الثلثاء ٢٦ - ١١ - ٢٠٢٤
بيانات
التاريخ:
آذار ٥, ٢٠١٣
الكاتب:
زياد ماجد
المصدر:
nowlebanon.com
تماثيل
أكثرُ ما حاول الاستبداد أيام مؤسّسه حافظ الأسد السعي إليه في سوريا هو "ترويض الزمن". زمن الناس الذين يحكم، وزمن الفعل السياسي الذي يقود بهدف تأبيد الحُكم في شخصه وعائلته وإظهار الوقت عنصراً مضبوطاً الى ساعته، يسيّر العقارب أو يوقفها وفقاً لتوقيت الجلوس (الانقلاب) أو فرض السطوة أو التوريث أو "الاحتفال بالإنجازات".
وليس اختياره شعارات مثل "الرئيس الخالد" أو "القائد الى الأبد" أو تعمّد ربط اسمه بشهرين على الأقل من السنة (شهر آذار وشهر تشرين) وما يعنيه الأمر من تعاقب استعادات زمنية سنوياً، إلا دليلاً على هذا الهوس بالتغلّب على الوقت ووظائفه السياسية. ويضاف الى ذلك بالطبع حصاره المواطنين بالسلاح والسجون وغرف التعذيب وصور التلفزيون وأصوات الراديو والملصقات العملاقة وطقوس الولاء والانضباط في المدرسة والكشافة والطلائع وفي الإدارة والجيش ومجلس الشعب، وجميعها وسائل إقناع بسيطرة على الدقائق وبحضور في مختلف الأمكنة والمراحل لا يحدّه ليلٌ ولا تعدّل في نفوذه فصول أو أعوام.
ولعل الوسيلة التي استكمل بها الاستبداد الأسدي احتلال الزمن وسحق الناس، كانت التماثيل الكبيرة. تلك التي راحت تحتلّ ساحات المدن منذ أواخر السبعينات ليسود حضورها في حقبة الثمانينات، بعد مواجهة النظام لمعارضين كثر وبعد مجازر حماة وتدمر. وقد حاول من خلالها القول لجميع السوريّين إن عيونه لا تنام، وإن تماثيله كائنات حيّة مصنوعة من لحمه وعينَي كل تمثال تراقب الناس وتُحصي أنفاسهم، وإن لا فرصة لهم في الإفلات من حكم صاحب التماثيل، أو من حكم التماثيل إياها. فالأخيرة تجسيد لقوّة السلطة، لبقائها وتغلّبها على الزمن، وكل مسّ بها هو مسّ بإطلاقية المتسلّط ولازمنيّته.
لكل هذا، ولأن التماثيل هي من شروط اكتمال حضور المستبد واحتلاله الزمن والبلاد، ولأن التصرّف تجاهها خوفاً أو تظاهراً بالانصياع أو تأفّفاً صامتاً يكرّس رهبتها وتسيّدها (ويؤمّن الطاعة التي تحدّثت عنها الباحثة ليزا ويدين في كتابها الشهير "Ambiguities of Domination")، فإن الانقضاض عليها وتحطيمها هو تحطيم لكل منظومة الإخضاع التي ابتناها الاستبداد، وهو استئناف للزمن وإحياء للوقت وتظهير لموت "الأبد" الذي هجس المستبدّ به وحاول تملّكه وتحويله هوية أو صفة ملازمة لحكمه ولمُلكه.
البارحة، حطّم أهل الرقة في شمال سوريا الشرقي واحداً من أكبر تماثيل الأسد الأب الجاثمة على صدورهم.
وقبلهم حطّم أهل كثرة من المدن والبلدات تماثيل متعدّدة الأحجام والألوان. أعلنوا أن العهد الأسدي انتهى وأنه أصبح كما حطام تماثيله عرضة للأقدام.
البارحة، وُلد سوريون جدد من أعمار مختلفة بعد أن استعادوا الحياة التي جمّدها لعقود طويلة تمثال في قلب مدينتهم.
والبارحة، اكتشف سوريّون جدد أن تحطيم التماثيل هو فعل تحرّري رائع، وأن الفرحة بالدوس على تمثال "عملاق" لن تعادلها سوى الفرحة بالخلاص من باقي أشباهه، الحيّ منها والمحنّط...
الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك
اطبع الكود:
لا تستطيع ان تقرأه؟
جرب واحدا آخر
إقرأ أيضا للكاتب
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
فلسطين العصيّة على الممانعة والتطبيع
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
عن بكركي والمعارضات اللبنانية
أخبار ذات صلة
تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يؤكد حصول «تغييرات طائفية وعرقية» في سوريا
انقسام طلابي بعد قرار جامعة إدلب منع «اختلاط الجنسين»
نصف مليون قتيل خلال أكثر من 10 سنوات في الحرب السورية
واشنطن تسعى مع موسكو لتفاهم جديد شرق الفرات
دمشق تنفي صدور رخصة جديدة للهاتف الجوال
مقالات ذات صلة
سوريا ما بعد الانتخابات - فايز سارة
آل الأسد: صراع الإخوة - فايز سارة
نعوات على الجدران العربية - حسام عيتاني
الوطنية السورية في ذكرى الجلاء! - اكرم البني
الثورة السورية وسؤال الهزيمة! - اكرم البني
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة