عمان - رنا الصباغ
في ختام دعاية انتخابية ضعيفة رفعت خلالها شعارات خيالية بعضها بنكهة دينية ووعود إقليمية تخاطب مجتمعاً منقسماً حول هويته السياسية، يختار الأردنيون الثلاثاء مجلس نواب جديداً تغيب عنه المعارضة المنظمة في ظل مقاطعة الإسلاميين احتجاجاً على قانون انتخابات موقت حسّن الإجراءات الإدارية من دون ان يمس جوهر عملية الإصلاح السياسي الموعود. في ربع الساعة الأخير، تجاهد حكومة الشاب سمير الرفاعي (ذات غالبية سياسية محافظة) لرفع نسب المشاركة في «العرس الديموقراطي»، بخاصة بين الشباب وسط توقعات بأن تنخفض المشاركة على نحو لافت عن معدل الانتخابات الأخيرة التي كانت 56.2 في المئة. ودرجت العادة ان تنخفض نسب الإقبال في عمان ومدن رئيسة ذات كثافة سكانية مختلطة مثل الزرقاء وإربد مقابل ارتفاعها في قرى وبوادٍ نائية ذات غالبية سكانية متجانسة.
لكن كثيرين يخشون أن تقل المشاركة عن 45 في المئة، أي ان تكون في حدود نسبة انتخابات 1997، التي قاطعها التيار الإسلامي أيضاً لتحفظه على قانون الانتخاب الصادر عام 1993، بعدما هيمن على ربع مقاعد أول مجلس نواب بالتزامن مع عودة الحياة الديموقراطية عام 1989.
الحكومة أعلنت من البداية أن هدفها الرئيس انجاز انتخابات حرة، نزيهة وشفافة، بموجب القانون وإعادة الثقة بالمجلس النيابي وسائر المؤسسات الدستورية وتعزيز «هيبة الدولة» عقب ممارسات تزوير واسعة شابت انتخابات 2007، قيل لاحقاً إنها كانت ضمن إستراتيجية عليا للدولة استهدفت تحجيم التيار الإسلامي المقرب من حركة «حماس» الفلسطينية، والإتيان بوجوه جديدة ليبرالية تؤيد أجندة الإصلاح الإشكالي.
اليوم أضحت مسألة استعادة الثقة الشعبية بمؤسسات الدولة وفصل السلطات ضرورة إستراتيجية لضمان أمن الأردن واستقراره، لا ترفاً سياسياً، بحسب وزراء عاملين. لكن الحكومة أخرجت قبل ستة أشهر قانون انتخاب موقتاً أعدّ بسرية ومن دون التشاور مع مكونات المجتمع، وأبقت على آلية الصوت الواحد، ما ساهم في تأزيم المشهد السياسي. وأدخلت مفهوم الدائرة الوهمية لمقعد واحد بدل الصوت الواحد المجتزأ، مبررة ذلك بضيق الوقت لإعادة تسجيل الناخبين، وترسيم الدوائر الانتخابية وغياب التوافق المجتمعي على شكل الأردن الجديد وهويته، علماً أن قوانين الانتخاب لا تزال موقتة منذ عام 1947.
هذه العوامل، معطوفة على أجواء الإحباط السياسي الشعبي جراء انسداد أفق قيام دولة فلسطينية مستقلة، وتردي الأوضاع الاقتصادية وتنامي ممارسات الفساد الإداري والمالي ساهمت في عزوف شرائح واسعة عن المشاركة في الانتخابات الحالية إلى جانب مقاطعة حزب جبهة العمل الإسلامي. هذا الحزب، وهو الذراع السياسي للإخوان المسلمين، يتمتع بنفوذ بين غالبية الأردنيين من أصول فلسطينية تعارض عملية السلام بين العرب وإسرائيل. على أن قانون الانتخاب الأخير لم يكن وحده سبب مقاطعة الإسلاميين، بحسب سياسيين ومسؤولين. فهو بات محل صراعات داخلية على خلفية إقليمية ضيقة وصلت حدوداً حرجة. والحزب يحاكم حالياً ثمانية مرشحين خالفوا أوامر المقاطعة ونزلوا كمستقلين في معركة يتنافس فيها 763 مرشحاً بينهم 134 امرأة.
