الأثنين ٢٥ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون ثاني ٢١, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الشروق المصرية
عن العودة إلى العصور الوسطى - جلال امين
سافرت إلى خارج مصر لمدة أربعة أيام، قابلت خلالها وتكلمت مع مصريين كثيرين، مع رجال ونساء فى المطار، مع مضيفى الطائرات، مع سائقى التاكسيات...الخ، وراعنى أن كلا منهم بلا استثناء يبدأ الكلام معى بالسؤال:
 
«احنا رايحين على فين؟»
 
كنت قد تعودت على هذا السؤال (كما قال لى أصدقائى أنهم اعتادوا عليه أيضا) لعدة شهور قبل سفرى، حتى أصبح السؤال ظاهرة لابد أن نحاول فهمها، خاصة أنها تبدو لى جديدة تماما، لا أذكر أننى صادفت مثلها طوال العهود المتتالية التى عشتها من التاريخ المصرى، من عهد الملك فاروق، إلى عهدى محمد نجيب وعبدالناصر، إلى عهدى السادات وحسنى مبارك. لم أشهد قط شيئا يشبه هذا الإجماع على التساؤل: «مصر رايحة على فين؟».
 
أول ما ألاحظه أن السؤال يقترن دائما بشعور بالحزن. انه ينطوى على تعبير عن الاستنكار وعدم التصديق لما يحدث. ولكنه أيضا يقترن بحزن شديد. الأحوال مؤسفة، هكذا يقول من يطرح السؤال، وكل يوم جديد يأتى بشىء جديد غريب ومحزن، وليس هناك ما يدعو إلى توقع شىء أفضل فى الغد. المحتجون كثيرون، والصراخ عال ومستمر، ولكن الممسكين بالسلطة يبدون فى الصحف وعلى شاشة التليفزيون مبتسمين وهادئين، وكأنهم يعيشون فى بلد آخر.
 
والذين يرددون السؤال ينتمون إلى جميع الفئات: منهم الرجال والنساء، المحجبات وغير المحجبات، الشيوخ والشباب، الأغنياء والفقراء، المتعلمون وغير المتعلمين. ومن مختلف المهن من موظفى الحكومة إلى خدم المنازل، المدرسون وأساتذة الجامعات، الأطباء والمهندسون، أصحاب المشروعات السياحية والعاملون بها، أو  كانوا يعملون بها، سائقو التاكسيات الذين كانوا ينقلون السياح، أصحاب المحال التجارية التى انخفضت مبيعاتهم بشدة، الكتاب والسينمائيون والممثلون والموسيقيون، ناهيك بالطبع عن المتبطلين حديثا وقديما، ممن لا يرون ما يعدهم بعرض عمل فى داخل مصر  أو فرص سفر إلى خارجها.
 
ذكرنى هذا الجزء السائد بما كنت قرأته عن حالة الروس فى ظل حكم ستالين. كانت  غالبية الشعب الروسى تعلق الآمال على ما يمكن أن يحققه لهم استلام الشيوعيين للحكم من انهاء للظلم الاجتماعى الذى ساد فى عصر القياصرة، وارتفاع بمستوى معيشتهم فى ظل تعريف جديد للحرية، يجعل لها مضمونا اجتماعيا إلى جانب جناحها السياسى المتضمن فى الديمقراطية، ومعناها الفردى المتضمن فى احترام الحريات الشخصية. ولكن الذى حدث أن الروس شهدوا فى ظل حكم ستالين تقييدا للحريات لم يشهدوا مثله فى عهد القياصرة، وقتلا وتنكيلا بالمعارضين فاق فى قسوته قسوة النظام الذى قامت الثورة الروسية ضده. كثيرا ما كانت تستخدم عبارات مثل «عدو الشعب» أو «الانحراف عن مبادئ الماركسية» أو حتى وصف «المرتد»، ليوصف به  المعارضون لسياسة ستالين، وكأن الماركسية قد تحولت فى عهد ستالين إلى «دين»، له كهنته وطقوسه ونصوصه المقدسة.
 
انكمش الروس داخل بيوتهم وداخل أنفسهم، خوفا من أن تسمع منهم كلمة أو تبدو على وجوههم مشاعر يمكن أن يفسرها النظام بما لا يحبه أو أن يشى واحد من زملائهم، أو حتى من أولادهم، بحقيقة رأيهم فى النظام، إذ شجع النظام الجميع على أن يبلغوا السلطات عن أى «خيانة» تبدو من أى شخص ولو كان أباهم أو أمهم. كانت الهجرة إلى خارج الاتحاد السوفييتى ممنوعة بالطبع، ومن ثم لجأ الروس إلى ما سمى «بالهجرة الداخلية»، أى الانكماش داخل النفس، بما يعنيه ذلك من أن ينطوى كل شخص على نفسه ويلتزم الصمت التام. لا عجب أن ساد بين الروس فى عهد ستالين ذلك الشعور الدفين بالحزن.
 
(2)
 
قبل سفرى بيومين أو ثلاثة، حضرت ندوة فى منتدى البحوث الاقتصادية لمناقشة ورقة مقدمة من وزارة المالية عن كيفية الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة، وتحمل عنوان «المبادرة الوطنية للانطلاق الاقتصادى: نتفق على ما يجمعنا ــ ملامح التوجهات الاقتصادية والاجتماعية فى الأجل القصير والمتوسط». كانت الورقة قد وزعت علينا قبل الجلسة فذهلت لدى قراءتها. هل هذا هو أقصى ما تستطيع الحكومة تقديمه لنا للخروج مما نحن فيه؟ ورقة لا تزيد على عشر صفحات، مليئة بالعبارات الانشائية فضلا عن أخطاء نحوية كثيرة لا تليق بمؤسسة رفيعة كوزارة المالية، ولا يمكن من خلالها التعرف على ما تنوى الحكومة عمله بالضبط. فعند الكلام عن مشكلة الدعم، يوضع الأمر فى صورة تساؤل: «هل يقبل المجتمع الانتقال إلى الدعم النقدى تدريجيا مع المحافظة على قيمته الحقيقية على مر السنين؟» فهل مازالت الحكومة تفكر أم أنها قررت شيئا بخصوص الدعم لا تريد الافصاح عنه؟ وعند الكلام عن الضرائب التصاعدية تستخدم نفس الطريقة، إذ تعد الورقة «بالنظر» فى زيادة التصاعدية فى الشرائح الضريبية، و«النظر» فى تطبيق الضرائب العقارية...الخ. أما مشكلة التضخم فتقترح الورقة لعلاجها «تشكيل مجموعة متخصصة يطلق عليها (مجلس متابعة التضخم)»، وكأن المهم هو اختيار الاسم الصحيح لهذا المجلس الموقر. وأما مكافحة الفساد فلا تحتوى الورقة عنه إلا ست كلمات هى «الضرب بيد من حديد على الفساد»!
 
قررت، وقد وجدت الورقة المطلوب منا مناقشتها على هذا النحو، أن استخدام الخمس عشرة دقيقة المخصصة لتعقيبى، للكلام عن «توجهاتى» أنا بدلا من توجهات الحكومة. وكانت النقطة الأساسية فى تعقيبى هى الآتية: الأسباب الأساسية للمحنة الاقتصادية الراهنة فى مصر ليست اقتصادية بل سياسية. هذه الأسباب السياسية أصابت الاقتصاد المصرى بإصابات فادحة لابد من معالجتها قبل محاولة علاج أمراض اقتصادية قديمة، أو مناقشة موضوعات اقتصادية من نوع: ما  أفضل انماط التنمية؟ أو ايهما أفضل، نظام السوق أو التدخل الصارم من جانب الدولة؟ أو ما أفضل وسائل تحقيق العدالة الاجتماعية...الخ. لدينا شخص أصابته بضع رصاصات، وهو ينزف بشدة وفاقد الوعى، فليس هذا وقت لعرضه على طبيب باطنى. المطلوب الآن إخراج الرصاصات ووقف النزيف. وبعد ذلك يمكن البحث عن أى طبيب أو الانسب لعرض الأمر عليه.
 
محنتنا الاقتصادية الحالية تعود فى الأساس إلى تدهور حالة الأمن، والفوضى السائدة فى الشارع وفى الحالة السياسية، ومن ثم فقدان عام للثقة، ومن ثم تدهور السياحة، وتدهور الاستثمار الآتى من الخارج والداخل، وتدهور الإنتاج، ومن ثم نقص الاحتياطى من العملات الأجنبية، وتدهور سعر الصرف...الخ.
 
لا خروج من هذه الأزمة إلا بإعادة الثقة للناس وتطمين الجميع. تطمين السياح، وتطمين المستثمرين فى الداخل والخارج، وتطمين أصحاب المطالب الفئوية بأن مطالبهم المشروعة سيستجاب لها أو على الأقل سينظر فيها بجدية. والعودة إلى مناخ من الطمأنينة للمنتجين والمستثمرين والسياح لا يكون فقط باستعادة الأمن فى الشارع وتأمين وسائل النقل والمواصلات، بل بتغيير لهجة وحوارية الخطاب السياسى بما يشيع الثقة بإمكانية التفاهم وانتهاء الخصام، وبما يعنى أننا ننوى بالفعل بناء دولة عصرية مدنية وليس الرجوع إلى العصور الوسطى.
 
إن كثرة الكلام عن أشياء توحى بالعودة إلى العصور الوسطى تضر بالاستثمار المحلى والأجنبى، وتنفر المنتجين والمستثمرين من المسلمين والأقباط، وتنفر الشباب وتدفعه للهجرة، وتنفر كثيرين ممن كانوا يريدون العودة إلى وطنهم ليساهموا بأموالهم وعملهم فى نهضته...الخ.
 
لا يمكن أن يستمر الخطاب السياسى داعيا إلى ما يشبه العودة إلى العصور الوسطى، ونأمل فى نفس الوقت إنقاذ الاقتصاد. هل يمكن أن نعود ببلادنا إلى العصور الوسطى فى كل شىء إلا فى الاقتصاد؟
 
(3)
 
خرجت من الندوة حزينا كما دخلت. وسافرت إلى خارج مصر لمدة أربعة أيام قابلت خلالها، كما ذكرت، كثيرين من المصريين الذين يستولى عليهم الحزن مثلى. لم أقرأ خلال هذه الأيام الأربعة أى صحيفة مصرية. فلما عدت قرأت الصحف المتراكمة. فوجدت تصريحات بأن تهنئة الأقباط بعيدهم حرام ينهى عنه الدين، وقرأت عن رجال يسمون أنفسهم «جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» قاموا بمهاجمة رجل وامرأة فى دمنهور فى الطريق العام، وأرادوا  التأكد من أن هذه المرأة زوجته وليست صديقة له. وقرأت عن مشروع جديد يسمى «الصكوك الإسلامية» جرى إعداده بسرعة وسوف يتم عرضه على مجلس الشورى لإقراره. ولما قرأت نصوصه وجدت أنه صيغ فى عبارات شديدة الغموض، دون أن يقترن بأى شرح رسمى له، بحيث يصعب جدا فهمه. ولكنه أعاد إلى ذكرى مشروع آخر بائس كان النظام السابق يحاول تمريره قبل الثورة بقليل، وكان اسمه «مشروع الصكوك الشعبية» وكنت قد رأيت فى ذلك المشروع القديم محاولة لبيع القطاع العام للأجانب عن طريق استغفال الناس. فهل ظهر أن استغفالنا أسهل بتغيير اسم الصكوك من الشعبية إلى الإسلامية؟
 
كما قرأت أيضا فى الصحف مناقشة حول ما إذا كان تدريس نظرية دارون فى المدارس حراما أم حلالا...الخ.
كنت فرحا بعودتى إلى وطنى، ولكن لم يمض وقت طويل قبل أن يعود إلى نفسه الشعور بالحزن والغم.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة