يصعب كثيراً حصر أعداد السوريين، ذكوراً وإناثاً، الذين اعتقلتهم أجهزة الاستخبارات، وأدخلتهم غياهب معتقلات النظام الأسدي، بنسختيه، الأب والإبن، حيث عجزت جميع منظمات حقوق الإنسان، السورية والدولية، عن تقديم إحصاء دقيق لعدد المعتقلين، خصوصاً خلال ثمانينيات القرن الماضي، أو منذ اندلاع الثورة السورية وإلى يومنا هذا.
وهناك من يعتبر أن أكثر من 200 ألف سوري اعتقل منذ بداية ثورة الخامس عشر من آذار/مارس 2011، إلى اليوم، فيما يعتبر آخرون أن العدد أكبر، وآخرون غيرهم يعتبرون العدد أقل. والأمر يزداد صعوبة بالنظر إلى أن أجهزة النظام السوري المتعددة، التي يصعب حصرها، تخفي على الدوام أعداد المعتقلين لديها، بل وتعتقل الناس، وتختطفهم من كل مكان تصل إليه، ثم تنكر وجودهم لديها، والأمثلة على ذلك كثيرة ولا حصر لها.
وقد يكون محظوظاً من يعتقل لفترة من الزمن، ثم يطلق سراحه، كمن يولد من جديد، لأن آلاف المفقودين في سوريا، جرت عمليات تصفيتهم وقتلهم على يد أجهزة الأمن والشبيحة. بل ويتدخل في معظم الأحيان أصحاب القرار، وعلى أعلى المستويات، من أجل تصفية ناشطين. في حين أنه لم يسبق، وأن تدخل أحدهم، من أجل إطلاق سراح أي معتقل، حتى لو كان من أقربائه وطائفته. وهناك قصص كثيرة تروى في هذا المجال، وتتحدث عن أن عدداً من المعتقلين جرت عمليات تصفيتهم أو تعذيبهم حتى الموت، لأن أحداً ما تدخل من أجل إطلاق سراحهم.
والمعروف عن المعتقل في سوريا أنه بات المكان المخصص لمعاقبة أصحاب الرأي السياسي المعارض، خصوصاً في ظل حكم العائلة الأسدية، وصار تعبير "سجناء الرأي" مفهوماً سورياً بامتياز، يحاكي مفهوم "الأسير"، لكنه تحول إلى مفهوم مركب، متأقلماً في صيغ متعددة، مثل "معتقلي الضمير"، و"معتقلي الفكر"، و"معتقلي الكلمة"، ويمكن أن نضمّن مركباته كل من يسجن بسبب "جريمة رأي"، أي بسبب اختلافه بالرأي مع ما يقوله لسان حال الحاكم الأسدي، وما تردده أبواقه وأجهزته.
ويمكن القول أن تجربة الاعتقال ليست غريبة على الإنسان السوري، بالمعنى العام، حيث شكل الخوف من الاعتقال كابوساً، جثم على صدور السوريين، وسكن الذاكرة السورية طوال أكثر من أربعة عقود خلت. وكثير من قصصنا ورواياتنا وأشعارنا وأفلامنا السينمائية ومسلسلاتنا التلفزيونية تتحدث عن المعتقلات والزنازين، الفردية والجماعية، بل إن عدداً من الباحثين أطلقوا على سوريا في ثمانينيات القرن العشرين المنصرم وصف المعتقل الكبير، لكن الوصف صار سمة في جمهورية الخوف الأسدية. وشاع أدب المعتقلات والسجون السياسية في الثقافة السورية، حيث يمكن أن نذكر قائمة طويلة من الكتاب والأدباء، الذين كتبوا عن الاعتقال والسجن السياسي، من أمثال مصطفى خليفة وياسين الحاج صالح وفرج بيرقدار وروزا ياسين حسن وسواهم.
ومن يقرأ كتابات وشهادات المعتقلين السوريين، يعثر على مشاهد سوداء مرعبة ومركبة، مسكونة بالقمع والقهر، ومليئة بالخوف والرعب والتعذيب الجسدي والنفسي، حيث تنتشر عتمات أقبية معتقلات أجهزة الأمن السورية، وتفوح منها روائح عفونة وموت. لكنها، مهما بلغت من القوة، لن تتمكن من وصف حقيقة ما عاناه المعتقلون والمعتقلات، ولن تستطيع أن تظهر إلى العلن إلا النذر اليسير مما جرى، ويجري، في سراديب الجلاّدين، وأقبية القمع والقهر، من إذلال وتعذيب ووحشية، وأن تفضح، ما استطاعت، الجرائم الواقعة على كرامة الإنسان وحقوقه.
ولا شك في أن أعداد معتقلي الثورة السورية بلغت أرقاماً قياسية، لكن الخطير هو أن المعتقل تحول في حسابات النظام الأسدي إلى مجرد رقم إضافي في التعداد السكاني لسوريا، وإلى كائن مستباح، تسلب منه الحقوق، داخل المعتقل، بل وليس مؤكداً خروجه منه، حتى وإن لم تثبت ضده أية تهمة كانت. وإن حالفه الحظ وخرج من المعتقل، فقد يصاب بإعاقة دائمة، أو تسلب منه البسمة مدى الحياة.
