الأثنين ٢٥ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: شباط ٢٢, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
 
بعد مصر، هل تبقى معوّقات التنمية نفسها ؟ - لويس حبيقة

ما يحصل في مصر منذ 25/1/2011 لم يكتمل بعد، لأن الديموقراطية ثقافة وتاريخ وتجارب وممارسة ومؤسسات وقواعد لا يمكن تعلمها وتطبيقها بسرعة. المؤسسات الحديثة من تشريعية وتنفيذية وقضائية غائبة، والقواعد القانونية والاجرائية غير مناسبة، لا يمكن تالياً الانتقال معها من نظام قديم الى آخر جديد وحديث. ان أهداف الانتقال النوعي غير محددة بل غير واضحة، وتاليا وجود بعض الفوضى والأخطاء والخسائر طبيعي جدا. لا أحد ينكر أن الكثير بل الأهم تحقق، وهذا يدعو فعلا الى التقدير والفخر والاعجاب. في كل حال، ما يحصل في مصر ستكون له نتائج كبرى ليس في الدولة نفسها فحسب، وانما في كل العالم العربي. ثمة كتاب جديد للاقتصادي تيمور كوران يصف فيه العالم العربي بالـ"متأخر"، ويعزو الأسباب الى غياب القواعد والمؤسسات والحريات. تبعا للاقتصادي أنغوس ماديسون، كانت حصة الدول العربية تبلغ من الناتج المحلي الاجمالي الدولي عام 1000 نحو 10% مقارنة بـ9% لأوروبا. ومنذ عام 1700، تنحدر حصة المنطقة الى نحو 2% بينما يرتفع الثقل الأوروبي الى 22%. لا يتعدى معدل الدخل الفردي العربي اليوم الـ 28% من المعدل الأوروبي أو الأميركي رغم الثروات الكبيرة التي تنعم بها منطقتنا. وثمة تحديات كبيرة يجب جبهها للعودة الى مواقع الماضي.


المنطقة العربية ليست الوحيدة التي لم تستطع النهوض بعد مقارنة بثرواتها وقدراتها المادية والبشرية. ففي أميركا اللاتينية مثلا، هناك ظروف مشابهة، الا أن النتائج أفضل بسبب الانتقال العاجل لدولها الى الديموقراطية البرلمانية كما حصل منذ عقود في البرازيل والأرجنتين وتشيلي وغيرها. عام 1820، كان الناتج المحلي الاجمالي الأميركي اللاتيني 12,5% أعلى من ناتج الولايات المتحدة. أما اليوم، ومع ثروة سكّانية تقدر بـ560 مليون نسمة (أي 250 مليون أكثر من أميركا)، يبلغ الناتج الأميركي الجنوبي 29% فقط من الناتج الأميركي الشمالي. المعوّقات كبيرة ولا يمكن حصرها بالسياسية، بل تمتد الى الاجتماعية والاقتصادية والقانونية. في الحقيقة، ورغم أن الدول الأميركية الجنوبية استقلت منذ فترة بعيدة أو 150 سنة قبل كوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرها، لا يمكن وصف أي من دولها بالمتطورة أو الناضجة صناعيا. نجحت دول شرق آسيا لأنها اعتمدت السياسات الصحيحة وطورت مجتمعاتها، فأصبحت مضرب مثل حتى في الاقتصادات الغربية. لم تستطع أي دولة أميركية جنوبية بعد الدخول الى نادي المجتمع الصناعي المتمثل بالولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية واليابان رغم استقلالها المزمن.


ما هي المعوّقات التي وقفت وتقف في وجه النهوض والتنمية؟ علما أن ما يهم الشعوب ويغضبها هي قضايا الجوع والفقر والجهل وسوء توزع الدخل والثروة والصحة وتفشي الأمراض وغياب الضمانات الاجتماعية ومكافحة الجرائم وتثبيت الأمن، اضافة الى النظافة البيئية. الى أي حدّ ستساهم التغييرات الكبيرة في تونس ومصر وغيرها في تعديل أهداف الحكومات لمصلحة الشعوب العربية؟ الى أي مدى يمكن أن نتوقع بداية لمسيرة التنمية الحقيقية والمستمرة في العالم العربي؟
نبدأ في المعوّقات:


أولا: رفض التغيير من المجتمعات العربية مما يفسر قبول الشعوب بواقعها لفترات طويلة. فالقوة لا يمكن أن تبرر قبول الظلم، ولا بدّ للشعوب من أن تنتفض، وهي تفعل ذلك اليوم. في العقلية العربية عموما، ثمة مقاومة لكل ما هو جديد بما فيه الأمور الايجابية والاجتماعية تحديدا. مجتمعاتنا تقليدية، وتقبل تالياً بما هو موجود ولا تحاول قلب الطاولة أو قلب الموازين للحصول على الحقوق أو لتعزيز المكاسب البديهية من حريات وديموقراطية وعيش كريم ومحاربة للفقر وتشجيع للتنمية وغيرها.


ثانيا: ضعف الثقة بالغير وخصوصا بالمؤسسات والقواعد والقوانين والنظام العام. ثمة ضعف ثقة حيال الحاضر وقلق بالنسبة الى المستقبل يفسران عدم قدرة المجتمعات العربية على استحداث مؤسسات وشركات فاعلة كما دساتير تحترم من المواطنين. من نتائج ضعف الثقة، عدم قدرة الاقتصادات العربية على انشاء أسواق مالية فاعلة تعتمد على التبادل الشفاف والفاعل بين عملاء السوق. من نتائجها أيضا، الرغبة في استيراد السلع وليس الاستهلاك المحلي رغم بعض التقدم في هذا السياق. يظهر ضعف الثقة أيضا في حجم الاستثمارات المتدفقة الى خارج المنطقة رغم الحاجة الكبيرة في داخلها. ومن مسبّبات ضعف الثقة، الانفاق العسكري المتزايد على الأسلحة والتسلح والنشاطات العسكرية والتي تأكل من حصة الخدمات والحقوق الاجتماعية. إضافة الى ما سبق، تفشّي الفساد على مستويات عدة تظلم في النهاية الفقراء والطبقات الوسطى. لم تستطع المنطقة العربية تطوير أسواق مالية تساهم أولا وأخيرا في خفض كلفة التمويل، وتنعش تالياً عملية النهوض.


ثالثا: تحوير مفاهيم الديموقراطية وتنفيذ غير سليم بل مغشوش للعمليات الانتخابية. ان تقييد المنافسة في العمليات الانتخابية بل الغش في فرز النتائج على مدى عقود أضافا الى الغضب الشعبي تجاه الحكومات والمسؤولين، فأصبح لا يحتمل. لم تستجب السلطات عبر الزمن الى مطالب المواطنين، ولم تساهم تالياً في تعزيز أوضاعهم الاجتماعية كذلك لم تتحسس آلامهم ولم تشعر معهم حتى في أدق الظروف وأصعبها.


رابعا: عدم تطبيق مبدأ "فصل السلطات" المعتمد في المجتمعات المتطورة اضافة الى الخلط بين مهمات السلطات المدنية والزمنية والروحية كذلك العسكرية. يسيء هذا التشابك بل الترابط الى كمية الخدمات العامة المقدمة الى المواطنين ونوعيتها، ويقلل تاليا من فاعلية الدور الذي يجب أن تقوم به القيادات الحاكمة. لا بد من فصل هذه السلطات ومحاربة "تضارب المصالح" كي تقوم كل سلطة بواجباتها تماما كما تسعى اليه دول أميركا اللاتينية، وكما نأمل في أن تصل اليه مجتمعاتنا العربية مع مصر وتونس وغيرهما.


المنطقة العربية غنيّة، وثمة ضرورة لتجنب المزيد من الفرص الضائعة التي أضرت بالاقتصادات ومستقبلها. تحتوي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على 61% من الاحتياطي النفطي العالمي و45% من احتياط الغاز، وسيكون لها تالياً دور اقتصادي كبير يجب تفعيله لمصلحة التنمية والشعوب. من المتوقع أن تنمو المنطقة بنسبة 5,1% هذه السنة مقارنة بـ8,4% لآسيا و5,5% لأفريقيا. هذه نسب جيدة لكنها لن تكون كافية لتعويض ما فاتنا من فرص. المهم معالجة المعوّقات الأساسية أمام التنمية، إذ تلبّي الحكومات فعلا وليس قولا مطالب الشعوب البديهية والتي تعتبر حقوقا لا مفر منها. أهمية التطورات في تونس ومصر أنها ستقضي تدريجا على معوّقات التنمية التي عوّقت التطور لعقود خلت.
بقلم الدكتور لويس حبيقة



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة