استطالت الأزمة في سوريا لأكثر من سنتين، دون بروز أيّ أفقٍ
لتسوية، مع استمرار المعارك مؤدية إلى مزيدٍ من القتل والتدمير. وفي ظلّ الظروف الحالية، تبرز ثلاثة
سيناريوات ممكنة للفترة المقبلة: امتداد الصراع إلى الدول المجاورة، أو استمرار النزاع محصوراً في
سوريا، أو التسوية السياسية.
توضح هذه السيناريوات الثلاثة أنّ الأزمة
السوريّة أضحت بحكم الواقع أزمة إقليميّة، بل دوليّة، ينخرط فيها لاعبون غير سوريّين بشكلٍ رئيس لمصلحة
هذا الطرف أو ذاك، بل يصنعون القرارات والتوجّهات.
سيناريو امتداد الصراع
السوري إلى الجوار يطرح إشكاليّة داخليّة أساسيّة - هل الصراع في سوريا اليوم ما زال صراعاً بين شعب
ثائر يطالب بالحريّة والكرامة ونظّامٍ قاتل، أم أنّه أخذ في معظمه بُعد صراعٍ أكثريّة سنيّة ضد أقليّة
علويّة/شيعيّة؟ - وكذلك تفاعل هذه الإشكاليّة مع إشكاليّات تتعلّق بالتطوّرات الخاصّة بدول الجوار،
خاصّة لجهة العراق - هل يمكن للتجاذب بين الدولة المركزيّة والأقاليم أن يتفاقم وينفجر حرباً، مع
استقلالٍ شبه ناجز لكردستان العراق، ومع "انتفاضة" المناطق ذات الغالبية السنيّة على الدولة المركزيّة؟
ولبنان - هل ستتمكّن الجهود الدوليّة من تثبيت الاستقرار السياسي والأمني في البلد، مع الاستحقاقات
الانتخابيّة المقبلة وانفجار الوضع الأمني في المناطق المحاذية للحدود مع
سوريا؟
في المقابل يعني سيناريو بقاء النزاع السوريّ محصوراً داخل سوريا، أنّ
القوى الإقليميّة والدوليّة تستطيع في الوقت ذاته تفادي التفجير في الدول المجاورة، وأنّه يمكن أن
يستمرّ كلّ طرف إقليمي/دولي بدعم - خاصّة لناحية السلاح والتمويل - مناصريه المحليّين في القتال، بحيث
لا يحدث تفوّق يمكّن من حسم المعركة. هذا ما عاشه لبنان خلال سنوات الحرب الأهليّة الطويلة، حتّى استنفد
قواه الاجتماعيّة، وحتّى قرّر الخارج توازنات جديدة. إلاّ أنّ حدوث هذا السيناريو في سوريا يتعلّق أيضاً
بإمكانات الجغرافيا الاجتماعيّة لناحية ترسّخ خطّ فاصل بين الطرفين، تبدو ملامحه في الشمال، في حين تبقى
معالمه في الجنوب متعلّقة بالتطوّرات الحالية لمعركة حوران
ودمشق.
أخيراً تبتعد عناصر الحلّ السياسي فأكثر فأكثر، خاصّة بعد الدفع
القسريّ من أطراف إقليميّة - قطر والولايات المتحدة - لتسمية رئيس حكومة مؤقتة، يُخرج حتّى "ائتلاف قوى
الثورة والمعارضة السوريّة"، الملتبس في تركيبته، من اللعبة السياسية (مع الذهاب نحو الحلّ الليبي بصيغة
مختلفة قليلاً عن "المجلس الوطني" بعد فشل الأخير على صعيد الداخل السوري). ومن الواضح أنّ هدف هذه
التسمية كان تهميش دور المبعوث الأممي، الأخضر الإبرهيمي، وإبعاد إمكانات الحلّ السياسي التي يحرص عليها
رئيس الائتلاف، الأستاذ معاذ الخطيب، المستقيل وغير المستقيل، والذهاب نحو الحسم العسكري. وفي حين
تُبرّر الدول التي تجاهد لرفع الحظر عن توريد السلاح إلى المعارضة - أي فرنسا وبريطانيا - موقفها أنّه
سيدفع النظام السوري إلى التفاوض بعد هزيمة قوّاته في دمشق، مثل ما حصل في حلب؛ تتردّد هي نفسها في
توصيف مَن سيتفاوض مع مَن في هذه الظروف، إن حصلت؟
منذ بداية الانتفاضة
السوريّة، عمل النظام السوري كما مناهضوه الإقليميّون والدوليّون، على سيناريو رابع مختلف هو الحسم
العسكريّ، كلّ لمصلحته. لكنّ بشاّر الأسد وأركان حكمه فشلوا في كلّ مرحلة من تطوّر النزاع في خلق فرصة
لوضع أسس تسوية سياسيّة واجتماعيّة - تسوية تاريخيّة كما يسمّيها البعض - تنزع فتيل الأزمة؛ واختار
التصعيد. أمّا القوى التي تناهضه، والتي تشكّل قطر وفرنسا وتركيا رأس حربتها - وإن كانت الولايات
المتحدة من ورائهم، حتّى دون دور ظاهر في المقدّمة - فقد استقوت بنجاحها عسكرياً في ليبيا، وكذلك
انتخابياً في مصر وتونس، وهي بدورها قبلت في كلّ مرحلة رهان التصعيد، بل ذهبت لتُفشل جهود التسوية
السياسية. مثال ذلك انخراط الرئيس الفرنسيّ فرنسوا هولاند في تقويض جهود توحيد المعارضة بعد المؤتمر
الذي رسّخ عهداً وطنيّاً لسوريا المستقبل ومنظوراً مشتركاً للمرحلة الانتقالية في القاهرة في تموز 2012.
حينها أحيا الرئيس الفرنسيّ "المجلس الوطني" بعد أن كان قد سقط شعبيّاً، ومنحه خطابياً الريادة، وذلك
قبل أسابيع قليلة من إنشاء الائتلاف، "الممثل الشرعي" الآخر الذي حلّ محلّه، ووضعه خارج
الأضواء.
في الحقيقة، كلٌّ من السيناريوات المحتملة يحمل طابعاً
سياسياً. ولكنّه يطرح بشكلٍ مختلف الأسس السياسية والعمليّة للمرحلة الانتقالية. فإن كان الخروج من
الأزمة السورية هو تسوية؟ على أيّة قاعدة يمكن ترسيخها؟ ومن يتفاوض عليها من كلا
الطرفين؟
واضحٌ أنّ هذه التسوية تتضمّن في البداية وقفاً للنار، ممّا
يعني أنّها ستكون من ناحية مع الجيش النظامي كمؤسّسة، ومن الناحية الأخرى مع "الجيش الحرّ" أو المجالس
العسكريّة، بعد أن تتنظّم تراتبياً. هذا الأمر ليس فقط مهماً للتفاوض على وقف النار لفترة، بل أيضاً
وأساساً لحفظ الأمن والاحتكام للسياسة في ما بعد. وهو يفترض أنّ على القوّتين العسكريّتين أن تُخضِعا
لإرادة موحّدة المسلّحين الذين في طرفها كافّة، وأن تتلاقيا حول قواسم
مشتركة.
لكن خاصّة بعد أن أضحى "الصراع" مسلّحاً بشكلٍ أساسيّ، تبدو هذه
التسوية العمليّة صعبة المنال.
فمن جهة، تمّ من طرف السلطة إنشاء
ميليشيات كان لها الدور الأكبر في تأجيج الأزمة، وهي صعبة الإخضاع لتراتبية القوّات المسلّحة؛ ومن جهة
أخرى، تمّ منع الضباط المنشقّين من لعب دور رئيس في هيكليّة الجيش الحرّ والقوّات المقاتلة على الأرض،
بحكم آليّات التمويل والتسليح للدول المتنافسة على مستقبل سوريا؛ مثلاً بين قطر والسعودية وتركيا وفرنسا
والولايات المتحدة، التي يدفع كلّ منها تنظيمات بعينها، تتنافس على السيطرة على الأرض ولا تتوافق مع
بعضها سوى عندما تهاجم القوّات الموالية للسلطة. بالتالي هناك تباينات إيديولوجيّة كبيرة داخل قوى
"الجيش الحرّ"، بين من يقترب في فكره من فكر الجيش النظامي - الضباط المنشقين خصوصاً - وبين كتائب "جبهة
النصرة" وغيرها من التي تتبنّى إسلاماً سياسياً.
ومن هنا تأتي صعوبة
إيجاد توافق حول أسس تشكّل قاعدة للحلّ العملاني، بل أيضاً للحلّ السياسيّ. في حين كان يُمكن هذا
التوافق أن يكون "العهد الوطني" الذي تمّ التوافق عليها بين أطياف المعارضة كافة الصيف الماضي والذي
يرسّخ أسس دولة مساواة في المواطنة. إلاّ أنّ أهمّ نتائج تشكيل الائتلاف كان بالضبط التخلّي عنه،
والبقاء في الهواء دون أسس لتسوية السياسية. هذه الإشكاليّة ذاتها سيتمّ طرحها مع الحكومة
المؤقتة العتيدة - التي تخالف للمناسبة المبادئ التوافقيّة حول المرحلة الانتقالية لمؤتمر القاهرة، ولا
يُمكن وصفها إذا ما اعترف بها دوليّاً أو على جزء من الأرض "المحرّرة" إلاّ بأنّها "أمر واقع" - وفي حال
الانتصار العسكري. فعلى أيّة أسس حكم إذاً سيتمّ الشروع في المرحلة الانتقالية؟ وكيف سيتمّ التعامل مع
ملفّات ضخمة مثل أمن المواطنين والوفاق الوطني والعدالة الانتقالية أو حتّى نهج إعادة الإعمار وتشغيل
الاقتصاد؟
كان واضحاً منذ تشكيل "المجلس الوطني"، أنّ من وراءه يريدون
استبدال دولة بدولة - "كانت الولايات المتحدة قد أعطت سوريا لإيران، وهي اليوم ستعطينا إيّاها"، كما
قالها وزير خارجيّة تركي - وليس فقط رحيل سلطة مستبدّة قتلت متظاهرين سلميين، في حين كانت هذه السلطة
أصلاً قابعة فوق هياكل الدولة السوريّة وتُضعِف آليّاتها، خاصّة الاجتماعية. وقد ترافق دفع تيارات
"الإسلام السياسي" للهيمنة على هذا المجلس مع تأجيج الخطاب ضدّ الجيش النظامي، على أنّه "جيش عقائدي"،
بتعبيرٍ ملتبس يعني ضمنيّاً للكثيرين أنّه جيش طائفيّ أو علويّ؛ وكذلك مع هيمنة شعار "إسقاط النظام بكلّ
رموزه وأركانه"، دون إيضاح ما المعنيّ بذلك. بالتالي فقدت ما باتت تسمّيها وسائل الإعلام الخليجيّة
"المعارضة السوريّة" أيّة إمكانيّة لتحييد الجيش عن الصراع في مرحلةٍ ما، ووضعت هذا الجيش ضدّها - حتّى
النهاية؟ - خاصّة أنها قبلت التبعيّة الكاملة لقوى خارجيّة. هكذا سيكون أساس أيّ سيناريو مستقبليّ هو
بالضبط ما سيؤول إليه هذا الجيش "النظامي" بعد معركة حوران ودمشق، بمعزلٍ عن - وبالرغم من - تركيبته
الاجتماعية. وهنا يُمكن بسهولة إسقاط سيناريو العراق ما بعد الغزو الاميركي على الوضع في سوريا بعد
الحسم.
لكنّ ما يفتح احتمالات جديدة في الأزمة السوريّة هي تطوّرات
الأمور في مصر، حيث يبدو أن المواجهة تحتدم بين غالبية المجتمع و"الإخوان المسلمين"؛ وهذا بعد ثورة
سريعة وسلميّة، وبعد حصول "الإخوان" ديموقراطياً على الغالبيّة في البرلمان وعلى رئاسة الجمهوريّة. إذ
كما في مصر، يعتبر كثير من الثوّار في سوريا أنّ أصحاب "الإسلام السياسي" يسرقون ثورتهم؛ كما بدأت حتّى
بعض الدول الخليجيّة تنظر بعين ريبة إلى عالم عربي تحكمه دولة قطر عبر تنظيمات الإسلام السياسي هذه.
ممّا يفسّر ربّما التدافع السياسي والعسكري اليوم لاستباق هذه الاحتمالات.
من
الواضح إذاً أنّ أسس الأمن الإقليمي السابق قد رحلت مع آثار "التسونامي الشبابي" الذي أتى بـ"الربيع
العربي"، وأنّ هناك بفعل ذلك إعادة صوغ "للعقود الاجتماعيّة" التي تشكّل ركيزة الدول القائمة، خاصّة في
دولة محوريّة كسوريا، لم يفهم قادتها حجم التحوّلات الحاصلة ولم يستبقوها، وأنّ هناك اندفاعاً من بعض
القوى الإقليميّة والدوليّة - يمكن تأريخه من منتصف أيّام الثورة المصريّة - لاستغلال الفرصة لتوجيه
المسار لمصلحة نفوذها، وأنّ القوى التي ستخسر نفوذها لن تترك الأمور تمرّ على خير، كما هو الأمر في
العراق منذ عشر سنوات. وها أنّ سوريا قد عادت - كما كان الأمر في الخمسينات - إلى مرحلة الصراع عليها.
رئيس تحرير "لوموند ديبلوماتيك" - النشرة العربية وعضو المنبر الديموقراطي السوري
▪ نص قدم في ندوة
"مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية" في الجيش اللبناني.
|