لذلك، يصر الرفاعي وغالبية وزرائه على أن نسب المشاركة لن تشكل مقياساً للنجاح في نهاية المطاف. فالأولوية، بالنسبة الى مجلس الوزراء، ضمان إجراء انتخابات نزيهة وحيادية تضع البلاد على سكة إصلاحات سياسية تدريجية وتحفّز المشاركة بكثافة في انتخابات 2014، بعد اجتياز تمرين انتخابي تنتزع فيه الحكومة شهادة حسن سلوك من الشارع. علماً ان جهات داخلية وخارجية بدأت بمراقبة العملية الانتخابية حتى قبل بدء مرحلة التصويت وإعلان النتائج.
يوم الخميس الفائت، قال الرفاعي خلال غداء عمل مع مجموعة كتّاب وصحافيين حضرته «الحياة» إنه يأمل بأن تكون الانتخابات انطلاقة «لمجلس نواب يكون شريكاً مهماً في عملية الإصلاح الشامل بحسب «رؤيا» الملك عبدالله الثاني، الذي غيّر سبعة رؤساء حكومات منذ ان اعتلى العرش عام 1999.
وشدّّد الرفاعي على أن الحكومة سترسل أكثر من 50 قانوناً موقتاً أقرّتها خلال الشهور الخمسة الماضية، بما فيها قانون الانتخابات الإشكالي، إلى المجلس لمناقشتها وإقرارها بعد جلسات حوار مستفيض. وتابع: «لن نضحي بالنزاهة في سبيل رفع نسب المشاركة أو أي شيء آخر… فالملك أمر الحكومة بإجراء انتخابات تكون مثالاً في النزاهة، وأذرع الدولة كافة مقتنعة وملتزمة بذلك ونحن نقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين. والمواطن، سواء انتخب أو لم ينتخب، سيشعر بأن صوته موجود في المجلس المقبل وأن المجلس النيابي سيمثّل جميع الأردنيين بغض النظر عن نسب المشاركة».
وقبل أن يغادر، أعلن أن الجهات المعنية طلبت أول مرشح للتحقيق في شبهة المال السياسي، وأحالت ثلاثة أشخاص آخرين إلى القضاء بتهمة بيع وشراء الأصوات وحجز البطاقات. هذا أول تطبيق معلن للقانون الموقت الذي جرّم وحظّر عملية شراء وبيع الأصوات وتقديم التبرعات أو المساعدات العينية والنقدية تحت طائلة السجن حتى سبع سنوات.
لكن الصورة على أرض الواقع تختلف كثيراً. فحسن النيات والوعود الواضحة تبقى قاصرة.
خلال الأسابيع الماضية، تسلل الملل إلى جمهور عريض من الناس، حالهم حال بعض المرشحين. ولم ير الأردنيون غير الصور واللافتات. وغابت أجواء الحملات الانتخابية النشطة التي كان ينظمها التيار الإسلامي.
قال أحد المرشحين، وهو نائب منذ 1993، إن «حماسة الناخبين بدأت بالتراجع منذ تعديل قانون الانتخابات على أساس الصوت الواحد عام 1993 حتى وصل إلى الحضيض هذه المرة. الناخبون مصابون بحال من العزوف الواسع والمرشحون ضجروا من طول مدة الانتظار بخاصة أن الحملة الانتخابية بدأت منذ اشهر، وليس قبل ثلاثة أسابيع فقط»، هي مدة الترويج بموجب القانون.
ملامح المجلس الجديد بدت أكثر وضوحاً حتى قبل بدء بازار الدعاية الانتخابية على وقع استنكاف شرائح مجتمعية واسعة، تقول إنها فقدت الامل في مسار الإصلاح. يفاقم الوضع قانون موقت إشكالي للانتخاب، ونظام تقسيم دوائر مركبة تضيّع فرص بناء هوية سياسية ضمن قوالب حديثة تحاكي مفهوم المواطنة والحاكمية الرشيدة.
غالبية أعضاء المجلس الجديد (120 من بينهم 12 امرأة) ستصل استناداً الى دعم عائلاتها، وقوة المال السياسي والنفوذ الاقتصادي والمصالح المناطقية الضيقة في عملية تشارك فيها أحزاب وطنية، وقومية ويسارية وإسلامية وسطية. وخمس قوائم غالبيتها لم تنظم مهرجاناً انتخابياً عاماً باسم الحزب. نصفها يتكتم على ما يسميه قائمة مرشحيه السريين، بخاصة في مناطق النفوذ العشائري وينوون الإعلان عنهم في حال حالفهم الحظ بالفوز.
التقديرات الرسمية تقول إن 111 من المرشحين نواب سابقون شاركوا في غالبية المجالس خلال العقدين الماضيين، بمن فيهم 75 كانوا أعضاء في المجلس السابق الذي حل أواخر العام الماضي قبل انتهاء مدته الدستورية بعامين. غالبية المرشحين، بخاصة في المدن الكبرى، تشكو صعوبة تحفيز المشاركة الشعبية من دون تقديم حوافز مادية ووعود خدمية. ناخبون مسجلون يتنقلون من خيمة انتخابية الى اخرى لتناول المناسف (الوجبة الوطنية في الأردن)، أو لاحتساء القهوة والشاي في أجواء تشبه جلسات المقاهي أو الزيارات الاجتماعية المنزلية بعيداً من أمزجة معارك سياسية تشحذ همم الناخبين على أسس برامج عمل مقنعة تحاكي الهم الاقتصادي، والسياسي والاجتماعي.
وتشير التوقعات الى أن بين ثلث ونصف الوجوه التي جلست على مقاعد المجلس السابق ستعود إليه، وهو ما يزيد من فرص حل المجلس الجديد أيضاً قبل انتهاء مدته الدستورية، ذلك أن قواعد اللعبة السياسية لم تتغير. ما يطرح تساؤلات مشروعة في أوساط سياسية، وحزبية مراقبة عن أسباب حل المجلس الخامس عشر بصورة مفاجئة من دون إبداء الأسباب بعد تشكيل حكومة الرفاعي، مع أن تسريبات رسمية أفادت وقتها بأن السبب يعود إلى أنه لم يكن يحمل هم المواطن وتطلعات الناخبين وساهم في تعطيل عملية التحديث التي طاولت في غالبها الشق الاقتصادي. من هنا نشأ تساؤل: كيف ستشكّل هذه الوجوه النيابية المكررة، وسط أجواء عدم ثقة في دور المؤسسة الرقابية والتشريعية، مجلساً مختلفاً على قدر المسؤولية التي تتطلبها التحديات الداخلية والإقليمية التي تواجه الأردن؟
الولاءات التقليدية هي التي تحدد موقف الغالبية العظمى من الناخبين بحسب قانون الانتخاب الموقت، الذي صمم بحسب ساسة وحزبيين، ليتناسب مع استمرار سياسات الوضع القائم لا بهدف تغييره كما تقتضي عملية الإصلاح السياسي عبر بوابة المجلس. كل ذلك في انتظار حل للقضية الفلسطينية يساهم في تحديد أمر الولاء والانتماء عبر ممارسة حق تقرير المصير لنصف عدد السكان، ولو على الورق بسبب استحاله عودة اللاجئين والنازحين إلى قراهم ومدنهم التي هُجّروا منها منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948 لأن الدولة العبرية المدعومة من الولايات المتحدة ترفض ذلك.
أفرز عدد كبير من العشائر مرشحي إجماع أو تزكية حتى قبل الاستحقاق الدستوري. مقاعد أخرى حجزت مسبقاً بين كبار المرشحين بترتيبات ضمنية تم بموجبها تقاسم الدوائر الفرعية ضمن الدائرة الواحدة. دور المرأة كمرشحة ضعيف مع أن القانون الموقت ضاعف مقاعد الكوتا النسائية إلى 12.
«مقاطعون من أجل التغيير» بمشاركة شبيبة حزب جبهة العمل والوحدة الشعبية اليسارية، وهؤلاء يستغلون الفترة المتاحة للتحريض على المقاطعة والتنديد بسياسات الحكومة وقانونها الانتخابي. وهناك ضغوط مستمرة على المرشحين للحصول على الدعم والخدمات. عمليات شراء أصوات انتشرت على نطاق واسع في دوائر انتخابية قريبة وبعيدة من السلطة المركزية. ولم يساعد رفع مستوى العقوبات في القانون الأخير في الحد منها وسط شكاوى من ان الجهات الرسمية لم تبد حتى الآن الإرادة الكافية في مواجهة هذه التجاوزات. ووزارة الداخلية اكتفت بمطالبة «المدعين» بوجود تلك الظاهرة بتقديم الدليل القاطع «حتى لا يتهم الناس جزافاً». ظاهرة شراء الأصوات ليست الاستثناء، وهي غير مرفوضة أخلاقياً من ناخبين يكتوون بنار غلاء الأسعار والفقر والبطالة. ويقولون إن «النواب السابقين كانوا معنيين بتعظيم مكاسبهم الشخصية، فلماذا لا نستفيد على الأقل في تحسين أحوالنا»؟ عملية شراء الأصوات مورست في شكل لافت للمرة الأولى في انتخابات 2007 تحت أعين مؤسسات الدولة السيادية والأمنية...
في عمان ومدن كبرى، تشكل حاضنة للنشاط السياسي والاجتماعي، لم يتقدم أكثر من عشرة مرشحين معروفين على المستوى الوطني. وما تبقّى من أسماء لا تتوافر لديها سيرة في العمل العام أو الشأن الوطني. بعضهم رفع شعارات تحاكي اصطفافات إقليمية ضيقة غدت «ضمن الشعارات المطلوبة من جانب المراجعين»، بحسب مرشح يرفعها. ومقابل شعار «أردنة الأردن» هي السبيل الوحيد لمواجهة المشروع الصهيوني ومقاومة مخاوف خيار الوطن البديل للفلسطينيين في المملكة، رفعت شعارات تطالب بالمساواة في الحقوق وليس الواجبات فقط وطالبت بوقف «سحب الأرقام الوطنية» من أردنيين من أصول فلسطينية. بعضهم استعمل الشماغ الأحمر (رمز الشرق أردنيين)، على الرأس أو الكتف مقابل آخرين استعملوا ألوان العلم الفلسطيني على خلفيات صورهم الشخصية التي انتشرت في شوارع المدن الكبرى. آخرون من «الإسلاميين المستقلين» نشروا صوراً لهم إلى جانب القرآن الكريم وأحاديث نبوية، فيما رفعت رموز شعار «كلنا الأردن» الذي صدر عن القصر الملكي قبل سنوات.
قبل أيام من الانتخابات دخل الأمن العام والدرك في مرحلة تعبئة عامة، وحذّر المواطنين من أنه سيتعامل بحزم مع أي ممارسات غير قانونية في يوم الانتخاب الذي أعلن إجازة رسمية. وأعلن عن انتشار قرابة 20000 عنصر من قوات الدرك والأمن لتوفير الحماية بعدما شهدت الساحة الانتخابية خلال الأسابيع الماضية الكثير من الجرائم والاعتداءات على المرشحين وصلت الى حدود إطلاق أعيرة نارية إلى جانب عمليات تخريب وتمزيق يافطات واشتباكات بالضرب بين أنصار مرشحين ومشاجرات أحياناً داخل العشيرة الواحدة. وتجمع الأحزاب المشاركة والمقاطعة للانتخابات النيابية على أن قانون الصوت الواحد سبب أساسي في حوادث العنف المجتمعي المتنامي، بما فيها المرتبطة بالعملية الانتخابية.
ولكن على رغم أجواء الإحباط والعزوف وتنامي تيار المقاطعة، تواصل الحكومة شن حملة علاقات عامة واسعة لرفع نسب الاقتراع بين شرائح مجتمعية واسعة، لا سيما عنصر الشباب، تقول إنها فقدت الأمل في مسار الإصلاح الموعود وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في عملية صناعة القرار. ضم صوته إلى هذه الجهود السفير البريطاني جيمس وات، الذي حضّ الأردنيين على المشاركة في الانتخابات عبر مدونته الشخصية.
المجلس المقبل هو الذي سيقرر نوعية الإصلاحات السياسية وعمادها قانون انتخاب جديد. فهل ستتوسع تقسيمات الدوائر ويدخل مفهوم صوتين لكل نائب: للمرشح المفضل (مناطقي، عشائري، حزبي، مستقل) ونسبة أخرى للوائح وطنية قادرة على جذب أصوات مؤيدين لبرامج عمل واضحة تحملها التحالفات والأحزاب وتؤسس لمجلس سياسي قوي قادر على فرز حكومات مدعومة من تكتلاته الأساسية بدل استمرار آلية تدوير الوجوه والمقاعد بين طبقة سياسية تضمر يومياً.
الأكيد أن أي حكومة، لن تجد مطبّات في المسرب النيابي في غياب معارضة منظمة على أساس «المشاركة لا المغالبة»، وهو شعار الإسلاميين التقليدي. هذه المعادلة قد تحرم الحكومة من غطاء شعبي يفترض أن تتكئ عليه وتستمد منه القدرة على المناورة في حال فرضت تسويات سياسية على المنطقة ضمن طي ملف القضية الفلسطينية أو أي تحديثات أخرى قد تواجه البلاد.
لكن، هناك اجماع في الأوساط السياسية على أن جماعة الإخوان المسلمين هي الخاسر الأكبر من قرار المقاطعة. فهي لن تستطيع كبح جماح أو تعطيل أي قانون أو سياسة لا ترضى عنها لأن المعارضة الأقوى ليست في الشارع أو المسجد، إنما في مجلس النواب.
|