تبدو جماعة الإخوان فقيرة جداً في ملكة التخيل، ولذا لم تقدم للحياة على مدار تاريخها مفكراً بارعاً أو أديباً مبهراً، بل إنها دوماً كانت طاردة لأمثال هؤلاء، فهم إن التحقوا بها في شبابهم الغض معتقدين أنها لن تقف أمام طاقتهم الإبداعية وقدراتهم الفردية سرعان ما يهجرونها حين يجدون أنها جدار أصم يقف أمام خيالهم وإبداعهم ورغبتهم في أن يفكروا خارج القوالب الجاهزة والصناديق المغلقة التي كتب على جبهتها العليا: «السمع والطاعة». وهذا لا يعود إلى قصور عقلي بالقطع، إنما تقف خلفه جملة من الأسباب العلمية والفكرية والنفسية والتنظيمية، التي تراكمت بمرور الأيام، يمكن ذكرها على النحو التالي: 1- لا تنظير: فالجماعة تكره المنظرين والفلاسفة ومنتجي الأفكار المجردة، وترى أنهم يشكلون خطراً داهماً على «التنظيم»، الذي يجب أن يكون على وحدة في القول والفعل. ولهذا تكره الجماعة «العلوم الإنسانية»، أو لا تحتفي بها بالقدر الذي تمثله في حياة الناس، ويشعر الإخوان أن ما لديـهم من مقـررات ديـنيـة وتـربـويـة كاف لفـهم كل شـيء وكل إنـسان، وبالتالي لا حاجة لهم لأي علم أو منهج خارج المقرر. وقد يفسر هذا أمران، الأول: هو أن أغلب النخبة الإخوانية من دارسي العلوم التطبيقية أو العملية من أطباء ومهندسين وتقنيين أدائيين وليسوا مخترعين، وهؤلاء تجذبهم الجماعة إلى حقل السياسة فيتناسون بمرور الزمن تخصصهم الرئيسي أو لا يطلعون على الجديد فيه، ولذا لا نجد من بين الإخوان حالياً طبيباً كبيراً ولا مهندساً بارعاً، على العكس مما كان عليه الحال في الثلاثينات والأربعينات. أما الثاني فخروج المنظرين سريعاً من صفوف الجماعة، وقد كنت شاهداً على تجربة بعض كبار الباحثين في العلوم السياسية من ذوي الميول الإخوانية وكيف ذهبوا إلى الجماعة عارضين عليها أفكارهم، وراغبين في تطوير أفكارها، فما كان من التنظيميين إلا أن لفظوهم، ولم يلتفتوا إلى إنتاجهم، وحذروا الأتباع منهم. 2- لا تعددية: فعلى رغم تفاعل الإخوان، سلباً أو إيجاباً، مع الأفكار والتصورات الأخرى المتداولة في السوق الثقافية، فهم يتوهمون أن فكرتهم هي الأفضل والأرقى والأصوب، وأن من الأجدى أن تهضم فيها كل الأفكار، أو تستسلم لها، ليصير لدينا «طريق فكري واحد». وينسحب هذا في التعامل مع كل العلوم التي يجب أن تنضوي تحت مسار واحد باسم «إسلامية المعرفة»، والتي هي في النهاية محاولة إخضاع الآراء والإبداعات الإنسانية لرؤية فريق واحد، هي من رأسه هو ومن تأويله للنص الإسلامي أو تعاطيه معه، ثم يزعم أنها الإسلام، الذي يجب أن تصطبغ به كل العلوم، على رغم أن هذا يتناقض جملة وتفصيلاً مع ما يأمر به القرآن الكريم من تفكر في خلق السموات والأرض، وإطلاق العنان للعقل كي يفهم ويرتب ما ينتج عن هذا التفكير في اتجاهات لا حصر لها، حتى إذا آمن الإنسان يكون إيمانه عن اقتناع وإجلال. وهذه «الواحدية» الفكرية أو الثقافية لا تحفز على إعمال الخيال، إذ يكفي فقط أن يقوم من يتبنى هذا الاتجاه إما برفض أي فكرة تتناقض مع ما يعتقد في رسوخه أو وثوقيته، أو يخضع كل الأفكار المختلفة معه لقياس على ما في رأسه ظناً منه أنه القاعدة الصلبة أو الحقيقة الناصعة، أو يعيد صياغة كل ما يرد إليه كي يتهندس وفق هواه وتصوراته، حتى لو فقد هذا الوارد سماته وخصائصه الذاتية. وبالتالي يتحول هذا «الفكر الواحد» بمرور الزمن إلى «صندوق مغلق» تنحبس داخله الرؤوس ولا تستطيع أن تخترقه لتفكر في كل ما يقع خارجه. 3- الانتصار الحتمي: يتوهم الإخوان أن انتصارهم حتمي لأن طريقهم رباني ومعركتهم مقدسة، اتكاء على اعتقادهم أنهم يمثلون ويصورون ويجسدون الإسلام في معناه ومبناه. وبالتالي يشعر أعضاء الجماعة وأتباعها بالاستغناء عن أي فكر أو رؤية وتصور ومنهج خارج ما تتبناه، وإن طالعوا المختلف معهم، فإنهم يفعلون ذلك بعين الناقض وليس الناقد أو الراغب في الاستفادة، المقبل على العلم بعقل متفتح، من يعرف «الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال. فالإخواني المطيع لا يجد حاجة ماسة أو ملحة لمطالعة من يختلف مع فكر الجماعة، ولا يتملكه ولع بالمعرفة أو شغف بها خارج الكتب والكتيبات والنشرات التي تبقيه مربوطاً في السلسلة الحديدية للتنظيم. وكل من خالف هذا هجره الإخوان أو خرج عنهم غير آسف عليهم. وليس معنى هذا أن العقل الإخواني فاقد تماماً القدرة على التخيل، لكن تخيله يظل محدوداً ليس فقط بكراهية التنظير والولاء للتنظيم فقط ورفض التعددية والإيمان بحتمية الانتصار إنما أيضاً بالوساوس القهرية والشك العميق في الآخرين والشعور الدائم بالاضطهاد والعيش في كنف المؤامرة والخوف من التغيير. كما أن الخيال الإخواني ذو نزعة تبريرية، إذ يعمل عقل الإخواني جيداً في تبرير سلوك الجماعة، ويمكنه أن يصنع الأكاذيب، وهي نوع من التخيل، بغية الدفاع عن الفكرة والموقف والاتجاه. * كاتب مصري
|