يرى الدكتور داود الصايغ ان "تصرف بعض المسيحيين وكأنهم محاصرون هو تصرف خاطئ، فالخوف ليس من طبيعة المسيحيين في لبنان لذا يجب التوصل الى صيغة تؤمن صحة التمثيل وسلامته للجميع، ولا بد من العثور على هذا الحل اياً تكن الاحوال.
كلام الباحث الدستوري والعامل في الشأن العام يقوله انطلاقاً من التاريخ والجغرافيا والايمان بعمق انتماء اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً الى لبنان، ويأتي رداً على أطروحات مشروع "اللقاء الارثوذكسي" الذي يتمنى تحرير الارثوذكس منه، لأنه على ما يقول "من الظلم ان يلصق المشروع بالارثوذكس المؤسسين للكيان اللبناني بعدما عرفوا بالانفتاح والتحرر على الصعيد العربي منذ ايام انطون سعادة".
وخطورة المشروع عند الصايغ انه اصبح خياراً تجاوز مسألة المناورة الى دائرة التبني بعد اجتماع اللجنة المارونية المصغرة في بكركي، وهو ما اعطى الانطباع بوجود عملية فرز يطلق عليها اسم "النزوح الوهمي التي تهدد الكيان". والمقصود بالكيان اللبناني في تعريفه السياسي بجسب الصايغ "ايجاد مساحة لكل الطوائف للعيش معاً وهذا ما تم التعبير عنه في الدستور، لجهة المواد التي تعرض لحرية المعتقد والتعليم والتنقل والمبادرة الفردية". ويعود الصايغ الى اوراق دراسة اعدها ليشير الى ان اول قانون انتخاب في لبنان صدر عن المفوض السامي في 10 آذار 1922 ولحظ توزيع المقاعد على الاعضاء بالنسبة الى عدد المنتسبين من كل الطوائف، في حين شدّدت المادة الثالثة منه على عدم التمييز بين الطوائف. وبعد هذه المقدمة التاريخية يستخلص الصايغ انه "ما من مرة منذ عام 1922 الا كانت قوانين الانتخاب على صورة الاختلاط الشعبي على الارض، بمعنى العلاقة بين الناخبين والمرشحين رغم وجود مناطق يغلب عليها اللون الواحد ووجود قلة من الطوائف الاخرى".
يضع الصايغ معادلة بكركي "تأمين التمثيل العادل للجميع" نصب عينيه، لكنه لا يرى تحقيق ذلك من خلال انتخاب كل طائفة لنوابها، لذا وجب تعطيل هذه المقولة لا من خلال قانون انتخاب عصري بل عبر عصرنة قانون الانتخاب، والرأي لديه انه لا يجوز استيراد قانون انتخاب وتطبيقه في لبنان، بل ان القوانين يجب ان تكون على مقاس تشكل كل دولة وتكوينها الاجتماعي والتاريخي. وخطورة المشروع الارثوذكسي بالنسبة اليه "ان دعاته يحققون ما عجزت عنه المتاريس".
ويمضي الصايغ في التأكيد ان التعددية اللبنانية كانت موضوع مواقف البابا يوحنا الثاني والبابا بينيديكتوس الـ16 نموذجا للتوزان في المنطقة والعالم، وسر نجاح هذا النموذج مرتبط باستمرار الصيغة اللبنانية ضمن الواقع اللبناني المعروف.
ويشرح "ان مفهوم الطائفة انها ليست مجموعة دينية، بل هي موروث ثقافي، اما اذ جعلناها مرجعاً فتصبح دينية فقط، وهكذا فمن اعدوا المشروع الارثوذكسي يتناسون ان ابناء الطوائف اللبنانية هم نتاج موروثات عدة، وعندما سيختار الناخب نائبه على اساس طائفته فهو يرضى بأن تتحول الطائفة الى تسمية الوزراء والاداريين وتنشأ حينها مرجعية فقيه في كل طائفة، وكل شيء سيطيف وستتغير معالم الحكم اللبناني".
ويرد على سؤال عن التوزيع الطائفي المعتمد حالياً بأنه توزيع مناطقي، ويعتبر ان ذلك يشكل عاملاً اساسياً في تثبيت اللبنانيين في مناطقهم الى اي طائفة انتموا، وصيغة العيش المشترك في لبنان سبقت قيام الدولة بوقت كثير.
الفكرة الاساسية التي يدعو اليها الصايغ هي الخروج بحل غير مشروع "اللقاء الارثوذكسي"، ويقول: "مجلس النواب هو شرط ارادة العيش معاً كما قال ميشال شيحا، وعندما يصبح المجلس طائفياً ينتفي دوره الوطني، والاقليات اللبنانية المتحدة تصبح منفصلة ومتباعدة حكماً". ويضيف "ان نواب المناطق يحملون هم مناطقهم، اما في الاقتراح الارثوذكسي فهم يحملون هموم الطوائف، وهكذا تضرب فكرة التمثيل تماماً". ثمة خشية لدى الصايغ ان يكون لبنان يتجه صوب اللادولة، التي يراها الحل الوحيد للمجتمعات المتعددة كما في سويسرا التي توفر مؤسسات السلطة فيها الحماية لكل مجموعاتها.
ويحدد تالياً نقاطا مخالفة للدستور في المشروع الارثوذكسي: اولا ان لا شرعية لأي سلطة تناقض العيش المشترك، وان الطائف اقر مبدأ المناصفة والوفاق، كما نص على ان يتخذ مجلس الوزراء قراراته بالتوافق والا بالتصويت، وصولاً الى ان المشروع يعطل المادة 22 من الدستور التي تطلب انشاء مجلس الشيوخ، اضافة الى ان النائب يمثل الامة جمعاء ولا يجوز ان يكون ممثلاً للطائفة. ويسأل الصايغ عن موقف دعاة الغاء الطائفية السياسية امام انتخاب مجلس من هذا النوع، وخصوصاً حركة "امل" و"حزب الله"، وما هو موقفهم تالياً من "تطييف نظام الحكم".
الدستور المنبثق من الطائف حسم امر التوازن والمناصفة في لبنان الى عقود طويلة حسب الصايغ، والمناصفة فلسفة وحالة متقدمة بالنسبة الى الشعب اللبناني، اما الاعتراضات المقدمة في المشروع الارثوذكسي فتنطوي على بعض الهواجس المحقة وغير المحقة التي تشكل المناصفة ركيزة اطمئنان وابلغ رد عليها. والحل بالنسبة اليه انطلاقاً من تجربته السياسية يبدأ بتجاوز الظرف السياسي الحالي وهواجسه والانطلاق نحو المستقبل دون احداث ضرر في الكيان والنظام اللبناني. والحل العملاني عنده هو بالتوصل الى صيغ الدوائر المختلطة ووضع حد للفرز الطائفي، "لأن المسيحي اللبناني رائد الحداثة وصاحب الحلول، ولبنان يفقد مبرر وجوده اذا انكفأ المسيحيون وتعاملوا مع الاوضاع في ضوء التجربة التي يمر بها المسيحيون في مصر والعراق وسوريا".
|