الأثنين ٢٥ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آذار ١٠, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
عبء الرجل... الطائفي - حسام عيتاني
ترتفع أثناء الثورات والحروب الأهلية قدرة الذاكرة على استحضار المرارات. فتبرز مثالب الآخر وعيوبه بروزاً يطغى على ما عداه. وتعود الصفات الجوهرية الشاملة لتعم الجماعات فتطمس الاختلاف بين الأفراد والميزات الشخصية. وتحضر في سورية اليوم هذه الممارسات وأكثر.

وليس نادراً أن يخرج «المثقفون العضويون» لكل من فرقاء الصراع بمقولات عن جهود بذلها قومه أو طبقته أو طائفته، لحمل بعض «الحضارة» والعلم إلى الطرف المقابل الغارق في البربرية والجهل، بل بالقذارة الجسدية وما يرافقها من روائح النتن والعفونة المنبعثة من بيوتهم الوسخة «طبيعياً»، لأنها بيوتهم هم.

كانت عبارة «عبء الرجل الأبيض» التي أدرجها الشاعر كيبلينغ في قصيدة له، التكثيف البليغ الذي تحول شعاراً لرؤية المستَعمِر الغربي، الأبيض، لمهماته التحضيرية لشعوب خاملة كسلى جاهلة وجد المستَعمِر نفسه مضطراً إلى تعليمها كل شيء على مدارج الحضارة، وأن يوفر لها طعامها والغذاء وأن ينقذها من الأوبئة التي تجتاحها، وأن يخلصها خصوصاً من عاداتها الكريهة المتمثلة بالثأر والعنف الأعمى الذي اعتادت عليه اعتيادها على الهواء والطعام.

بيد أن المهمات التحضيرية ليست حكراً على الرجل الأبيض في حروبه وتسلطه الاستعماري. وأعباء التعليم ونشر المعرفة والثقافة، تتشارك فيها جماعات هي عادة المنخرطة في حروب أهلية أو التي تواجه ثورات كاسحة. وفي الغالب تلجأ السلطة إلى تحقير الثائرين عليها باستخدام صفات «الهمج» و «الرعاع» و«الغوغاء» و«الدهماء»، وبنزع أي أهلية ثقافية أو معرفية عنهم كجزء ضروري من عملية مسح حقهم في الانتفاض والخروج على النظام القائم. تاريخ الثورات من الفرنـسية والروسـية وصـولاً إلى ثـورات الـربيـع العـربـي، يـكاد أن يكون نسخات طبق الأصل عن الاحتقار الهائل الذي تكنّه السلطات لشعوبها، وتخص به طليعة هذه الشعوب الثائرة متى شقت عصا الطاعة وبدأت العمل لقلب نظام الحكم.

وتبدو الأمور أكثر حدة كلما كانت مكونات الصراع أقرب اجتماعياً وثقافياً من بعضها. والتقارب هنا يؤدي دور كاشف العورات. وفي حروب يوغوسلافيا السابقة، لم يبالِ الصرب بحقائق من نوع أن المسلمين البوسنيين لا يتميزون عرقياً عن الصرب وأنهم ينطقون باللغة الصربية - الكرواتية مثلهم، وأن تاريخ الجماعتين مشترك إلى بضعة قرون خلت عندما حتمت ظروف الاحتلال العثماني للبوسنة انتقال قسم من أهلها إلى الإسلام. فاخترعت الاختلافات اختراعاً ووضع المسلمون في خانة الدخلاء الغرباء الذين يقيمون في البلاد كبقايا للمحتل الأجنبي. ومفهوم أن عملية التبخيس والأبلسة والنفي إلى خارج أي إطار مشترك، كانت جزءاً من عدة الحرب الأيديولوجية والميدانية ضد مسلمي البوسنة.

وفي سورية اليوم، نشهد أمثلة متقدمة من كل ما سبق. ومع تعدد مـسارات الثورة، تتعدد حقول المواجهات الأيديولوجية.

هناك أولاً العلاقة الطائفية التي عادت بقوة إلى الواجهة على رغم طول إنكار. وخلافاً للفكرة السائدة منذ أعوام طويلة عن دور أبناء الأقليات الريفية الذين انضموا إلى الجيش وصعدوا سلم رتبه في الأعوام الأولى للاستقلال، ومنهم جاءت الشخصيات التي حكمت سورية منذ خمسين عاماً، على الضد من رغبات الفئات البورجوازية المدنية في دمشق وحلب، يأتي الآن من يقول إن هؤلاء العسكريين كانوا الضمانة السورية في وجه بداوة زاحفة من الشرق، وتتسربل بلباس أبناء سورية في حين أن ولاءها الحقيقي يعود إلى القبيلة ومركزها الواقع وراء الحدود. في هذه المقولة تفسير لعوامل عدة في جملة واحدة. فهنا نعثر على سبب انتفاضة الريف السوري، الغالبة عليه بداوة غير وطنية. والريف، لعلة بداوته، يدين بالولاء للخارج. أما الفئة الحاملة المشروع الوطني، وعنوانه الوحيد هو الجيش العربي السوري – على ما تجمع فئة واسعة من مؤيدي النظام منهم السفير السوري لدى الأردن اللواء بهجت سليمان والكاتب «المعارض» بسام القاضي وصاحب موقع «الجمل» الإلكتروني نبيل صالح - فمكرهة على نشر «الحضارة السورية» (نبيل صالح) في مواجهة البداوة الوافدة، ولو بالقوة.

ثانياً، تقلب هذه الرؤية علاقة الريف - المدينة المعقدة في سورية والتي لا تخلو من نوازع إلى الثأر والهيمنة، خصوصاً دور الضباط الآتين إلى المدن من الساحل وعائلاتهم القريبة، إلى علاقة دفاع عن الكيان الوطني الذي انطوى في جينات عائلات الضباط هؤلاء واندثر عند غيرهم بفعل فتح الأبواب مـشرعة أمام كل من هبّ ودبّ من الوافدين العرب وغير العرب.

ثالثاً، تغير معنى «العروبة» الكلاسيكي من رابطة قومية وثقافية لكل العرب «من المحيط إلى الخليج». قسّم التغير المذكور أهل العروبة إلى فئتين: العرب «الأصيلين» الحاملين الهم الكربلائي بمعنى الإيثار والحرص على المصلحة القومية العليا، و «عربان النفط والغاز» الموالين لجهات من «أعداء العروبة الأصيلة» التي يدافع عنها الرئيس بشار الأسد وصحبه المنتجبون.

رابعاً، يظهر هنا المستوى الـفلسفي - إذا جاز التعبير - الذي يرفض في العمق أي تغيير على المشهد المـسـتقر منذ نـصف قرن، ويناهض بعض المقولات التي روّج أنصار هذا الـطرح لها، فيغلب عندهم «الثابت» على «المتحول» ويـشيحون أبصارهم عن الحقائق الموضوعية البسيطة في الاجتماع والتاريخ التي تفترض استمرار التحولات والتناقضات طالما استمر بـشر على هـذه الأرض، بذرائـع تجـنح ضمناً إلى تـحـقير تاريخ الآخر وتسلبه الحق البديـهي في الاعتـراض على «ثــبات» اصطنع بالـقوة الـعاريـة وحلم صـنّاعـه بألا يحول أو يـزول.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يؤكد حصول «تغييرات طائفية وعرقية» في سوريا
انقسام طلابي بعد قرار جامعة إدلب منع «اختلاط الجنسين»
نصف مليون قتيل خلال أكثر من 10 سنوات في الحرب السورية
واشنطن تسعى مع موسكو لتفاهم جديد شرق الفرات
دمشق تنفي صدور رخصة جديدة للهاتف الجوال
مقالات ذات صلة
سوريا ما بعد الانتخابات - فايز سارة
آل الأسد: صراع الإخوة - فايز سارة
نعوات على الجدران العربية - حسام عيتاني
الوطنية السورية في ذكرى الجلاء! - اكرم البني
الثورة السورية وسؤال الهزيمة! - اكرم البني
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة