باستثناء دوائر السلطة بمكوناتها وحلفائها، يترسخ يوماً بعد يوم، اقتناع لدى غالبية المصريين، بأن بلدهم، الذي قام بثورة لاقتلاع نظام ديكتاتوري سلطوي، ينحدر نحو الهاوية، وأن الوضع الآن لا يختلف كثيراً عما قبل الثورة. فالمشهد يبدو شديد القتامة، الخلافات، والانقسامات، والتجاذبات تسود بين أفراد المجتمع، والاوضاع المعيشية والاقتصادية باتت أكثر تدهوراً، ونذر ثورة جديدة تلوح في الأفق، بل إن شبح الفوضى والاقتتال الأهلي يهدد تماسك المجتمع ومكوناته. وأخيراً أطلت بوادر «فتنة طائفية» بعد اقتتال على أبواب كاتدرائية الأقباط، هو الأول من نوعه، حدث خلال تشييع قتلى أقباط سقطوا في صدامات طائفية ليزيد المشهد ارتباكاً.
تدرك جماعة «الإخوان» أن بقاءها مرتبط بنجاحها اقتصادياً وتنموياً، على غرار تجربة رجب طيب أردوغان في تركيا، لكن الحاصل أنه منذ وصول الرئيس المصري محمد مرسي الى سدة الحكم، اختار ألا يترك لنفسه الفرصة للنظر في التحديات والمشاكل التي تواجهها مصر، فدخل ومعه البلد، في معارك الواحدة تلو الأخرى، كانت أولى جولاته عندما أزاح المجلس العسكري السابق عن المشهد، مقتنصاً كل الصلاحيات، عبر إعلان دستوري. التفت حول مرسي وقراره في حينها غالبية القوى السياسية التي رأت فيه انتصاراً لـ «الدولة المدنية»، لكن سرعان ما تبدلت الأحوال، عندما أصدر مرسي في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي اعلاناً دستورياً حصن بمقتضاه قرارته من الطعن، وعين نائباً عاماً جديداً، لتنقلب الأمور رأساً على عقب، وتدخل البلاد منذ ذلك التاريخ في صراعات لا تتوقف، تارة بين السلطة والمعارضة، وتارة أخرى بين مؤسسة الرئاسة والعديد من مؤسسات الدولة، بدءاً من القضاء، مروراً بالأجهزة الأمنية، وصولاً إلى شن حرب ضروس ضد وسائل الاعلام والاعلاميين والصحافيين.
اعتمد الحكم خلال تلك الفترة على سياسة «فرض الأمر الواقع»، فخرج من أزمة الاعلان الدستوري، بفرض دستور جديد، هيمن على عملية صياغته الإخوان المسلمين وحلفائهم الاسلاميين، ليسارع بعدها إلى الانتخابات التشريعية، بحجة الاحتكام إلى «كلمة الصناديق»، أعلنت الرئاسة غير مرة التزامها بأحكام القضاء لكنها عند أول محك، أبدت اصراراً على عدم تنفيذ حكم قضائي، قضى ببطلان تعيين النائب العام طلعت عبدالله، كل هذة الامور زادت من انعدام الثقة بيها وبين قوى المعارضة التي انتهجت هي الأخرى لغة التصعيد، ليبدأ التساؤل حول ما اذا كانت أطراف هذا المشهد المأزوم والمحتقن، تملك الإرادة أو الرغبة في الخروج بمصر وثورتها من هذا النفق المظلم؟
صراع داخل «الإخوان»
عبر تاريخ جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، الذي زاد على الثمانين عاماً، كان منطق تحول الجماعة إلى حزب أمراً غير مرغوب فيه، وسارت على النهج نفسه الجماعات الإسلامية الأخرى، فلم يظهر غير حزب الوسط الذي انشق مؤسسوه عن «الإخوان» في تسعينات القرن الماضي، لكن بمجرد سقوط النظام السابق أصبح ما هو محرم، حلالاً، فأعلنت الجماعة عن تدشين حزبها السياسي تحت مسمى «الحرية والعدالة»، وسار على دربهم السلفيون إلى تأسيس حزب «النور»، والجماعة الإسلامية مع «البناء والتنمية»، وتمكن «الحرية والعدالة» من الحصول على الأكثرية النيابية قبل حل مجلس الشعب.
