الجمعه ٢٠ - ٩ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: شباط ٢٠, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
 
العالم العربي إلى الأمام ولبنان إلى الخلف - منى فياض

ما الذي يجمع بين انتفاضة الارز 2005 وانتفاضة شباب 25 يناير وما الذي يفرقهما؟
في الحقيقة صرت أجد اللعبة السياسية في لبنان في منتهى السخف ومنتهى التخلف عن العصر ومتطلباته وتطلعات شبابه.

ففي الوقت الذي تنطلق فيه الشعوب العربية أخيراً، والشعب المصري العظيم خاصة، نحو المستقبل الذي طالما حلمنا بوصوله إلينا بحيث يفكر واحدنا بأنه محظوظ لأنه لم يفن قبل معايشة هذه الثورة التي نأمل نجاحها، نجد أننا في لبنان نمكث في مستنقعنا المذهبي الراكد وفي انقساماتنا الأسوأ من قبلية وفي استتباعنا المخزي للخارج. ولا فرق هنا بين خارج قريب او بعيد، بين مستبدين مدعين الممانعة ومستبدين حاملين راية الاعتدال. بين من يتوقون لمصالحة الولايات المتحدة سراً ومن تتخلى عنهم الآن غصباً، لأنها أذكى من أن تقف ضد الشعوب التي يصادرونها وينطقون باسمها؛ ولأنها كنظام براغماتي تعرف أن وقوفها مع الاستبداد علناً ليس من "مصلحتها" في المدى البعيد.


نحن نعتمد على خارج مستبد ومتماثل في التعامل مع شعوبه وفي استغلالها واستغلالنا ولا يحارب اسرائيل سوى بالكلام ولا يعرف أن يحارب سوى شعبه في الداخل. ومع ذلك ومع اعتمادنا على هذه المنظومة السيئة الذكر، ننسب الى أنفسنا الديموقراطية والحرية ونفاضل بين أنواع هذا "الخارج" المتماثل طبق الأصل.


ونتساءل في لبنان، لماذا لا يظهر أي أثر لانتفاضة 2005 على ما يحصل في تونس ومصر؟ مع أنها شكلت أول انتفاضة مدنية سلمية وغير عنفية في العالم العربي، بحيث استطاعت تحرير لبنان من الهيمنة السورية ؟  لا بد في البداية من القول أنها أثرت لا شك، ففي الشكل هناك الكثير من أشكال التعبير المشابهة لتلك التي استخدمت هنا تظهر في مصر ومستمدة من تراث هذه الانتفاضة. لكن مع فارق مهم، فثورة الشباب المصري يمكن أن نعدها تتويجاً ناضجاً لكل نضالات الشعوب من حولنا وهي لا بد تعلمت الكثير من الدروس التي تحاول الاستفادة منها وتطبيقها عملياً لكي لا يتم إجهاضها كما حدث في لبنان، وكما حدث اخيراً في شوارع طهران التي مع ذلك ينسب مرشدها ثورة المصريين إلى نموذج ثورته في الوقت الذي لا يمنح فيه لجماهيره مجرد حق التظاهر السلمي بعد أن واجههم بطريقة فاقت طريقة مواجهة النظام المصري العميل على حد تعبيره. على كل حال ساهم هذا القمع بالذات في ابتعاد الشعب المصري والشعب التونسي عن هذا النموذج الإسلامي الفاشل. أول ما قاله الغنوشي في تونس: لست الخميني. وسوف يقال مثل هذا في مصر على الارجح مع الاستفادة من الدروس. 


ثم هناك اختلاف في ظروف نشأة الانتفاضتين، فأولاهما تفجرت في ظل اغتيال سياسي جاء في سياق مسلسل قتل واغتيالات طويل جداً يعود الى بداية تأسيس الجمهورية ومع اغتيال أول رئيس حكومة للبنان. وهي انتفاضة بدأت ضد الاغتيال السياسي المستخدم كطريقة منظمة من أجل السيطرة على الدولة وعلى لبنان والذي من الضروري محاكمته.


وهنا يجب الاعتراف بأن المقاومة و"حزب الله" شكلا في البداية مثالاً ونموذجا للعرب ولجميع الثوار في العالم؛ ولكن أي ثورة حقيقية سوف تجعل مثالها مقاومة انتقلت من مقاومة إسرائيل إلى مقاومة أكثر من نصف شعبها فتهدده ضمنا أو علناً وتوجه سلاحها إلى الداخل الذي تزعم الدفاع عنه؟ أو تتخذ مثالاً حزباً فئوياً دينياً شيعياً يرهن وجوده ويعلن ولاءه لنظامين مستبدين. وأي ثورة سوف تقف مع فئة وضعت يدها على الدولة اللبنانية عبر استخدام القوة لمنع من حصل على الأكثرية في انتخابات شرعية ونزيهة مهما كانت صفته؟ أليست الانتخابات النزيهة أحد أهم مطالب الثورات في هذا الزمن؟
لم نعد نشكل مرجعية ولا مثالاً لأحد. وهذا تطور يحسب لمصلحة الثورة الشبابية المصرية.


