ظلت جماعة «الإخوان المسلمين» تمثل لي، منذ طفولتي، صورة التنظيم الديني الذي تسلل إلى السياسة بحكم احتكاكه بالشارع ورغبته في التأثير على الناس، وتوهمت دائماً أن لدى الجماعة كوادر علمية راقية في التخصصات كافة، وزاد من هذا الوهم في عقلي أنني التقيت شخصيات متميزة من الجماعة، مثل الدكتورين أستاذ القانون توفيق الشاوي وأستاذ الاقتصاد محمود أبو السعود. وتجسد لدي الشعور بأهمية الجماعة ربما لأن مولدي ونشأتي كانا في المنطقة نفسها التي خرج منها الإمام حسن البنا -ونائبه لفترة معينة- أحمد السكري، إضافة إلى تعرفي بعد ذلك على أسماء لامعة في الجماعة، مثل صالح أبو رقيق وأحمد سيف الإسلام البنا وعصام العريان، ثم بعد ذلك أسماء أخرى من التجربة البرلمانية، مثل محمد مرسي وسعد الكتاتني وحسين إبراهيم وغيرهم، كما كان من حظي أن أكون على صلة طيبة بالمرشد العام السابق محمد مهدي عاكف، وقبله المرشد الأسبق المستشار مأمون الهضيبي، لذلك شعرت دائماً أنه على رغم اختلافي مع فكر الجماعة إلا أنني أتعاطف مع حقها في العمل السياسي بكل أشكاله البرلمانية والحزبية والمجتمعية، وعندما قفزت الجماعة إلى السفينة الجديدة لتصل إلى الحكم في بلد المنشأ كواحدة من أهم الدول الإسلامية والعربية، وأعني بها مصر، فإننا جميعاً تابعنا ما جرى بمزيج من القـلق والدهشة، وانتهى الأمر بـوصول رئيس إخواني للحكم في مصر. ويهمني هنا أن أطرح النقاط الآتية: أولاً: إنني لا أعترض أبداً على وصول الجماعة إلى سدة الحكم في أكبر دولة عربية، وهي مصر ما دامت تلك إرادة صندوق الانتخاب، رغم كل الملابسات والملاحظات التي أحاطت بظروف الفترة الانتقالية بعد ثورة 25 يناير 2011، وهي التي أطاحت بالنظام السابق وغيرت الخريطة السياسية للبلاد. ولكنني أريد أن أقول صراحة إنني كنت أتمنى على جماعة «الإخوان المسلمين» أن تقدم نفسها للمجتمع المصري والعربي والإسلامي بصورة مختلفة عمَّا حدث، كنت أريد من قياداتها مزيداً من الانفتاح السياسي على القوى الأخرى ومحاولة فتح حوار معها من دون تصنيف أو تعميم أو تجاوز أو إقصاء، بدلاً من الدخول في سباق تصفية الحسابات السياسية التي تخفي وراءها أحياناً مظاهر الكيدية والاستهداف والرغبة في إبعاد الآخر ونفي فكر الغير وتطبيق «العزل السياسي» على مئات من المصريين والمصريات من ذوي الكفاءة تحت مسميات واهية مثل «الفلول» و «قوى الثورة المضادة» و «بقايا النظام القديم» الذي كان نواب جماعة «الإخوان المسلمين» جزءاً حيوياً منه في البرلمانات المصرية الأخيرة. ثانياً: يخطئ من يتصور أن «الإخوان المسلمين» جماعة تنضوي تحت مسمى «دراويش السياسة»، فـ «الإخوان» جماعة سياسية «براغماتية» أمضت ما يقرب من خمسة وثمانين عاماً في الشارع السياسي المصري وانتشر أتباعها في أنحاء العالم، وعرفت قياداتها السجون والمعتقلات حيث جرى التضييق عليهم في كل العهود تحت ظل الحكم الملكي والجمهوري على حد سواء، ولم يكن ذلك أمراً من جانب واحد، فعلى الجانب الآخر مارس أعضاء التنظيم الخاص من خلال الجناح السري في الجماعة كثيراً من الممارسات خارج إطار العمل السياسي المشروع باعتماد العنف أسلوباً لمواجهة كثير من المواقف على النحو الذي وصل إلى حد الاغتيال السياسي كما ظهر في حقبة الأربعينات من القرن الماضي! ونحن نرى أن فكر جماعة «الإخوان المسلمين» يحتوي على ثمانين في المئة سياسة وعشرين في المئة دين، بينما يختلف الأمر بالنسبة إلى التيارات السلفية التي يشغل الدين فيها نسبة الثمانين في المئة بحيث لا يبقى للسياسة إلا عشرون في المئة فقط، ولذلك فنحن نقول دائماً إن «الإخوان المسلمين» يتميزون بالواقعية ويجيدون التعامل على الأرض وحشد الأنصار والوصول إلى صندوق الانتخاب، خصوصاً في المناطق الفقيرة، وما أكثرها، والبقاع المحرومة، وما أتعسها! ثالثاً: ربما لم يفطن أشقاؤنا في جماعة «الإخوان المسلمين» إلى أن قيادة دولة أمر يختلف بالضرورة عن «إدارة جماعة»، فالدولة تحتاج إلى خبرات متمرسة وكفاءات مستنيرة ورجال دولة يعرفون كيفية الاحتكاك بالآخر ويفهمون المجتمع الدولي ويدركون صراع القوى الإقليمية ويفرزون القوى الاجتماعية داخلياً والفئات الوظيفية محلياً، كما أنه لا بد أن تكون لديهم جدولة واضحة لبرامج محددة على المدى القصير واستراتيجيات مدروسة على المدى الطويل، لأن «فقه الأولويات» يتحكم إلى حد كبير في مسار العمل الوطني والحياة السياسية، فكان يتعيَّن على الذين يحكمون في مصر أن يبدأوا بتحقيق نجاحات ملموسة وإنجازات مطلوبة قبل أن يتجهوا إلى إعادة هيكلة الدولة. إن رجب طيب أردوغان في تركيا لم يتقدم صفوف القوات المسلحة «الأتاتوركية» ولم يتمكن من السيطرة على مرافق الدولة ومؤسساتها إلا بالتقدم الاقتصادي الذي حققه أولاً قبل أن يضع يديه في «عش الدبابير» بحيث تكون لديه أوراق اعتماد شعبية تمكنه من الهدف الذي يريد، وفي مصر يعتبر الفقر قنبلة موقوتة، لذلك فإن مكافحته هي المقدمة الطبيعية لمشروع النهضة الحقيقية، وإذا نظرنا إلى الوضع في مصر سنكتشف أن شيئاً من ذلك لم يحدث، لذلك ظل التوتر والقلق والانفلات الأمني والأخلاقي مستمراً حتى الآن! رابعاً: لا بد أن السياسيين في جماعة «الإخوان المسلمين» يدركون بحصافتهم أن من يتغطى بالولايات المتحدة الأميركية هو في النهاية «عريان»، وأنا قلت ذلك منذ سنوات قبل الثورة، وأضفت أن الولايات المتحدة وإسرائيل ترصدان باهتمام بالغ نظام الحكم في مصر ورئيسها القادم، باعتبارها أكبر دولة عربية ولأنها أيضاً ركيزة «السلام المرحلي» في الصراع العربي-الإسرائيلي. إن الولايات المتحدة تريد من حكم «الإخوان المسلمين» مطالب وأمنيات لو سعت الجماعة إلى تحقيقها أو المضي فيها فإنها تفقد شخصيتها التاريخية وهويتها الإسلامية، خصوصاً في ما يتصل بالقضية الفلسطينية والمواجهة مع «المد الشيعي» والحوار مع ايران. إن «الزواج» الأميركي-الإخواني جاء على «ورقة طلاق»، فـ «الإخوان المسلمون» كانوا من طلائع الفدائيين منذ العام 1948 كما أنهم لن يقبلوا السقوط في مستنقع الصراع الطائفي بين السنة والشيعة، ولقد بدأ الأميركيون يدركون شيئاً من ذلك وأفلتت منهم تصريحات متناثرة تعكس شيئاً من خيبة الأمل تجاه توقعاتهم السابقة حول أداء الجماعة في أكبر دولة عربية وعلاقاتها بالدول العربية الأخرى، خصوصاً في منطقة الخليج، فضلاً عن تأرجح العلاقات المصرية - الليبية، بل والمصرية -السودانيـة أيضاً! خامساً: إن جماعة «الإخوان المسلمين» التي تمرست بالعمل السياسي لأكثر من ثمانين عاماً، ليست لديها تفرقة بين التواجد في الشارع كمعارضة وبين دخول القصور كحكام. إن الأمر مختلف تماماً، فالحكم مسؤولية والمعارضة نجومية! والوصول إلى السلطة يمكن أن يكون نهاية المطاف ليصبح بحق صعوداً يمهد للهبوط. إن حيازة الحكم يمكن أن تكون نعمة ونقمة في الوقت ذاته، ويمكن أن تكون نهاية البداية كما يمكن أن تكون بداية النهاية، والأمر يتوقف دائماً على وجود الرؤية البعيدة لدى رجال الدولة الحقيقيين المتمرسين في الحياة السياسية والمدربين على أصول الحكم! إننا أمام ظاهرةٍ تستحق الاهتمام، لأن محورها هو العلاقة بين السياسة والحكم، فالأمر شديد الاختلاف بينهما! سادساً: إننا لا نعادي الجماعة، بل نراها فصيلاً إسلامياً مصرياً، ولكننا نقلق كثيراً من مظاهر البداية التي لا توحي بالارتياح، لأن فيها تراجعاً عن القرارات وتداخلاً في الإجراءات، ويبدو بعض رموزها أحياناً وكأنهم يحكمون من «الزنازين» التي عانوا فيها على مر العقود الأخيرة! إننا أمام معادلة معقدة لن تقوى على حلها إلا قيادات الجماعة ذاتها، فهم محتاجون إلى مزيد من الشفافية ووضوح الرؤية والقدرة على استشراف المستقبل من بين سحب الماضي وضباب الحاضر. سابعاً: يتعين على قيادات الجماعة توسيع دائرة المشاركة السياسية وفتح صدورهم برحابة واتساع للقوى الأخرى كافة، بلا رواسب للماضي أو عقد في الحاضر، فقد فتح الله عليهم مصر فلا بد أن يحافظوا عليها وأن ينهضوا بها لأنها كنانة الله التي عانت طويلاً وتعبت كثيراً وآن لها -بعد ثورة شعبها- أن يأتي من يأخذ بيدها ويعالج جراحها ويحقق آمالها. هذه رؤية محايدة في تقويم حكم «الإخوان المسلمين» في مصر بما له وما عليه، ونحن نريد في النهاية أن يقيل الله مصر من عثرتها، وأن يحقق لها النهوض والتقدم على يد إخوانيٍّ أو سلفي أو ليبرالي أو يساري، فالمهم هو أن تمضي القافلة، وأن تستقر مصر، وأن تهدأ الدلتا والوادي، وأن يتوقف نزيف الدم، ويسود السلام أرض المحروسة، ونؤكد في النهاية أننا نحترم شرعية الرئيس المنتخب، فمن جاء بالصندوق لا يبرح موقعه إلا بالصندوق. * كاتب مصري
|