بعدها وصل محمد مرسي إلى سدة الحكم، فدخلت الجماعه في اختبار التحول من المعارضة إلى الحكم. سارعت في بداية الأمر إلى صفوف القوى الوطنية في مواجهة الفلول والعسكر، وسعى مرسي إلى الفصل بين مؤسسة الرئاسة والجماعة التي يتحدر منها، لكن مع مرور الايام بقيت العلاقة، بين الحزب والجماعه، وبينهما وبين مؤسسة الرئاسة، مثاراً للجدال والالتباس، ولم تتمكن الجماعه والتي لطالما وصفت بـ «المحظورة» وظلت مطاردة من جانب الدولة في كل العهود، من مواكبة التغيير الذي طرأ على الحياة السياسية في مصر لتدخل رحاب العمل السياسي «العلني»، وفقدت أقرب الحلفاء، والازمات التي تعانيها في أدارة شؤون الحكم، قد تتسبب في أنشقاقات داخلية. فبحسب مصدر قيادي في الجماعه تحدث لـ «الحياة» فإن تماسك «الإخوان المسلمين» بات مهدداً في الفترة الاخيرة، فداخل الاروقة تدور خلافات شديدة بين جناح الاصلاحيين الذي يرى ضرورة رأب الصدع مع القوى الوطنية ولجم الخلافات مع شركاء الوطن وضرورة البحث عن التوافق المفقود، ولو حتى بتقديم بعض التنازلات، والجناح المحافظ او من يسمون بـ «القطبيين»، وهؤلاء لا يرون «الأزمة من الأساس»، ويقللون من شأن الاضطرابات التي تعانيها البلاد. ويؤكد القطبيون بحصب المصدر أن «الاضطرابات والتظاهرات المناوئة ستخف وطأتها مع مرور الزمان، وأن الجماعه قادرة على انتزاع غالبية برلمانية في الانتخابات المتوقع أن تنطلق في ايلول (سبتمبر) المقبل، ومن ثم تتحكم في مفاصل البلاد وتكون قادرة على ضبط دفة الامور». ويرى المصدر ان في حال لم تتمكن القيادة (المرشد ونوابه) من ضبط الامور داخل التنظيم ستعاني الجماعه من انشقاقات كبيرة خلال الفترة المقبلة قد تعصف ببنيتها التنظيمية. ويرى الخبير في الحركات الإسلامية ضياء رشوان أن الخلافات بين التيارين داخل الإخوان «ستحسم مستقبل مصر»، «فإما ينجح المتشددون في احتواء جبهة المعارضة الداخلية ومن ثمن فرض رؤيتهم، أو يتمكن الاصلاحيون من تنحية القطبيين عن المشهد، وقيادة الإصلاح الداخلي، إضافة إلى رأب الصدع بين «الإخوان» وباقي القوى السياسية، ثم وضع الجماعه على الطريق الصحيح. ويقول رشوان ان جماعة «الإخوان» ستمر بمرحلة مخاض صعبة خلال الفترة المقبلة، متوقعاً انشقاق عدد من قادتها ومن شباب «الإخوان».
الخبير عمرو الشوبكي، يختلف مع رشوان، اذ يؤكد أن الازمة السياسية ستؤثر في تماسك الجماعه، لكنه يقلل من هذا التاثير، مشيراً إلى ان الانقسام داخل «الإخوان» تراجع خلال الفترة الماضية، لمصلحة التيار المتشدد، موضحاً لـ «الحياة» انه الصراع داخل الجماعه بين تيار محافظ وآخر متطرف رديكالي، اما الجانب الاصلاحي داخل الإخوان فخفت تماماً.
الحكم في مواجهة المؤسسات
منذ وصول «الإخوان» إلى سدة الحكم وهي تخوض حرباً ضروساً، ضد مؤسسات الدولة، فمن إزاحة المجلس العسكري السابق، إلى تنحية النائب العام عبد المجيد محمود والاصرار على عدم تنفيذ حكم قضائي يقضي ببطلان تعيين النائب العام الجديد طلعت عبدالله، وصولاً إلى السعي لتقليم اظافر وسائل الاعلام، يسعى قادة الجماعه إلى الترويج لحربهم، فتارة يتهمون القائمين على تلك المؤسسات بـ «الفساد والانتماء إلى العهد البائد»، وتارة أخرى بـ «الحؤول من دون تنفيذ مشروع النهضة». لكن ما تردده الجماعه لم يلقَ صدى لدى القوى السياسية المصرية فهي تلحظ عمليات ممنهجة لما تسميه بـ «أخونة الدولة»، ويستند هؤلاء إلى أعتماد الإخوان على «أهل الثقة وترجيحهم على ذوي الكفاءة»، فيما باتت مؤسسات الدولة، لا سيما القضاء تعاني من حالة عدم الاتزان.
