روح اللاعنف عنواناً للحكومة الجديدة قادرة على رسم سياسة جديدة تعم المنطقة، لكنها سياسة تحتاج الى آليات خلاقة.
لأول مرّة منذ اندلاع ثورة اللاعنف التي عمّت البلاد إبان مقتل الرئيس رفيق الحريري، وهي باكورة المنطقة جمعاء للمدّ الثوري اللاعنفي – أي التحرك الشعبي الكبير المطالب بإسقاط النظام من دون لجوء الثورة الى أيِّ شكلٍ من العنف مقابل العنف التي تمارسه السلطة لإخمادها –، يرى لبنان بصيص أملٍ في استقرار دائم على أساس هذه الفلسفة. تتالت الثورات، وقد تبع الإيرانيون اللبنانيين جراء الإنتخابات المزوَّرة صيف 2009، والمعارضة السلمية في إيران مستمرة برمز المرشحين القياديين للرئاسة اللذين لا يزالان قيد الإقامة الجبرية حتى اليوم، وبعدها طبعاً ثورة الياسمين، وثورة النيل، وثورة اللؤلؤة، وثورة اليمن السعيد...
وفيما دخلت المنطقة في حالة غير مسبوقة من التغيير منذ الثورة ضد الإستعمار في عشرينات القرن الماضي، بعنوان اللاعنف المطلق سبيلاً للثورة وسِمَةً متألقةً في تاريخ الأمم، بعضها، كما في البحرين، لم ينجح بعد، وبعضها يتردّى بحسب لَعْنة التركيبة الطائفية وضياع روح الثورة المؤسس لافتقاد معاني الحرية واللاعنف لدى قيادييها. وأسوأها كانت التجربة في ليبيا بسبب وحشية القذافي في التعامل معها منذ اليوم الأول، وعسكرة الثورة في سوريا صيف 2011 على سلميتها المميزة زهاء أربعة أشهر.
فكان أن زهقت الأرواح بالآلاف في ليبيا للتخلص من حكم القذافي، ناهيك عن التدخل العسكري الخارجي لحماية أهل بنغازي من المجزرة المحتّمة. أما في سوريا فمن الواضح أن عسكرة الثورة أضعفت رسالتها داخلياً ودولياً، ولا بأس من النظر بشكل جدّي في امكانية إعادة سلميتها، فكم كانت مطالبات الثورة بالحرية أقوى قبل أن تنحدر عنفاً.
أما لبنان فكان شاهداً غير عاملٍ في ما بناه شعبه أصلاً من نموذج لثورة اللاعنف العالميّة، فعشنا زهاء عقد في حالة قلقة غير منقطعة، تخللتها الإغتيالات والمشادات الطائفية التي شكّل النزاع المستشري في الشمال بين السنّة والعلويين وجهَهَا الأسوأ، حقيقةً يوميةً لأهل طرابلس كما نذيراً لباقي البلد.
لذا أهمية الإنفراج الذي حصل مع تلاقي الأطراف حول شخص الرئيس تمام سلام الوئامي وضرورة تشكيل الحكومة على أسرع وجهٍ لئلا يضيع هذا التلاقي مجدداً على وقع التطرف الإقليمي واستشراء القتال في سوريا.
بل ان الحكومة – على محدودية حياتها الفعلية المنتهية حكماً بالإنتخابات– قادرةٌ إذا استقرَّ جوّ الألفة لإنشائها والسير في عملها بوزراء مهنيين لا يصبون الى النيابة، حكومةَ اللاعنف هذه قادرةٌ على إحياء روح ثورة الأرز الذي صَقَل المنطقة بآلية فريدةٍ في التاريخ بتميزها عن نمط العنف المطلق الذي أدخلته اسرائيل اليها عام 1948.
وفيما يجثم العنف في سوريا طاغياً على لبنان وسائر المنطقة، أرى أن يكون طموح الحكومة الجديدة أكثر مما يعرف به "نأياً بالنفس"، لأننا تعلمنا قبالة طروحات الحياد المستحيل، ولبنان أولاً، وغيرها من السياسات القاصرة عن الواقع، أننا جزء لا يتجزأ من هذا الشرق المرير. ولن ينجح أي بلد وأية مجموعة فيه بالنأي بنفسها في الصراعات الإقليمية، لما يجمع بين الشعوب من تاريخ تلاقٍ وتصادم مستمرَّين الى الأبد.
روح اللاعنف عنواناً للحكومة الجديدة قادرة على رسم سياسة جديدة تعمّ المنطقة، وأولها سوريا، لكن مثل هذه السياسة تحتاج الى آليات خلاّقة مبنية على مزيج من ثوابت القانون الدولي – مثلاً بالنسبة لإرجاع الجولان الى سوريا، أو عودة اللاجئين الفلسطينيين بشكل لا يُهدِّد يهود فلسطين –، والتعاطي مع الثورات العربية بمبدأ حقوق الإنسان والحرية في لحظتها الدستورية – مثلاً الإقدام بشجاعة على رأب الصدع بين السنة والشيعة في المشرق، وليس فقط مشاهدة المتطرفين من الطائفتين يملون مسار التاريخ-، ورفع الصوت الفعال لحماية الأقليات، لاسيّما المسيحيين في مصر والعراق، وسوريا المستقبل، وفلسطين التاريخية.
الإمكانات كثيرة، وحكومة اللاعنف في لبنان قادرة على بثها كلمةً وعملاً، بما يزخر به البلد من تفاعل في الثقافات والطاقات المهنيّة المتقدّمة يرمي ظلالَهُ في العالم كلّه ويتصدّر الغرب والشرق بلغاتها الخاصة حاملاً اليها خطاب العالِم المتمرِّس فيها وفي ثقافاتها.
ولا بأس نهاية في تبوّؤ حكومة اللاعنف الجديدة صدارة الحلّ في سوريا بعدد من المبادرات التي نَحْفظُ بعض تفاصيلها لما يصلح قريباً إن شاء الله في بيان وزاري من نوع متقدّم بقوَّة اللاعنف في تاريخه المطموس بالحروب والطائفية، والتي تأتي روح الحكومة الجديدة بفرصة نادرة لاثرائه نموذجاً للأمم.
استاذ في جامعة أوتاه الاميركية – من مؤسسي منظمة الحق باللاعنف. |