تهانى الجبالى هى القانونية الفذة، والمُحامية المتميزة، التى وقع الاختيار عليها قبل عشر سنوات لعضوية أعلى محاكم الديار المصرية، وهى المحكمة الدستورية العُليا. والجماعة هى الإخوان المسلمون، وحزبها «الحُرية والعدالة»، وهى الجماعة التى جاءت إلى صفوف ثورة الشباب مُتأخرة عدة أيام، وبعد أن أيقنت أن الثورة ستنجح بهم أو بدونهم، ومع ذلك نجحت هذه الجماعة فى اختطاف الثورة، ثم فى اختطاف السُلطة، وهى الآن تُخطط لاختطاف الوطن كله.
ولأن جماعة الإخوان المسلمين لا تؤمن، بداية، بالمُساواة بين النساء والرجال، ولا تؤمن ثانياً، بأحقية النساء فى شغل وظائف «الولاية»، ولأنهم يعتبرون «القضاء» من وظائف الولاية، ولأنهم، ثالثاً، يعتبرون المحكمة الدستورية العُليا عقبة كأداء فى تنفيذ مُخططهم للسيطرة الكاملة على مقاليد الأمور فى مصر، ولأنهم، رابعاً، يعتبرون هذه السيطرة التامة على مصر خطوة ضرورية لمشروعهم فى السيطرة على العالم! فقد كان لابد من إزالة العقبات من طريقهم.
وقد بدت المستشارة تهانى الجبالى فى لحظة تاريخية فارقة كنموذج مُكثف لكل ما يبغضه الإخوان المسلمون، ولكل ما يخافون منه، ولكل من يبغون تدميره على الأرض، والتخلص منه فى هذه الدنيا، سعياً وراء استعادة فردوسهم المفقود، ألا وهو «الخِلافة الراشدة» التى تمتد من إندونيسيا فى شرق آسيا، إلى نيجيريا فى غرب أفريقيا.
وهكذا، بدا للإخوان المسلمين أن التخلص من المستشارة تهانى الجبالى وكأنه بمثابة فتح مكة، أو الاستيلاء على القسطنطينية. ومن هنا ذهب الإخوان المسلمون إلى تعديل الدستور، لكى يُخفضوا عدد أعضاء المحكمة الدستورية العُليا من ثمانية عشر عضواً إلى أحد عشر عضواً. وهو ما ينطوى على نقل سبعة أعضاء إلى مواقع أخرى خارج المحكمة الدستورية العُليا، أو إحالتهم إلى التقاعد!
وحينما يُكتب تاريخ مصر الحديث سيتوقف المؤرخون كثيراً عند هذه السابقة التاريخية، لا فقط فى الدساتير المصرية خلال القرنين الأخيرين، ولكن حتى فى تاريخ دساتير العالم منذ «العهد الأعظم»، المعروف باسم «الماجنا جارتا» (١٢١٥م)، قبل ما يقرب من ثمانمائة عام.
فهى مادة «تفصيل» تستهدف شخصاً بعينه، وهو ما يتناقض تناقضاً صارخاً مع الأركان المعروفة للقاعدة القانونية، وأهمها «العمومية» و«التجريد». والعمومية تعنى أنها تنطبق على عموم المواطنين، أى كل أفراد الشعب بلا تفرقة أو تمييز، و«التجريد» يعنى «الموضوعية» أو «الحيادية الكاملة». ومن هنا يُرمز «للعدالة» أو «إلهة العدالة»، التى كانت تسمى عند قُدماء المصريين «ميريت»، بأنثى معصوبة العينين. وهى إشارة واضحة إلى أن متطلبات العدالة، وهى «الأدلة»، و«البُرهان»، بصرف النظر عن الأشخاص، سواء كانوا مُتهمين أو ضحايا، أو «جُناة» أو «مجنياً عليهم»، حتى يكون الحُكم فى النهاية بالقسطاس المُستقيم.
لقد كان واضحاً لكثير من المُراقبين أن الإخوان المسلمين يُضمرون عداء دفيناً للسُلطة القضائية عموماً، وللمحكمة الدستورية خصوصاً، وللمُستشارة تهانى الجبالى على الأخص.
وكان أحد المظاهر المُبكرة لهذا العداء هو الحِصار الذى قام به شباب الإخوان المسلمين لمبنى المحكمة الدستورية العُليا، على كورنيش المعادى. وهو الحِصار الذى استمر شهراً (نوفمبر- ديسمبر ٢٠١٢)، ومنع قُضاة المحكمة من الوصول إلى مبناهم العتيد، لمُباشرة أعمالهم. وقيل إن ذلك تحديداً كان بهدف منع المحكمة من إصدار حُكمها حول دستورية الجمعية التأسيسية التى صاغت مسودة الدستور. فقد كان الحُكم بعدم دستوريتها، أى بالبُطلان، يؤدى بالتالى إلى بُطلان كل ما ترتب على تلك الوثيقة، عملاً بالمبدأ المُستقر فى كل الأنظمة القانونية، وهو أن ما «بُنى على باطل فهو باطل».
لقد كانت المستشارة تهانى الجبالى هى أكثر قُضاة المحكمة الدستورية صراحة فى التعبير عن آرائها. ولا عجب فى ذلك. فتهانى الجبالى قضت سنوات عديدة، قبل اختيارها للمحكمة الدستورية، كناشطة حقوقية للدفاع عن حقوق الإنسان عموماً، وعن حقوق المرأة خصوصاً. وربما شعرت هذه المرأة العنيدة، وهذه القاضية الجليلة، أن وصول الإخوان المسلمين إلى السُلطة كان سفاحاً واغتصاباً، وأن النساء هُن أول من سيدفع ثمن هذا الاغتصاب للسُلطة، وأن محكمتها الدستورية هى ثانى من سيدفع ثمن هذا الاغتصاب، وأن الأقليات الدينية هى ثالث من سيدفع الثمن. وهكذا شعرت تهانى الجبالى فى لحظة فارقة، وكأن أغلى ما عاشت وناضلت من أجله هى وأربعة أجيال من نساء مصر، تتهدّده الأخطار الداهمة. وكانت صيحتها واأمّاه، واجدتاه، وا هُدى شعراوى.. وادُرية شفيق.. وانوال سعداوى، ويا كل امرأة مُتعلمة.. ويا كل امرأة عاملة فى حقول مصر، ومصانعها، ومدارسها.. ويا شباب مصر وكهول وشيوخ مصر .. هبّوا معى ودافعوا عن حقوقكم وعن إنسانيتكم.. ارفضوا العودة إلى عصور العبودية.. ارفضوا الرجوع إلى مخادع الحريم.. إن دفاعكم عن حقوق المرأة هو دفاع عن حقوق كل المصريين.. وهو دفاع عن الدولة المصرية الحديثة.
لقد أصبحت تهانى الجبالى رمزاً لقوى الحداثة والعدالة والتقدم، فى مواجهة قوى التخلف والجهالة والظلام. ولأن التاريخ فى صف تهانى الجبالى، ولأنها تريد لنفسها ولشعبها ولنساء مصر حياة كريمة، فلابد أن تستجيب لها الأقدار. ولابد لقوى الجهالة أن تنحسر.. وسيكون مصير الإخوان مثل مصير القرامطة والخوارج وطالبان ـ فى مزابل التاريخ.
والله على ما أقول شهيد
|