المسيحيون اللبنانيون في أسوأ أحوالهم هذه الأيام. الإستحقاق الإنتخابي يجبرهم على الإحتكاك بواقعهم، والإكتشاف أنه منفرط عددياً وإجتماعياً. جراء هذا الإرتطام، يتمسكون بحقهم في الخوف، وبهاجس الإحباط، وخصوصاً أنهم ينظرون إلى الحاضر كأنه مسلوب من ماضيهم، فيطلّون على الأول من شرفة الثاني. الإطلالة قد لا تكون واقعية، إذ تتحقق في المرآة الأقلوية، التي يصنعها المخيال السياسي المسيحي، ويصقلها الذعر الدائم والإنصراف عن الآخرين.
إذا كان ثمة علامة دالة راهنة على هذا المخيال، فإن الحملة العنصرية ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين، وتكريس الإنغلاق في الممارسة الديموقراطية، قد لا يكونان في هذا المعنى طارئين على الجماعة المسيحية، بل من إنتاج بنيتها الفانتاسمية، التي تولّد الإحباط والرهاب في الوقت عينه. كما أن "العونية"، في وصفها قوة فاشية، ليست عارضاً إيديولوجياً يمر به الجسم الطائفي، بل هي من إفرازاته الأكثر تعبيراً عن مخياله السياسي، الذي ينطوي على تمثلات وخرافات وأساطير، وصلت أخيراً إلى ذروتها المرضية.
ردة المفقود
لم ينشأ المخيال السياسي للمسيحيين بمعزل عن الواقع المجتمعي في لبنان. فالتواطؤ التأسيسي الذي حصل بين اللبنانيين، منطلقاً من إنتماءاتهم الطائفية، تأرجح بين المكتوب والملفوظ، وبين القانون والعرف. إذ لم تحسم الجماعات في ميثاق 1943 صيغة إجتماعها السياسي على أكمل وجه، بل تحركت بين هويتها الأولى وانتسابها الدولتي. فاختلطت العصبيات بالمؤسسات، ودخل البلد زمن ما بعد الإنتداب الفرنسي من باب التعادل بين الهويات الإجتماعية، التي لا تخفي تنازعها التاريخي، ومن باب التوازن بين المجتمع والدولة أيضاً.
أزال النظام اللبناني الإختلاف بين الجماعات، ورفع الروابط الحديثة فوق تعارضاتها المتعلقة بأنماط الإنتاج الإقتصادية والثقافية وغيرها. فقد شق طريقها مؤسساتياً، لكنه لم يعبّد سُبل الإجتماع بينها، ما أدى إلى وجود تمثلين إثنين لكل جماعة، واحد مجتمعي في الواقع، وآخر سياسي في الإيديولوجيا الميثاقية، ساوى النظام بينهما، وضغط تباينهما بهدف تذليله. حل التكافؤ مكان التواطؤ. هكذا فإن كل خلل يصيبه قد يؤدي إلى التنازع الواقعي بين الجماعات، بعيداً من توحيدها إيديولوجياً. بمعنى آخر، أصبح ممكناً أن تتنازع الطوائف وتتحالف في الوقت نفسه، وأن يستقر النظام السياسي على الإنكسارات والتضاربات بينها.
ميثاقياً، كان المسيحيون، الموارنة على وجه الدقة، هم الطرف الأقوى، بسبب موقعهم الرئاسي وصلاحياته، وقد تقاسموا القوة السياسية مع المسلمين، فتوزعت المواقع والأدوار بينهم، وتمركزت كل جماعة في مكان رسمي خاص بها. إلا أن الثبات الذي أنتجه التعادل الإيديولوجي بين الجماعات، والتوازن المؤسساتي بين مراكزها، بدأ يتفسخ نتيجة التبدلات الديموغرافية والإجتماعية والإقتصادية، التي يشهدها المجتمع وتتبدل عناصره الثقافية بحسبها.
مع اندلاع الحرب اللبنانية، كان الإنحلال المجتمعي قد اكتمل، وانهار التمثل الإيديولوجي، وخرجت الجماعات من ميثاقها، لتتذابح في الواقع، وتختم معاركها بإتفاق جديد، يحرك المواقع ويوزع الصلاحيات من جديد، بحسب الخريطة التي خلّفتها الحرب وراءها.
خلال ربع قرن من الدم، خسر المسيحيون أغلب قوتهم السياسية. فبعد دخولهم الحرب بلغة طابقت بين فقدان السلطة وانعدام الوجود، توالت خساراتهم، وتبدلت تحالفاتهم قبل أن ينهوا الحرب بمعركة داخلية، خاضها أطرافها بحجة الدفاع عن الجماعة الطائفية، التي انتهت في الواقع السياسي في بداية التسعينات. حصلت الطوائف على مواقعها السياسية الجديدة على أساس الدور المنوط بها بعد الحرب، فاقترنت السنّية السياسية بمشاريع رفيق الحريري الإعمارية، وتشكلت هويتها انطلاقاً من دورها الإقتصادي. عبّر "حزب الله، ومعه حركة "أمل"، عن الشيعية السياسية، من خلال المقاومة واحتكار تدابيرها المسلحة، فارتبطت الهوية الطائفية بالدور العسكري للحزب. أما المسيحيون فأقفلت هويتهم على دور مفقود، وموقع ضائع، فكان من الضروري بالنسبة إليهم، الإرتداد من الواقع المحتل بعثياً إلى المخيال المشرّع على الخرافات، التي تشتد في مناسبات إستحقاقية، تُذكّر المسيحيين بأنهم بلا واقع.
درء الذات
قد تكون الخرافتان الأكثر ظهوراً في المخيال المسيحي هما "الوطنية" و"الآخر"، يُضاف إليهما عنصر القائد، الذي شهد المسيحيون اغتياله، كما جرى في حال بشير الجميل، وتمّ سجنه، كسمير جعجع، وطرده إلى خارج البلد، مثلما حصل مع ميشال عون. لذا، اتصف القائد بالغياب الدائم، وتحوّل بذلك عقدة فانتاسمية، اختُرِقت على إثرها، اللغة السياسية، التي كانت عسكرية طول فترة الحرب، وتضمنت مقولةً جديدة، تحاكي خسارة الأب، تالياً تشرذم الأبناء بين الإنغلاق على الذوات والتحالفات الجائرة في حق الجماعة.
كما رسّخ الإنفصال الطوائفي هذه العقدة المخيالية، فمارست سلطة كل جماعة طائفية حضورها السياسي كأنها تنافس الجماعة الأخرى على تقاسم القوة وتكبيل الإجتماع. وقد وجد المسيحيون أنهم بلا سلطة، تسمح لهم بالدخول إلى السوق السياسي، والتنافس مع الطوائف الأخرى، وخصوصاً أنهم تعرّضوا بعد التسعينات للعزل، نتيجة خسارتهم الصلاحيات الرئاسية، وتعرّضوا للإقصاء، بسبب تحلل أجسامهم العسكرية، وتشتت مكوّناتها بين الهجرة والرجوع إلى القرى والمناطق، ثم العصيان فيها حتى إشعار آخر. انتقلت الجماعة إلى مكان جديد، لكنها لم تبارح زمنها الماضي، بل تمسكت أكثر فأكثر بعناصره المفقودة، ما أدى إلى مكوثها في المخيال، وإلى ممارسته بعيداً من الواقع.
في هذه الجهة، اصطحبت الجماعة المسيحية الغير إلى مكانها الجديد، لتستمد ذاتها منه، وتبرر موقفها الإنغلاقي، الذي لم تكرسه وحدها، بل شارك في ترسيخه السيستام الطوائفي اللبناني، ورعايته البعثية الأسدية. وقد أقفل الفانتاسم المسيحي على عقدة إضطهادية، تحاكي الأسطورة الدينية، وتتطابق مع الواقع السياسي، ونكباته المستمرة. حضر الآخر في وصفه مسبِّباً للإضطهاد الذاتي، ونُظر إليه كما لو أنه عدو دائما. كل فعل يمارسه هو بمثابة تهديد للجماعة وتماسكها غير الموجود في الواقع، لكنه يصير حاضراً، لحظة الإحتكاك مع الغير، والهجس في خطورته الآتية، ويصبح شديد التأثير في التوجهات الطائفية السياسية.
كما لا يفصل المخيال بين خرافة الغير العدائي والأسطورة الأولية، أي الوطنية، التي أسسها المسيحيون، ودافعوا عنها بالإستناد إلى مراكزهم السياسية القوية. تنظر الجماعة إلى ذاتها كما لو أنها ذات كيانية، إستطاعت التوليف بين الإنتماءين الطائفي والدولتي، فدخلت إلى المؤسسات طائفياً، ومارست طائفيّتها مؤسساتياً. لا يندرج التعادل بين الفعلين في سياق الجمع بين التناقضات فحسب، بل يمهد للبناء الكياني، الذي يخاف المسيحيون من فقدانه، لأنه المبنى الحاضن لهويتهم.
تتقاطع خرافة الآخر مع أسطورة الوطنية. تظهر الأولى كأنها ناتجة من ضعف الثانية، أي أن الآخر قد وُلد بسبب انحلال الكيان، الذي لو كان منضبطاً وغير متفرق، لما ظهر الغير، وحاول الإنتهاء من كل مباني الذات، أي الكيان والدولة ومؤسساتها، التي لا يمكن تمييزها عن هوية الجماعة الطائفية. كما أن الخلل، الذي يصيب الكيان، لا يصدر سوى عن الغير، فهو الوحيد القادر على اختراق أسطورة الوطنية من حيث الهوية.
عندما تصطدم الذات الوطنية بالآخر، تعي مسيحيتها المهددة على يده، وتدافع عنها كما لو أنها تحمي الكيان الطائفي والدولتي على السواء. إذاً، يتحرك الآخر والكيان في المخيال السياسي كأنهما يتناقضان ويتشابكان في الوقت عينه. فلا الأسطورة الوطنية يمكنها الإستمرار على قيد الواقع من دون تهديد خرافة الآخر لها، ولا الغير قادر على الظهور بعيداً من الكيان. تطرد الجماعة الذوات، مهدِّدةً إياها بالآخر، الذي سيقضي على "وطنها"، كما أنها تهددها بانهيار الكيان، وظهور الغير فوق حطامه. الثابت في الحالين، أن المخيال السياسي يقصي الذات، وينمّط الآخر، ويفبرك كيانه بالإنتماء إلى الخرافة والعيش في اللاإستقرار، ما يسهل الإرتطام بالواقع، ويمهد لتسلّل الفاشية إلى الهوية وواقعها.
ذرى الهوية
في هذا السياق المخيالي، تتطابق الحملة العنصرية ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين مع الحملة الإنتخابية التي يقودها الأطراف المسيحيون، ولاسيما التيار العوني، الذي وصل بخطابه الفاشي إلى أوج الخرافة الهوياتية. إذ ظهرت لغته المقفلة في ظل الإنفكاك المسيحي، والإنقسام اللبناني من جراء تنازع الطائفتين السياسيتين، السنية والشيعية، وتنافسهما في سوق السلطة. عندما تحولت المنافسة بين هاتين القوتين إلى ظرف مجتمعي، لجأ المسيحيون إلى مكانهم الفانتاسمي. ولأن المعركة الإستحقاقية لا تُحسَم في القريب العاجل، فقد قرروا العيش في هذا المكان الفانتاسمي، وعدم مفارقته البتة. حتى لو جرت الإنتخابات مخيالياً، فإن كل متخيّل هو واقعي بالنسبة إلى الجماعة المسيحية.
اعتقلت اللغة الفاشية المسيحيين في الماضي المفقود، فاكتشف هؤلاء أنهم من الخاسرين واقعياً، لذا رجعوا إلى ذواتهم السابقة، التي لم يبقَ منها سوى السرديات. إذ تحافظ الجماعة المسيحية على طبقتها الإجتماعية بالتوازي مع حماية مستواها السردي، فتتوجه إلى الآخر كأنه ينتمي إلى طبقة متدنية، وتسرد قصته كأنه اكتسب حضوره منها. أما العداء للآخر، فتستمده من تاريخ صراعي طويل، لم تخرج منه حتى الآن، وخصوصاً أن الغير لا يتبدل أو يختلف بين حقبة وأخرى، كما لا تتبدل الإتهامات التي توجَّه ضده، فضلاً عن استخدام الحجة نفسها على الدوام، بالإضافة إلى اللغة ذاتها. تالياً، يصدر عن هذا الإنغلاق، خطاب واحد، تتداوله أغلب القوى المسيحية، التي قد تختلف من حيث التحالف السياسي، لكنها لا تبارح المخيال الذي يجمعها.
فمعظم السلطات المسيحية، الكنسية والحزبية، تنظر إلى اللاجئ السوري كأنه يخل بالتوازن الديموغرافي للبلد، ويهدد وجودها. لذا، من الضروري مواجهته بأساليب مختلفة، الأكثر مخيالية بينها، هي التي طرحها التيار العوني، أي الطرد. فقد ضاعفت الفاشية البرتقالية العداء للآخر، وأغلقت ذاتها على صورة واحدة له، من خلالها تشبّه "السوري" بـ"الفلسطيني"، وتماثل بينهما. كل آخر هو "فلسطيني" بالضرورة، وكل مكان إلتجائي هو جونيه التي تمر "طريق القدس" بها. فبطرد اللاجئين السوريين، تنتقم الفاشية من الآخرين، الذين تنظر إليهم في مرآتها الفانتاسمية. فكل لاجئ هو عدو مقبل، و"عبء" حاضر. وقد تنحدر اللغة إلى سحق العنصرية، لتعلن وحشية الغير البدائية، كما في حال بعض القنوات التلفزيونية، ومنها "أو. تي. في" التي لا تتوقف عن تشويه اللجوء السوري في تقاريرها الإخبارية، فضلاً عن طرحها حلول الوزير جبران باسيل العنصرية.
ولأن خرافة الآخر وأسطورة الكيان تتقاطعان في المخيال، قبل أن تتطابقا عدائياً في الواقع، يتحول الإنتقام من الغير برنامجاً إنتخابياً للمحافظة على "المجتمع المسيحي". فالإستفهام الإنتخابي الذي تطرحه القوى المسيحية اليوم هو "أي صيغة لأي كيان؟"، وسرعان ما تجيب بقوننة الفانتاسم، وتكريس الإنغلاق والإنفصال عن الآخرين. لا يعود الكيان قادراً على احتمال الفضفضة الهوياتية، والتداخل بين الجماعات المتناحرة، لذا من الضروري أن تقترع كل ذات لجماعتها على طريقة الإعلان الذي تبثه القناة البرتقالية ترويجاً لمشروع "اللقاء الأرثوذكسي"، فيمكث المسيحيون في مخيالهم، رفضاً للإحتكاك بالطوائف الأخرى واختراق حدودها.
ولكن، هذا لا يعني أن الجماعات الأخرى، على خلاف الجماعة المسيحية، تُقرّ بالإختلاف وبضرورة المواطنة، فهي إنغلاقية أيضاً. غير أن سلطتها السياسية لا تترجم الإنغلاق الهوياتي في لغة سياسية واضحة، فضلاً عن تكريس الإقفال الطوائفي إيديولوجياً ومؤسساتياً، ما يؤدي إلى تشريع الطائفية مجتمعياً، وتحولها مصدراً سلوكياً ولغوياً حاضراً في كل ممارسة إجتماعية.
تالياً، لا يندرج الإرتداد المسيحي الإنتخابي في سياق التقاعس عن المواطنية، فهي رابط غير حاضر البتة في لبنان. لذا لا يمكن قياس قرار الجماعة المسيحية إنطلاقاً من معيار تحديثي غائب، ثم التحسر على الهوية العامة، والإحتجاج على تقسيم البلد، كما لو أن القانون الإنتخابي قد تسبب بخراب المجتمع، الذي على ضوئه يتشتت ويتفرق جماعات طائفية.
فمن نافل القول إن الإجتماع في لبنان معقود طائفياً، ومقونن سياسياً، وما اقترحه القانون هو مضاعفة هذا العقد والتشديد على هذا القانون. بمعنى آخر، صارت الحدود بين الهويات الطائفية واضحة رسمياً، فكل جماعة تنتخب ممثليها مباشرةً، بعدما كانت تنتخبهم مواربةً. في النتيجة، يولد اجتماعها لحظة انفصالها، ويؤسس لكيان سياسي واضح المعالم الهوياتية، معلناً نهاية خرافة تتناقلها كل الجماعات، أي "العيش المشترك"، ومؤكداً أن أسطورة "المجتمع اللبناني"، مثلما تسردها الطوائف، قد بدأت بالإنحسار.
صحيح أن الجماعة المسيحية قد تكون في أسوأ أحوالها، بسبب تداخل مخيالها السياسي والوجودي، غير أن حالها هذه تثبت أن النظام اللبناني قد وصل إلى ذروة أزمته، أو بالأحرى حقيقته، مثلما وصل المخيال إلى ذروته العونية. فلا الطوائف قادرة على التعايش في حدود الممكن العمومي، ولا السيستام يدفعها إلى التماسك. وفي هذه الحال، تقرر الجماعات ممارسة الواقع في المخيال. ولا يمكن الجزم إذا كان هذا القرار بمثابة نهايتها أو بدايتها من جديد.
|