ويؤكد أستاذ العلوم السياسية جمال زهران أن معركة مرسي مع مؤسسات الدولة «لم تحسم بعد»، مشيراً إلى أن الشغل الشاغل للنظام الحالي هو «السيطرة على تلك المؤسسات حتى تساعدهم في تحقيق مشروعهم، لكن أبناء تلك المؤسسات يرفضون التواجد الإخواني، وإن راحت بعض القيادات تبرم تفاهمات مع «الإخوان»، لكن كل من في تلك المؤسسات يرفض «الإخوان» ونظامهم، وبالتالي هم سيفشلون في السيطرة. ويلاحظ زهران محاولات للحكم بشتى الطرق لتشويه صورة المؤسسات لا سيما الامنية»، مشيراً إلى أن جماعة الإخوان المسلمين تسعى إلى «الزج برموزها في رئاسة تلك المؤسسات الحساسة، وتحاول جس نبض الشارع من خلال ترويج شائعات في شأن تولي بعض رموز الجماعة لمناصب سيادية، ورصد رد فعل الشارع»، من جانبه يقول عمرو الشوبكي أن كل المعارك التي دخلها نظام الحكم كانت في الاتجاه الخاطئ، فيما عدا ازاحة العسكر، التي كانت بالتوافق ولم تخلف آثاراً سلبية، في ما عدا ذلك أظهرت معارك الحكم «اهداراً لدولة القانون، والانتقائية في العقاب فيتم ملاحقة المعارضة على خلفية العنف، فيما يترك اعضاء الجماعة». ويرى الشوبكي ان «الإخوان» حققوا بالفعل تقدماً في طريق سيطرتهم على مؤسسة الشرطة وجزء محدود في القضاء، إضافة إلى كثير من المؤسسات التنفيذية والادارية، لكن يبقى الجيش خارج السيطرة، إضافة إلى السواد الاعظم من القضاة، مشيراً إلى انه للمرة الأولى في التاريخ المصري يشتكي الرئيس من ان مؤسسات الدوله غير متعاونة معه، وبالتالي فهو يسعى إلى تمكين المقربين منه، والمحسوبين على جماعته لضمان ولائهم، متوقعاً ان تستمر محاولات التمكين، فيما لن تستمر مقاومة أجهزة الدولة الا اذا وجدت ظهيراً سياسياً. ويضيف: «مع الوقت سينجحوا في السيطرة على المؤسسات او تحييدها على الأقل».
ويتجه مجلس الشورى الذي يمتلك السلطة التشريعية موقتاً ويهيمن عليه الحكم، إلى تمرير حزمة من القوانين من شـأنها تقويض حرية عمل المنظمات غير الرسمية، والحق في التظاهر، الأمر الذي اثار انتقادات في الداخل وتحفظاً من جانب الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد الأوروبي، ويقول زعيم الحزب المصري الديموقراطى، المنخرط في جبهة الانقاذ الوطني محمد أبو الغار: «أشعر بالقلق من الوضع الحالي في مصر»، مشيراً إلى انه يخشى من أن تتمكن السلطة من انتزاع هامش الديموقراطية والحرية الذي اكتسبه المصريون بعد الثورة». ويقول مدير المنظمة العربية لحقوق الانسان الناشط جمال عيد: تم رفع أكثر من 20 دعوى قضائية تتضمن اتهامات بإهانة الرئيس خلال الاشهر الأولى من حكم مرسي، وهو ما يمثل أربعة أمثال ما رفع من دعاوى مماثلة خلال حكم حسني مبارك الذي استمر 30 عاماً، وعلى النهج نفسة سار رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان حافظ أبو سعدة الذي نبه إلى ان منظومة حقوق الإنسان في مصر «تواجه تهديداً كبيراً خلال الفترة الاخيرة». ولا يرى أبو سعدة فارقاً بين حكم مرسي وسلفه حيث كانت القوانين القمعية تستخدم لانتهاك الحقوق الأساسية، وكان موالون للحكومة يبادرون الى تقديم مثل تلك البلاغات.
في المقابل ترى مساعد الرئيس للشؤون السياسية باكينام الشرقاوي ان المشهد السياسي المصري باتت فيه الأهواء الشخصية تهدم المسلمات السياسية وتكرس ازدواجية المعايير... بحيث يصبح الرئيس المنتخب الصابر على كل ألوان الهجاء والسب والسخرية مستبداً وبحيث يصبح قطع الطريق والاعتداء على المواطنين والمؤسسات احتجاجاً سلمياً فقط عندما يكون الفاعل معارضاً للرئيس! ويصبح دخول انتخابات حرة نزيهة بمثابة إعطاء شرعية لديموقراطية زائفة! والعنف واستدعاء الخارج سبيلاً مقبولاً للتعبير عن المواقف السياسية! وتدعو الشرقاوي الفرقاء السياسيين إلى «الرفق بالوطن... وترك فرصة للبناء».
متى يعود الجيش؟
بينما أفرزت الأزمة السياسية المحتدمة في مصر حالة من الشلل الاقتصادي مصحوبة بتصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية والاضطرابات المجتمعية، أطلقت المؤسسة العسكرية المصرية في أكثر من مناسبة تحذيرات من أن يدفع تفاقم الصراع السياسي البلاد للانهيار. ففي نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي دعا وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي كل الاطراف» إلى ضرورة معالجة الازمة لتجنب «عواقب وخيمة» قد تؤدي إلى «تهديد تماسك الدولة»، هذا التصريح فتح الحديث مجدداً عن إمكان تدخل الجيش في الازمة السياسية المصرية.
ويرى الخبير العسكري اللواء سامح سيف اليزل ان الدعوات لعودة الجيش إلى الحكم تعبر عن ثقة الشعب في المؤسسة العسكرية وانها الملاذ الاخير له، لكن هذا لا يعني تدخل الجيش في هذة المرحلة، لأنه يرفض التدخل في الحياة السياسية لا سيما بعد درس المرحلة الانتقالية، ويؤكد اليزل لـ «الحياة» ان الجيش يراقب عن كثب وبدقة شديدة ما يحدث في البلاد وانه لن يتطوع بالنزول، لكن اذا ما وجد مطالب شعبية جارفة، سيتدخل قبل انـهيار الدول ليعيد الانضباط إلى الشارع. وحول شكل تدخل الجيش أوضح اليزل سيكون بهدف ضـبط الامور واعادة البلاد إلى السيطرة، لكنة اشار إلى ان الوضع على الارض هو الذي سيحدد ما اذا كان تدخل الجيش سيكون تحت مظلة الحكم الشرعي ام انه سينقلب عليه، قبل ان يشدد على ان القوات المسلحة تعترف بالشرعية.
من جانبه يرى الخبير السياسي عمرو الشوبكي ان مصر باتت أمام ثلاثة خيارات: الاول ان تنجح الجماعة في فرض رؤيتها وهذا مرهون بتحسن الوضع الاقتصادي واجراء انتخابات نزيهة، او ان تجد قوى المعارضة أمكانية للتغيير من الداخل، وهو الخيار الذي لا يرجحه الشوبكي، اذ ان المعارضة مصرة على مقاطعة الانتخابات بسبب مخاوفها من التزوير، وقال: «خروج المعارضة خارج المعادلة السياسية يضعف موقف الإخوان»، مشيراً إلى ان الخيار الثاني ان تنجح جماعه الإخوان في فرض شروطها على المجتمع، متجاهلة الاضطرابات السياسية والمجتمعية، فتستمر الازمة الحاصلة في مصر، كدولة شبه فاشلة، إلى حين انتهاء فترة ولاية الرئيس محمد مرسي، اما الخيار الثالث، بأن يتعرض المسار الإخواني إلى الانهيار تحت وطأة الازمة الاقتصادية، والاضطرابات المجتمعية ومن ثم يتدخل الجيش، ويشير الشبكي إلى أن قدر تدخل الجيش في العملية سيكون مرتبطاً بحجم الاضطرابات التي تعانيها البلاد، فاذا وصلت إلى حالة الانهيار الامني والاقتتال الاهلي في الشوارع سيتدخل الجيش لازاحة نظام الحكم ليتولى هو ادارة شؤون البلاد، اما اذا كان الانهيار اخف وطأة فسيتدخل بهدف أعادة ضبط الامور لكن من داخل العملية الشرعية. الأمر مرتبط بدرجة الانهيار الذي سيحدث في البلاد.
|