في النظام الأسدي أصبحت المعتقلات مكاناً لتكديس الأجساد، وأي مكان في سوريا يمكن أن يتحول إلى معتقل، في المطارات وفي المدارس والمستشفيات والملاعب، حتى بات الاعتقال في عرف النظام وحساباته، ليس وظيفة وحسب، بل بوصفه قوام نظام قمع وقهر وإذلال، وبمثابة كابوس يحوم من حين إلى آخر فوق كل رأس. وإن كانت الفلسفة قد أكدت على حرمة الجسد البشري، حين اعتبرت احترامه معياراً لوحدة البشر حول القيم الإنسانية المشتركة، إلا أن ما يحصل في المعتقلات السورية يضرب تلك الحرمة عرض الحائط، من خلال ممارسات تؤكد السيطرة الجسدية لرجل الأمن / السجان. ذلك أن الاعتقال، في أساسه، تقييد لحرية حركة الجسد في حيّز صغير، قد لا يتجاوز المتر المربع الواحد في الزنازين المنفردة، وتحكمه مختلف أصناف قوانين وممارسات العقاب والمراقبة. أما الأجساد المقيدة، فهي أجساد مستباحة، موضوعة في الأقفاص والزنازين، حيث يكمن المعنى، الذي تدّل عليه مشهدية الأجساد المكبلة والمهانة، في خصوصية التعذيب الجسدي، الذي يولّد نوعاً من لذة السجان بالاستمتاع في التسبب بالألم لجسد الآخر، وهي خصوصية تتجسّد في كراهية الجسد والحقد عليه، وتكشف مركب نقص تعويضياً عن عمليات التحقير والإهانة والإذلال.
وإن كان الاعتقال السياسي عملاً مادياً، فهو يمتلك ركناً رمزياً ومعنوياً أيضاً، وسبباً له صلة بين الركنين. ويرتبط تحديد المذاهب المختلفة حوله بالغاية السياسية المرجوّة منه، إلا أن النظر في مسألة الاعتقال السياسي يمتد ليطاول قضية رفض المختلف كممارسة وسلوك، تهيئ له، وتؤسس له - فكرياً - مدارس مختلفة ومتعددة الاتجاهات.
ويشير استمرار نهج الاعتقال السياسي إلى انحطاط السياسة، وسقوط العقل في وحل معياريته، بوصفه الجزء المسبب للخراب والدمار. وهو نهج لا يضرب شخصاً بعينه فقط، بل نسيجاً اجتماعياً بأكمله، وطموحات شباب وآمال وأحلام ناس كثر في هذا الزمن السوري، الذي يشهد نهاية أعتى نظام ديكتاتوري في تاريخه.
ومع التوغل في القمع والقتل، تحول النظام الأسدي إلى مجرد جهاز قوة وقهر، لا يتوانى عن استخدام القوة ضد كل من تطاله أجهزته، بعد أن أنتج صنوفاً من الاستبداد والقمع غير مسبوقة، وتنازعته مختلف النعرات والتحزبات والانتماءات الضيقة والماقبل مدنية. إنه النظام المشغول بإنتاج الفساد والخراب والهزائم والانكسارات، ويتمسك فيه الحيّ بتلابيب الميت.
ويعبّر الاعتقال السياسي عن نهج الانتهاك والعنف، حيث يترك الأمر لممارسات مجموعة من أجهزة الاستخبارات وجلادي السجون. وهي ممارسات تؤكد السيطرة الجسدية للسلطة. ولن تنفع قيم حقوق الإنسان والكرامة وكل القيم الإنسانية في منع السجّانين من ممارساتهم اللاإنسانية، ومن سطوة هاجس السيطرة على الآخر. فالسجان في سجون آل الأسد يمارس سلطة مطلقة على السجين بوصفه جسداً قابلاً للانتهاك، وبالتالي فهو يملك حق السيطرة واضطهاد الآخرين، وينشأ عن ذلك إحساسه في امتلاك الحق في التعذيب والتمثيل بأجساد الآخرين.
إن صور الرجال في زنازين المعتقلات، خلف القضبان والأبواب المصفحة، المحكمة الإغلاق، تُرجع إلى الذاكرة صور جميع معسكرات الاعتقال والإبادة التي شيّدها الطغاة في العالم الحديث، وربما لن يكفي تفسير مثل هذه المشاهد القول بانفصال الإرادة عن العقل، وتحول الأخير إلى مجرد أداة، بل يجب البحث عن محتوى يتسع لكلّ هذا الكمّ المرعب من العنف الجسدي. لكن الأمر المحيّر هو في خصوصية التعذيب الجسدي في السجون الأسدية، الذي يولّد نوعاً من لذة الاستمتاع في التسبب في الألم لجسد الآخر، وهي خصوصية تتجسّد في كراهية الجسد والحقد عليه، وتكشف مركب نقص تعويضي عن عمليات التحقير والإهانة والإذلال.
ومازلت أذكر في إحدى ليالي الاعتقال، حين استدعي أحد المعتقلين من الزنزانة، وغاب حوالي الساعتين.... ساورنا القلق، وساد صمت ثقيل، وبعد انتظار سمعنا وقع خطى السجانين، وكانوا يسحبون جسده، فيما كانت تتعالى أصواتهم بالسباب والشتائم، ثم رموه على باب الزنزانة. لم يكن يقوى على الحراك، سحبناه إلى داخل الزنزانة. رأينا جسداً مدمى، ترتجف أطرافه، ولا يقوى على الجلوس. أبقيناه مستلقياً، ومسحنا بما توفر لدينا من قطع قماش دماءه. وبعد أكثر من ساعتين استرجع قواه قليلاً، لكنه لم يستطع الجلوس، وساعدناه كي يسند ظهره إلى حائط الزنزانة، ثم توجه بالكلام نحوي: "... باعتبارك كاتباً، أرجو أن تتذكر ما أقوله جيداً. اسمي أ. ع. المسالمة. إذا رح تسمع باسمي مرة ثانية، فتأكد أنني استشهدت.. لن أترك هؤلاء المجرمين يعتقلوني مرة أخرى. الموت أرحم بكثير". |