فيما كان العرّاب الحالي للمافيا العشائرية الأسدية المتسلطة على سوريا منذ أربعة عقود، يلقي خطابه الأخير (صباح الأحد 6 كانون الثاني الجاري) من على مسرح دار الأوبرا في دمشق، استقبلته جموع رهطه المحتشدة في الصالة الضخمة بهتاف: "أبو حافظ، أبو حافظ"، من دون أي صفة أو إضافة، مكتفيةً بنسبة عرّابها في إطلالته هذه إلى ابنه الصغير. لكن هذا الهتاف العاري من الصفات والإضافات ينطوي على قدس أقداس التكوين السلالي، الدموي والعنصري، للمافيا الأسدية ورهطها السوري: رابطة الدم والاسم بالعرّاب الأول المؤسس، انبعاثها وتجسّدها وتجدّدها قبل 12 سنة في ابنه العرّاب الثاني الذي بالترويع والقتل مهّد له والده التسلط على سوريا ولبنان، فأقام واستمر على نهج والده ليسلّم الأمانة السلالية العنصرية الى العرّاب الثالث، الحفيد الصغير، حافظ الثاني. وهذا، في الناموس الأسدي ورهطه، منذور أو مرصود بدوره ومنذ ولادته وتسميته، كي يسلّم الأمانة نفسها إلى بشار الثاني، فيسلّمها هذا أيضاً الى حافظ الثالث، وتتحقق إذ ذاك نبوءة العرّاب المؤسس: "الأسد الى الأبد". أما الرهط العشائري المزهو زهواً هستيرياً بهتافه في دار الاوبرا الدمشقية، فيحقق أيضاً أحلامه التي ظهّرتها جليةً الثورة السورية: استعمار سوريا الأرض الخراب أو المقبرة، استعماراً استيطانياً عنصرياً. وذلك بعد تقليص عدد سكانها الى ما كان عليه العام 1970، عندما تسلّمها حافظ الأول على جثث رفاقه الالدّاء في الحزب والجيش، وشرع في تأسيس دولته المافيوية السلالية والعشائرية. والحق ان مسألة اجتثاث حوالى ثلثي الشعب السوري ليست صنيعة الخيال، ولا استعارة أو إسقاطاً على الواقع، بل ان الرهط العشائري الأسدي وأنصاره في لبنان لم يتوقفوا عن تمنّيها وتردادها منذ بدايات الثورة السورية قائلين إن حافظ الأسد سيهنأ ويرتاح وتندى عظامه في قبره، إذا أعاد ابنه بشار عدد سكان سوريا الى ما كان عليه يوم بدأ والده يحكمها. فالقول هذا شاع وجرى تداوله على منوال حكايات تُنسج في قصور السلالات السلطانية العنصرية المغلقة، ورُوي أن أم بشار الأسد قالته لابنها بشار وأخيه ماهر، بعدما سمعت المتظاهرين السوريين يهتفون ذلك الهتاف الملحمي: "يلعن روحك يا حافظ"، وقرينه الآخر "سوريا شو بدها؟ حرية، حرية، حرية". هذا ما أكده شبّيحة الأسد ورهطه الأمني عندما أخذوا يسحلون المتظاهرين ويتقافزون على ظهورهم مرددين: "بدكن حرية؟!... خذو حرية، خذوا"، قبل أن يمدّوا على الارض صوراً لبشار الأسد ويرغموا المتظاهرين المعتقلين على السجود لتقبيلها، وعلى القول إن بشاراً ربّهم.
خطبة دار القتل
الحرية التي هتف بها الشعب الثائر وأُرغم على حمل السلاح بعد تخييره بين الموت أو عبادة الأسد، هي نفسها الحرية التي أرعب دبيبها في أوصال سوريا، الرهط المافيوي العشائري رعباً هستيرياً، فأخذ يهتف لعرّابه الثاني في دار الاوبرا الدمشقية، "الله، بشار، جيشنا المغوار"، "الله محيّي السلطة، جيش وأمن وشرطة"، و"شبّيحة للأبد، لعيونك يا أسد". أسقطت الهتافات هذه ورقة التين التي كان يتستّر بها هذا الرهط في هتافاته السابقة، فغابت كلمة سوريا عن هتاف "الله، بشار، وسوريا وبس" واستُبدلت بكلمة "جيشنا" التي تُعلن أن الجيش السوري صار قولاً وفعلاً وقتلاً ومجازر يومية وتدميراً وتشريداً، جيشاً استعمارياً عنصرياً للمافيا الأسدية ورهطها من "شبّيحة وأمن وشرطة".
الكاتبة الصحافية السورية سلمى أدلبي وصفت ("الحياة" 10 كانون الثاني الجاري) العرّاب الأسدي الثاني وشبّيحته الأبديين في إطلالتهم الهستيرية الأخيرة في ما سمّته "دار القتل للثقافة والفنون" التي "لا يزال الرئيس قادراً على" الوصول اليها "مرتدياً بذلته الرسمية" مزهواً بنفسه ونسبه العنصري، بعد "تناوله قهوته" الصباحية في قصره على جبل قاسيون، قبل "خروجه الى سيارته بتمهل، بعجلة، بشرود، لا فرق". ففي "دار القتل" تنتظره "جوقة من المصفقين الهاتفين" و"جمع غفير من الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والشبّيحة والأمن وبعض الممثلين، من نساء محجّبات أو سافرات في مقتبل العمر أو منتصفه، فيفاجئهم بدخوله نجماً يحلم الجمهور بلقائه. يهبط الدرج الأنيق للمسرح(...) ويصعد الى المنصة"، مخلّفاً وراءه حوالى 60 ألف قتيل وعشرات ألوف المعتقلين وملايين المشردين في سوريا وخارجها... ومتوعداً "الإرهابيين" أي السوريين الأحياء، بالمصير نفسه.
قبل هذا الوصف تتذكر الكاتبة لحظات من "تاريخ دار القتل" (ليس من بناء أو معلم في "سوريا الأسد" ينفصل تاريخه عن المافيا الأمنية)، فكتبت أن هذه الدار لم تكن لتختلف عن "المباني الحكومية" الأسدية الأخرى: "وراء تلك الجدران الرخامية الفخمة، كانت تحكم العقلية الأمنية ذاتها، من وشاية الى وساطة الى تقارير تعزل موظفين وتعيّن آخرين". اما "المواطن (حتى) المتواطئ (فكان) يشعر بالدونية، كأن الدار لا تليق به. الموظفون المتأنقون تختبئ تحت بذلاتهم الرسمية رتب عسكرية. يتحدثون مع الزوار بفوقية وصلافة. سلطتهم وتفوّقهم المصطنع يتحولان بلمح البصر انبطاحية مقززة لدى دخول الرئيس الشاب وزوجته".
في المشهد الأخير، صبيحة الأحد 6 كانون الثاني الجاري، بلغت عنجهية الصلافة الدونية ذروتها، فتحولت عنصريةً ضارية، كأن هتاف "شبّيحة للأبد، لعيونك يا أسد" يقول: أقتل أقتل يا بشار لا تهتم، نحن الشبّيحة بنشرب دم"، على ما كان متظاهرون في عراضات الأسد يرددون. والحق أن قارئ وصف سلمى إدلبي للمشهد الأخير في "دار القتل" الدمشقي، لا يقوى على ألاّ تخيل ما "يتلألأ" فيه من "تماثيل ولوحات وثريات كريستال" إلا ملطخاً بالدم، كما في أفلام الرعب، في لحظة بدء الرئيس – العرّاب بإلقاء خطابه الذي ينقسم ثلاثة اقسام:
في القسم الأول كلمات "عاطفية" شامتة متشفية من السوريين الذين قتلهم وأعدمهم وخطفهم ورماهم في المعتقلات أو هجّرهم ودمّر مدنهم وأحياءهم وقراهم وبيوتهم بالقصف المدفعي وراجمات الصواريخ وطائرات الميغ (وهذه استعملها والده في الديار اللبنانية). كأنه في هذا يقول: هؤلاء تخلّصنا منهم، فصاروا في المقابر، تحت الردم، أو خارج "سوريا الأسد" وفي معتقلاتها، فمع ألف سلام وسلام.
في القسم الثاني توعّد السوريين الأحياء من غير شبّيحته، أي "الإرهابيين" و"المتآمرين" و"عملاء المؤامرة الكونية" على "سوريا الأسد" – بمتابعة القتل والتدمير والتشريد. فيحقق بذلك أمنية أمه، ويريح أباه في قبره، كي يستطيع هو الإبن الوارث أن يظل في منصبه زعيماً للمافيا العشائرية، ويسلّم منصبه للعرّاب الأسدي الثالث، حافظ الثاني.
في القسم الثالث والأخير تنفس الصعداء على إيقاع هتافات رهطه العنصري، فأذاع خطته لسوريا ما بعد الموت التي لن يبقى حياً فيها سوى "سلطة (المافيا من) جيش وأمن وشرطة".
حتى الديبلوماسي الدولي والعربي السيد الأخضر الإبرهيمي لم يستطع أن يظل صامتاً، بعد سماعه هذه الخطبة، فقال في حديث لمحطة الـB.B.C (الأربعاء 9 كانون الثاني الجاري): "أعتقد بأن ما يقوله الناس هو إن حكم أسرة الأسد لمدة 42 عاماً، أطول بعض الشيء مما يجب". وعلى الأسد "الاستجابة لمطالب شعبه بدل مقاومتها". وروى الإبرهيمي أيضاً أن الأسد، في لقائهما الاخير في دمشق، قال له إنه يريد الترشح لرئاسة الجمهورية في العام 2014، فجاوبه الديبلوماسي الجزائري متسائلاً: ألا تعتقد أن هذا الأمر سابق لأوانه؟!
الأرجح أن الابرهيمي يعلم علم اليقين والمجرّب بأن لا شيء له أوانه في "سوريا الأسد" التي لا يرتضي عرّابوها بغير تأبيد نسلهم على ملكها الذي لا يتخلون عنه إلا بعد أن يحوّلوها جحيماً أو سادوم وعمورة.
عبيد الأسد وسيّده الإيراني
على مثال ما يسلك موظفو دار الأوبرا الدمشقية الأسدية، وفقاً لوصف سلمى إدلبي – بعنجهية وصلافة حيال المواطنين السوريين، وبانبطاحية مقززة حيال عرّابهم المافيوي – سلك العرّاب الأسدي في النهار التالي لخطبته العنصرية: خدمة لسيده وولي أمره ونعمه الحربية لقتل الثائرين، حرَّر أو أعتق من معتقلاته 2135 عبداً من عشرات ألوف عبيده السوريين الذين يصفهم بالإرهابيين. وذلك في مقابل تحرير "الإرهابيين" السوريين 48 إيرانياً احتجزوهم في سوريا. وفي مساء هذه الصفقة جلس الولي الفقيه الإيراني على عرش ولايته الإلهية في طهران، وخلفه صورة سلفه مؤسس الولاية، ثم أخذ من عليائه يتلو آياته الفقهية البينات على رهطه المصطف أرضاً كجيش منذور لعبودية إرادية، تماماً مثلما يريد العرّاب الأسدي وسيّده الإيراني ووليّه اللبناني لشعب سوريا أن يبقى الى الأبد.
يختلف شبّيحة الأسد في دار الأوبرا الدمشقية عن عَبَدة الولي الفقيه الإيراني: الشبّيحة قتلة إجراميون مسعورون في عبادتهم الوثنية أصنام الأسد. أما العبَّاد الإيرانيون فيبدون خشّعاً في حضرة وليّهم، فيما هو يتلو عليهم آيات ولايته مثلما تروي شهرزاد قصصها الخرافي في ألف ليلة وليلة... ربما في انتظار أن يحين موعد القتل في طهران.
|