الأحد ٢٤ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: شباط ٢١, ٢٠١١
المصدر: جريدة المستقبل الللبنانية
 
التحدي المفروض على ثورات 1848 العربية: مع الدولة الوطنية الحديثة أم ضدّها؟ - وسام سعادة

كم كان روبيرت فيسك مخطئاً عندما قلّل، في اليوم الثاني على إنتصار "ثورة الياسمين" التونسية من إحتمال إنتشار العدوى. كم كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مخطئاً بدوره عندما توقّع أن ينحصر الزلزال العربيّ في بلدان محور الإعتدال دون بلدان محور الممانعة، كما لو أنّ الجماهير التي يوحّدها الجور والظلمة والجوع يمكنها أن تقسّم "فوقياً" على هذا الأساس.


والحال أنّ ربيع الشعوب العربية والشرقية لعام 2011، يذكّر كثيراً بربيع الشعوب الأوروبية لعام 1848، سواء من حيث إنتشاره كالنار التي تنشب في الهشيم، أو من حيث المطالب الديموقراطية المتصلة (مع تسجيل خطورة حديث القاصي والداني عن شرعية ثورية كيفما اتفق)، أو من حيث النقيضان اللذان يفرزهما الحدث في كل بلد وعلى إمتداد المنطقة، حيث يتبلور الخطّ الديموقراطيّ الليبراليّ التقدميّ من جهة، ويتعزّز الخطّ الشعبويّ الممانعاتيّ من جهة أخرى، ويُفرَضُ على التيّار الإسلاميّ التقليديّ وجوب الإختيار بين أحد نموذجين، فإمّا التطوّر في الإتجاه الإيرانيّ كتيار ثيوقراطيّ إنقلابيّ، وإمّا التطوّر في الإتجاه التركيّ كتيار ديموقراطيّ محافظ.


هذا مع إضافة ملاحظتين، أُوْلاهما أنّ الربيع الديموقراطيّ العربيّ والشرقيّ لم يزل قاصراً عن طرح القضية الإجتماعية بشكل حقيقيّ في أي من البلدان العربية.


والملاحظة الثانية، أنّ "مبدأ القوميّات" الذي كان أحد أهم محاور ثورات 1848 الأوروبية يطرح نفسه، وإن بشكل مختلف في عالمنا العربيّ والشرق أوسطيّ اليوم: فمن جهة، يأتي الربيع الديموقراطيّ في كل بلد ليستنهض أواليات تحقق الدولة الأمّة، فكما عنت ثورة الأرز اللبنانية معادلة لبنان أوّلاً بالنسبة إلى اللبنانيين، فقد جاءت ثورة الياسمين التونسية لتجدّد الثابتة البورقيبية بأن تونس أولاً، وجاءت ثورة أبناء النيل المصرية لتجدّد الإرتباط بين إستعادة مصر لدورها المحوري في المنطقة وبين استئناف تطورها الدستوريّ.


لكن مبدأ القوميات عام 1848 طرح نفسه في أوروبا بشكل مختلف في البلدان الموحدة قومياً، وفي البلدان التي تأخرت وحدتها، وهو ما فرق نوعاً من التوتّر الداخليّ على الحركتين القوميتين الألمانية والأيطالية أمّن لاحقاً المجال الحيويّ لظهور الفاشية والقومية الإشتراكية. من دون الذهاب في "الإسقاط" إلى خواتيمه، فمن الضرورة التفكير منذ الآن في كيفية التعامل مع هذا الوعي بالإنتماء إلى مشترك ما من المحيط إلى الخليج، وفي كيفية الحؤول دون أن يكون هذا المشترك مادة جديدة للحركات المعادية للديموقراطية والمحاكية للنموذجين الفاشيّ أو النازي.
وما ينبغي ألا يغيب عن البال أنّ تونس ومصر هما من البلدان القليلة في العالم العربي التي حسمت الهوية الكيانية لصالح اقتباس نموذج الدولة الحديثة، أي نموذج الدولة الأمّة، وذلك قبل أجيال من نيل الإستقلال الوطنيّ. إنّ عدم وجود مشكلة كيانية في تونس أو في مصر هو الذي سهّل أمور الربيع الديموقراطيّ فيهما، ووضع التاريخ على سكّته الصحيحة.


والحال أنّ مقاربة الممانعين، خصوصاً التابعين منهم للنظام الإيرانيّ عندنا، للتغيير في تونس ومصر قلبت معادلات الواقع رأساً على عقب: فبدلاً من الإقرار بأنّ نموذج الدولة الأمّة، أي "تونس أولاً" و"مصر أولاً"، هو الذي سهّل إسقاط نظام الحزبين الحاكمين المزمنين، تصوّر الممانعون أنّ ما يسقط هو إعتدال هذين البلدين.
ويبقى ان البلدان الأخرى التي تجتاحها العدوى بعد تونس ومصر هي إمّا بلدان تعتورها مشكلة كيانية، هائجة أو مكبوتة، وإمّا مصابة بأنظمة أيديولوجية تقمع شعوبها تحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" وفي ظلّ الإحتكام في الكبيرة والصغيرة لنظرية المؤامرة، وبالتالي هي أنظمة مستعدة لسفك دماء كثيرة بداعي حماية الثورة والذود عن سلطة الشعب ومكافحة الإمبريالية ومنع عودة الإستعمار.


بالتالي، فنحن ندخل الآن إلى القسم الأكثر حيوية وأكثر خطورة في آن من الـ1848 العربية والشرقية، وهو قسم يواجه بقمع أشدّ، كما بات واضحاً بإزاء ما يقاسيه الشعبان المنتفضان ضد النظامين الممانعين في ليبيا وإيران، أو هو قسم يفتح على إحتمال فوضى كيانية، كما هي الحال في اليمن والبحرين.


وبعد، لا يمكن أن نزيد على العقيد معمّر القذافي في وصفه جموع الناس في مجموعته القصصية "القرية القرية" حيث يقول: "كم أحب حرية الجموع، وانطلاقها بلا سيد وقد كسرت أصفادها، وزغردت وغنت بعد التأوه والعناء، ولكني كم أخشاها وأتوجس منها!" ويضيف: "كم هي قاسية في لحظة الغضب، فتآمرت على هانيبال وجرعته السم وقدمت بطلها دانتون للمقصلة وحطمت فكي روبسبيير خطيبها المحبوب وجرجرت جثة موسوليني في الشوارع".



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة