرة» على نشره لدى الرأي العام العربي، فإن وجود ائتلاف حكومي يضمّ ثلاثة أحزاب لم يكن منّة من حزب «النهضة» على الآخرين، بل كان نتيجة طبيعية لما انتهت إليه صناديق الاقتراع، إذ لم يحصل حزب «النهضة» على غالبية الخمسين في المئة بزيادة واحد لينفرد بتشكيل الحكومة، فكان لا بدّ من التحالف بين أحزاب على أساس المواقف السياسية لا على أساس الأيديولوجيا والعقائد. ولا وجود في المجلس التأسيسي التونسي لتيارات سلفية، فهي لم تشارك في انتخابات 2011 على رغم أنها موجودة على أرض الواقع، فلم تكن النتيجة الانتخابية في تونس قابلة بأي شكل لفتح مسار شبيه بما حصل في مصر. ثم إن التحالف بين «الإسلاميين» و «العلمانيين» في تونس ليس بالأمر الجديد، فقد شكلت المعارضة منذ 2005 جبهة موحّدة ضمت الطرفين، وأصدرت هذه الجبهة لوائح تضمنت التزامات سياسية واجتماعية مفصّلة. وتتميّز تونس بوجود مجتمع مدني قويّ وحضور مهمّ للمرأة في المجتمع والاقتصاد، وكل هذه العوامل ساعد على إيجاد توازنات بين التيارات المختلفة، بما يمنع أيّاً منها من التغوّل المطلق على حساب الآخر أو إقصائه.

وقَبِل حزب «النهضة» بتحييد وزارات السيادة (الداخلية، العدل، الخارجية، الدفاع)، أي أن يشرف عليها وزراء محايدون وغير منتمين إلى الأحزاب، وذلك بعد صدمة اغتيال المعارض البارز شكري بلعيد في 6 شباط (فبراير) 2013. وساهم هذا الإجراء في تحسّن الأوضاع الأمنية وعودة الأمل إلى نفوس التونسيين، وساهمت هذه الصدمة أيضاً في تراجع صقور حركة «النهضة»، وتقليص تدخّل الحركة في أعمال الحكومة، والحدّ من نفوذ السيد راشد الغنوشي. فعملية الاغتيال كانت، من الناحية السياسية، صدمة إيجابية للبلاد. ولن يكون مقبولاً أخلاقياً أن يُنسى شكري بلعيد بعد ذلك، وتبقى عملية اغتياله مجهولة المصدر، ولا يحاكم القتلة، بخاصة عدم محاكمة الجهة التي خطّطت للاغتيال ودفعت إليه. وكلّ المؤشرات يؤكّد اليوم أن منفذي الاغتيال ينتمون إلى ما يدعى الأوساط الإسلامية. فوزير الداخلية (الذي أصبح رئيس الوزراء حالياً) هو الذي اتهم متشددين دينيين بالاغتيال، ووزارة الداخلية نشرت أخيراً صُوَر المطلوبين وأسماءهم، وهم معرفون بالانتماء إلى تلك الأوساط.

وبصرف النظر عن المنفذين، وهم مجرّد أدوات للجريمة، فالسؤال الأهمّ يتعلق بالجهة المدبّرة. ويبرز هنا افتراضان متنافسان، أولهما يقول إن بعض رجال الأعمال كوّنوا شبكة للقيام بأعمال تخريبية تعطّل العمل الحكومي وتؤجج العنف في البلد، وأحد هؤلاء ألقي القبض عليه قبل اغتيال بلعيد وعثر في حوزته على كميات مهمة من الأسلحة. والافتراض الثاني يقول إن بعض التنظيمات «الأمنية» القريبة من «النهضة» هي التي خططت عملية الاغتيال ووجّهتها، بعلم أو بغير علم من القيادة، للتخلص من المعارض الذي كان الأكثر شراسة في معارضة «النهضة»، وكان يقلقها جديّاً لأنه محامٍ تولّى الدفاع عن الإسلاميين في العهد السابق ويعرف كثيراً عنهم، ولأنه كان يتمتع بمواهب خطابية تجعله قادراً على اختراق الطبقات الشعبية.

ومثلما لا يمكن الانتخابات المقبلة أن تحصل من دون دستور وقانون انتخابي، لا يمكن أن تُجرى في ظروف سليمة من دون كشف كل الحقائق عن فاجعة اغتيال بلعيد. فالقضية تتجاوز المستوى الأخلاقي لأنها ذات وقع على المسار الانتخابي ذاته. فلا أحد يضمن ألا تحصل اغتيالات أخرى، أو أن يطفو العنف مجدّداً على السطح بعدما تراجع بسبب تلك الصدمة. ويمكن أن نتصوّر أن الجهات التي خططت لتلك الجريمة اختفت موقتاً، ريثما تمرّ العاصفة وتسنح لها فرص أخرى بالعودة.

هناك طريقة واحدة لحسم المسألة، هي كشف الحقيقة، وأن لا تضاف حادثة الاغتيال إلى حوادث أخرى كثيرة ظلت مخفية: خلفية فرار زين العابدين بن علي من تونس، هوية «القناصة»، مصير الأرشيف السياسي، قتلة الشهداء، أحداث 9 نيسان (أبريل) 2012، الاعتداءات المتكررة على المنظمة النقابية، إلخ. إنّ قضية بلعيد قضية استثنائية في بلد غير متعوّد على الاغتيال السياسي، وإذا لم تكشف ألغازها قريباً ستتحوّل حتماً إلى عبء ثقيل على المسار الانتقالي كله، وقد تتحوّل إلى قضية مدوّلة، كما يهدّد بذلك محامو الفقيد وأسرته. وبمقدار ما تتأخّر الحقيقة تتعقّد القضية وتزداد تشعباً وقد تنفلت خيوط التحكم بها من أيدي الجميع.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
احتجاجات ليلية قرب العاصمة التونسية ضد انتهاكات الشرطة
البرلمان التونسي يسائل 6 وزراء من حكومة المشيشي
البرلمان التونسي يسائل الحكومة وينتقد «ضعف أدائها»
الولايات المتحدة تؤكد «دعمها القوي» لتونس وحزب معارض يدعو الحكومة إلى الاستقالة
«النهضة» تؤيد مبادرة «اتحاد الشغل» لحل الأزمة في تونس
مقالات ذات صلة
أحزاب تونسية تهدد بالنزول إلى الشارع لحل الخلافات السياسية
لماذا تونس... رغم كلّ شيء؟ - حازم صاغية
محكمة المحاسبات التونسية والتمويل الأجنبي للأحزاب...
"الديموقراطية الناشئة" تحتاج نفساً جديداً... هل خرجت "ثورة" تونس عن أهدافها؟
حركة آكال... الحزب الأمازيغيّ الأوّل في تونس
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة