بعيداً من التسميات وأضدادها، وإن كان ما جرى ويجري في العالم العربي ربيعاً أم خريفاً، فإن من الصعب إغفال أو غض الطرف عما يجري من تحولات بنيوية في النفسية العميقة للإنسان العربي، وهي تحولات تفيض برغبة شديدة للانعتاق من أسر القوالب القديمة الجامدة التي تكبّل الحريات، وتتنكر للحقوق الأساسية للإنسان، رجلاً كان أم امرأة. ثمة تململ يجري تحت السطح، قد لا يكون عنوانه الصارخ الرغبة في إطاحة الأنظمة السياسية، أو تقويض الدول، وإنما الطموح والسعي إلى التغيير، والانتقال إلى مرحلة توفر الأجواء للالتحام بالروح الكونية للعالم. ورغم أن ما هو بائن على السطح رأس جبل الجليد الذي يخفي تحته معماراً عملاقاً ثاوياً في المياه العميقة للمحيط العاجّ بالأسئلة، والضاجّ بالهواجس، والمخصّب بالمخاوف، إلا أن استشراف الحالة لا يزال أسير المعالجة القديمة، وهي في مجملها معالجة ردعيّة سلاحها الأمن بمعناه البوليسي، أو الوعظ بمعناه الفقهي، أو التخدير الاجتماعي بذريعة الحفاظ على السلم الأهلي، والعمران ومظاهر التمدن والحضارة المادية. هذا «الحراك» يحقق نجاحات، ولو طفيفة، وغير ملموسة، أو ينتزع حقوقاً كانت قبل عامين من المحظورات. ومقدّر لهذا الحراك أن يواصل تقدمه على جبهة الحقوق الأساسية للإنسان، وفي مقدمها حرية التعبير والرأي والفكر والاعتقاد، وحرية الزي للمرأة والتنقل والقيادة وتقرير المصير الشخصي، والمشاركة الفاعلة في المجتمع. وفي ظني أن حرية المرأة المؤشر الأبرز في عملية التحول المقبلة. ويساعد على توقع التغيير في هذه الأقانيم، الحركيةُ الدائبة للتحولات التكنولوجية ووسائل الاتصال وانفجارات الميديا التي تساقطت معها كل جدران الحماية والعزل والحظر، وأضحى الرقيب العربي أشبه بدونكيشوت الذي يحارب، بسيفه الخشبي المثخن بالثقوب، طواحين الهواء. في غضون ذلك، لم تعد عقلية القلعة قادرة على ابتكار حلول ناجعة أو كابحة لحركة التململ الاجتماعي الذي يقودها الشباب ممن يشكلون عصب المجتمع العربي عدداً وآفاقاً، وهؤلاء في غالبيتهم مشتبكون مع فتــوحات الـــمعرفة الاتصالية المتعولمة، وينظرون بازدراء إلى المؤسسة الرسمية التي تقـــمع تطلــــعاتهم، ســواء في الـــعيش، أو في فرض خطة طريق تــــربوية، أو في منعهم من التـــــواصل الفـــعال والحثيث مع مفردات العالم الواسع المتــــرامي الذي حـــولته أجهزة الاتصال، وبخاصة المحمولة والذكية، إلى أضيق من غرفة. إزاء ذلك، لا يُستبعد أن تتجه العلاقة بين الطرفين: المواطن العربي الباحث عن هوائه الخاص، والسلطة المتغطرسة الغاطّة في أوهامها، إلى الاشتباك، وهو ما نلمسه في غير قطر عربي، وباندفاعة ملحوظة، لأن وعي بعض تلك السلطات للانفجار الذي يمكن أن يولّده الحراك الاجتماعي دفعها، عنوة، إلى تقديم تنازلات، حفاظاً على سلطتها، وشرعيتها، وإدامة هياكلها الرسمية، ونفوذها الشعبي. ويمكن أن يتخذ التململ وجهاً صدامياً، لأنه محمول على رفض للبنية البطريركية. ويمكن للاصطدام أن يكون عنيفاً ودامياً، كما نرى تعبيراته في الجامعات الأردنية، على سبيل المثال، حيث تتخلى الدولة والمجتمع عن وظيفتهما التاريخية، فيمسي تقرير المصير الفردي محكوماً ببنية قبَلية مغلقة هي الأخرى تبحث عن تجسيداتها المادية والمصالحية، وحماية كينونتها من التذرّر. والإيغال في الصدام، وتوفير الذرائع له، يعنيان إدخال المجتمعات العربية في أتون توترات لا نهاية لها. ولا يتعين، لو أن هناك عقلاً استراتيجياً جامعاً وناظماً، أن تصل الأمور إلى هذا الحد. ولكن السؤال يطرح: هل هذا العقل الاستراتيجي موجود، ويعمل، وهو يؤدي دوره بكفاءة، هل يبدع، ويخترق، ويتأمل، ويجترح الحلول الجديدة. بمعنى هل يتمتع هذا العقل بالدينامية التي لا تجعلنا نحبس أنفاسنا قلقاً على المستقبل، وتبدو آمالنا محضَ سراب. الصورة الراهنة في العالم العربي لا تبعث على الأمل، فالعقل القديم بأدواته الهرمة لا يزال يفرض حضوره الكثيف في مختلف الميادين والحقول المتصلة بفضاء الكائن العربي، ويستولي على كينونته وحركيته، وفي أغلب الأحيان يشلّهما، أو يكبحهما، فيعطلهما. الخشية من استمرار «فاعلية» هذا العقل الماضوي، والخشية أيضاً هو الوقوف في الحالة الانتظارية، وعدم المبادرة إلى جبه المشكلات، أو على الأقل تفاديها. وحينئذ، نكون، وفق تعبير نيتشه، كمن يعقد «تسوية مع العبودية». * كاتب وصحافي أردني
|