أما عن إنتفاضتنا المجهضة، فحدث ولا حرج، لقد تم إجهاضها بأيدي الناطقين باسمها قبل أن يقوم بذلك منافسوهم من الطرف الآخر. وذلك لأسباب عدة، منها ما يتعلق بمن عيّن نفسه قيماً عليها وبسبب من النظام الطائفي العائلي الذي فشلنا في أن نطوّره أو نسد عوراته وللظروف والتهديدات الامنية المعلومة. وهي انتفاضة لم تعرف أن تجد لنفسها قيادة جديدة شابة تصرّ على مطالبها كما هي الحال في ميدان التحرير وترفض حتى الحكمة عندما تتخذ طابعاً تنازلياً. انتفاضة بدأت بالتنازلات والمساومات مع انطلاقتها نفسها. وأكمل الإجهاز عليها الانقسام الكبير الذي حصل لاحقاً على مستوى لبنان وتحت عناوين وطنية كبيرة ليس أقلها المقاومة والتحرير؛ لكن في الواقع هي انقسامات مذهبية وعصبية ومصلحية وعلى قاعدة ولاءاتنا وتبعياتنا المخزية للخارج؛ فكل فريق يستتبع نفسه لمنظومة ولا يؤمن بإمكانية استمراره من دونها. لا أحد يؤمن بقدرة الشعب الذي ينطق باسمه، بل يجري استغلاله واستتباعه لمصالح ضيقة ووزارات مجزية تحت شعار التعفف والاصلاح ومحاربة الفساد.
بينما ثورة شباب 25 يناير هي ثورة على الفساد وعلى الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتردية التي جعلت كرامة المصري ممرغة تحت أقدام طبقة حاكمة متواطئة زاوجت المال بالسلطة بشكل تجاوز كل حدود للمنطق. وجعلت الشعب المصري هائماً على وجهه يعرّض نفسه للموت غرقاً إما  في عبّارات رجال النظام دون أن يطرف لهم جفن، وإما في الزوارق غير الصالحة حين يطفش الشباب الى الشمال في ظروف لا تليق حتى بالحيوانات فيغرقون قبل بلوغهم شواطئ الجنة الاوروبية كما حصل مرارا في الطريق الى ايطاليا.


هناك من يحصر سبب هذه الثورة بالموقف السياسي وبأنها من أجل الكرامة، وكأن الكرامة تكون محفوظة عندما تنهب ثروات الشعوب ويحوّلون الى شحاذين في بلدهم وعلى ابواب الله. رحم الله شوشو. اعتدنا أن الكرامة تنحصر في محاربة إسرائيل، خاصة لفظياً!! حسناً يعلمنا الشباب المصري أن الكرامة أوسع وأعمق وأصدق من هذا.
الكرامة كل لا يتجزأ وهي تعني حياة حرة وكريمة بكل معاني الكلمة. الكرامة تعني أيضاً رفض القمع الداخلي خاصة وقبل الخارجي من أي طرف جاء ورفض انتهاك الحقوق السياسية ورفض فرض الظروف المعيشية غير اللائقة وليس فقط محاربة اسرائيل وشتم أميركا.


لم تعرف انتفاضة 2005 أن تبلور مطالبها كما يجب، وهناك عذر مخفف هو سيف الاغتيال المصلت ووقوف فئة مهمة من الشعب مع المطالبة بالهيمنة. مع ذلك لا يمكن أن تنجح انتفاضة تنضوي تحت جناح الطبقة السياسية التقليدية المشكو منها نفسها ومن جيل الشيوخ أو وارثيهم. ذلك لا يعني رفض مشاركتهم فهم جزء من الشعب، لكن رفض جعلهم أوصياء بأدواتهم الطائفية ومصالحهم الضخمة والمتضخمة.


الجيل المصري الشاب هو الذي يمسك بزمام الأمور ولا يتراجع مع مطالبه التي تتبلور وتتجذر بسبب تحجر النظام وعنفه. الشباب اللبناني لم يقدّر له التعبير كما يجب عن طموحاته ولم يتمثل في أي مرحلة وعلى أي مستوى. لكن الشباب المصري هو نواة الثورة وخميرتها وهو من فاجأ الجميع في قدرته على التحرك انطلاقاً من الفايس بوك، ومنذ واقعة قتل زميلهم البشعة خالد سعيد في تموز الماضي تحت أعين الناس وأبصارهم، ولم يتلق مجرمو الشرطة المسؤولون عن مقتله أي عقاب، بل وزعم التحقيق انه مات اختناقاً لابتلاعه كيسا من المخدرات خوفاً من الشرطة.
بالطبع شكلت ثورة تونس، التي سيحفظ لها التاريخ مكانتها، مرجعية شباب الفايس بوك ومحركهم المباشر. لقد تفاجأ جيل الفايس بوك هو نفسه من نجاحه الساحق وهو تعلم كيف يصمد لأن تراجعه يعني سحقه وإعدامه كما يحصل مع الاعدامات المستمرة في طهران للشباب الذي اشترك في تظاهرات 2009.


للأسف إن أفضل ما فعلناه في تجربتنا المستمرة من عام 2000 إلى اليوم هو تقديم الوصفة السحرية التي تريح إسرائيل، والأنظمة المستبدة التي تتبادل الدعم معها سواء في العلن أو في السر، وهي وصفة الانقسام الديني والطائفي والمذهبي.
ويتبين يومياً أن مشكلة الأقباط مفتعلة من أساسها وأن لا وجود للانقسام بين الاديان في مصر وأن هذا الانقسام هو ما كان يسعى إلى افتعاله النظام نفسه وسوف تبين الايام ربما ذلك، وهذا ما يعرفه كل مصري. هناك اجحاف في الحقوق للاقباط بالطبع، لكن هذا ينطبق على غالبية الشعب المصري.


وهنا بيت القصيد. لماذا كان النظام المصري يسعى الى افتعال هذا الانقسام الديني وتأجيجه؟ لنجاعة الوصفة اللبنانية التي برهنت على أنها أفضل وسيلة للقضاء على كل المكتسبات التي حققها اللبنانيون بأجمعهم؟ سواء التحرير الأول أم التحرير الثاني؟ انقسامنا هو أفضل وصفة للحفاظ على مصالح إسرائيل والغرب وجلب الاطمئنان الى استنقاع هذه الشعوب في تناحرها كما لو كانت شعوباً بدائية.
لا أريد إلقاء مسؤولية حروبنا الداخلية على إسرائيل، بل العكس أريد الاشارة الى اننا مسؤولون عن وضعنا ونجحنا في مهمتنا بحيث صرنا نُستخدم نموذجا ممتازاً للتطبيق لإفشال الشعوب وسحقها. ألسنا نحن من نقتل ونقمع بعضنا بعضاً ونريح العدو؟


لم تنجح انتفاضة 2005 في التخلص من الهيمنة الخارجية بل لجأت الى "الحمايات الخارجية" على أنواعها مقابل الفريق اللبناني الآخر المنتمي هو نفسياً وعضويا للخارج.
العربي الشريف يقع حائراً أمام هذا الانقسام اللبناني. لكن هناك من ينخرط فيه لأنه من مصلحته. وكلما أمعنّا في انقسامنا كلما تجذر وصار غير قابل للحل إلا على حساب وحدة الوطن ومستقبله.
ثورة 25 يناير هي في جوهرها تخطٍ لهذا الانقسام وهم لا يعانون منه أصلاً ولأنهم أمة كبيرة غير خاضعة لاحتلال سواء أكان أخوياً أم غير أخوي. هم يخضعون لشروط سلام ولاتفاقيات ربما سيجدونها مجحفة أو غير مطبقة كما يجب وهذا ما تخاف منه اسرائيل وهذا ما تخاف منه الولايات المتحدة التي تدعم الاصلاح البسيط بالطبع للسيطرة على الشعوب واستغلالها بطريقة ذكية، ولكنها لن تدعم الديموقراطية الجذرية الحقيقية التي يريدها لنفسه الشعب المصري إلا مرغمة ودون أن تُسأل عن رأيها.


الانظمة العربية خائفة من شعوبها من الآن فصاعداً. فلماذا سوف تخاف الطبقة اللبنانية الحاكمة سواء أكانت من 8 أو من 14 طالما ان الشارع مقسوم ومتحفز ضد مماثليه دفاعاً عمن يحكمون باسمه ويتركونه لمصيره في شظف العيش والبحث عن فيزا للهجرة عندما يريد أن يعيش كمواطن محترم؟
نحن نمشي عكس حركة التاريخ، الشعب المصري يثور، والشعوب العربية سوف تلحقه، ضد الحاكم المستبد الواحد وضد سيطرة الحزب الواحد والفاسد، فيما نحن ذاهبون الى حكم الاستبداد وحكم الحزب الواحد وحكم المستبد ولو الهزلي ... فعلام نريد أن نكون نموذجاً ولمن؟
نحن في انتظار جيل الفايس بوك الذي سوف ينتفض على الطوائف والمذاهب ومهازلها، جيل شبيه بجيل؟
وائل غنيم الذي قال لـ"السي ان ان"، "اؤكد لك انني مستعد للموت". وقال "لدي الكثير اخسره في هذه الحياة" موضحا "انني اعمل في افضل شركة في العالم، لدي افضل زوجة واحب اطفالي، لكنني مستعد للتضحية بكل ذلك من اجل تحقيق حلمي، ولن يقف احد في وجه تحقيق تطلعاتنا، لا احد". لم يعد لدينا من أمل سوى انتظار ثورة جيل الشباب مستلهماً الروح المصرية الجديدة.
فهل نعيش لنرى؟

 

(استاذة جامعية) 



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة