الأثنين ٢٥ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون ثاني ١٥, ٢٠١٣
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
مصر: انحطاط بعض النخبة؟ - جهاد الزين

شاهدتُ على  الـ "يو تيوب"حلقة من برنامج المعلّق التلفزيوني التهكّمي باسم يوسف يتحدث فيها عن الرئيس محمد مرسي. هنا بعض الانطباعات، من خلالها، عن الوضع المصري وتحوّلات نخبته.

أهم ما في الحلقة ليس التعليقات الظريفة المباشرة وغير المباشرة التي يقدّمها هذا المعلّق المميّز والذي يندرج نمط برنامجه في "مدرسة" المعلّقين التهكّميين الأميركيين الكبار ولكن الذي استطاع أن يمنح برنامجه شخصية مصرية أصيلة. أهم ما في الحلقة كان اللقطات الخارجية، أي خارج القناة التي تبث برنامجه، والتي عرضها عن تصريحات لرجال وسيدات "إخوان مسلمين" وسلفيين يشيدون فيها بالرئيس مرسي.


طريقة الثناء على مرسي ومفاهيمها مخيفة من زاوية مستوى محدوديّتِها بل ضيق أفقها. قالت إحداهن أن الرئيس "جاءها" في ستّ رؤىً في منامها (علّق باسم يوسف: جابْ معاه حراسة ولاّ عَدّا متخفي!") وقالت سيدة قيادية في "حزب الحرية والعدالة" الذراع السياسي لـِ "حركة الإخوان المسلمين" بأن مرسي "أبيض وشفّاف"( علّق باسم يوسف: هُوَّ رئيس ولاّ مسحوق غسيل؟) وقارنهُ داعية آخر بالنبي محمد من زاوية أن النبي عندما هاجر إلى"المدينة" لم يفعل شيئا في "المئة يوم الأولى" ومرسي مثله، أو قول رابع– وكل ذلك في برامج مسجّلة أمام التلفزيون باعتبار المصرّحين من قادة الرأي- أن وجود مرسي في رئاسة الجمهورية هو "إرادة إلهية عليا" وآخر بأنه "قَدَر" (علّق باسم يوسف: أيوه ربنا بْيِختِبِرّنا بيهْ)...إلى اعتبار أحدِهم أن مرسي سيُدخِل الأقباط في دين الإسلام "أفواجاً أفواجاً" وبذلك "لن تعود هناك حاجة إلى الكنائس"، وقال ثامنٌ  أنه "بات لدينا رئيس ذو لحية" ثم استطرد هو نفسه "ولو أنها صغيرة"، وتاسعٌ بأن "النبي يوسف جاء من السجن إلى العرش ومحمد مرسي جاء من السجن إلى عرش مصر"، وعاشرٌ أنه "بات لدينا رئيس يؤم الصلاة في القصر" ( علّق باسم يوسف بلهجة مسرحية خطابية: مبروك لمصر دخول الإسلام)! وغير ذلك من التوصيفات الغيبية بل حتى المتطاولة على بعض المقدّسات الإسلامية ناهيك عن المسيئة إلى ملايين المسيحيين المصريين... التي سجّلها مقدّم البرنامج عن محطات تلفزيونية مصرية.


أكرّر أن هذه الشهادات لا تصدر عن مواطنين عاديين بل عن رجال دين أو كوادر دينية وسياسية.


نعرف سلفاً أن دينيين كثيرين، "إخوانيين" وغير "إخوانيين" في الحياة العامة المصرية لا يقبلون هذه التوصيفات بل يدينونها وأن ليبراليين وعلمانيين أكثر، يعتبرونها مشينة. لكن ما يُقلِق هو المناخ المواكب لصعود الإسلاميين الأصوليين في مصر بما يجعل المستوى العام للنخبة المصرية مهدّدا بانحطاط ثقافي وسياسي فعلي ليس لأنها حاملةٌ لثقافة دينية، فمصر، رائدة ومبدعة في العصور الحديثة بالكثير مما هو عميق وجميل وخلاّق في الثقافتين الدينية وغير الدينية. لكن الفكر الأصولي السائد هو المشكلة قياسا بالتسطيح الذي يمكن أن يفرضه على الحياة العامة المصرية.


بعض المثقفين المصريين "يطالبون" (أمثالي) الكثر في العالم العربي من المصرّين على انتظار عودة دور ريادي مصري ثقافي أو سياسي بالكفِّ عن التفاؤل الشديد في المرحلة الحالية "لأن مصر التي تعرفونها تغيّرت ولا تُبالِغوا بأوهامكم".


لا نستطيع التخلّي عن هذا الرهان. فمصر كانت دائما بلد الكَثرة ولكن دائما أيضا بلد القلّة النوعية المتفوقة في العالم العربي في العلوم والفنون والآداب والصحافة والقانون والفقه... ناهيك عن الجذور العميقة للثقافة السياسية السلمية المصرية ومحورها الدولة، بين دول عربية بعضها مضطرب الشرعية التوحيدية الاجتماعية و"الدولتية". ولهذا من الصعب أن نسلّم بفكرة تدهور أو انحطاط المستوى العام للنخبة المصرية وبالتالي أن نتخلّى عن تفاؤلنا بها لسببين رئيسيّين:


الأول هو تلك المعركة بل المعارك الضارية التي تخوضها النخبة العلمانية والليبرالية مع الفكر الأصولي منذ اللحظة الأولى لانتصار ثورة "ميدان التحرير" قبل عامين. معارك في الثقافة والسياسة والقانون بل حتى في أنماط الحياة الشخصية التي بلغت ذروتَها في ردود فعل سيدات محترمات وشجاعات في التعبير عن مواقفهن بحرية أو في أفعالِ تحدٍّ قُمْنَ بها بقوة مثيرة للإعجاب كما فعلت الشابة علياء المهدي عندما تعرّتْ بشكلٍ متطرّف متطرّف رداً على ثقافة تحريم متطرف.


أما السبب الثاني فهو جوهري ويُبنى عليه في مصر وتونس وبلدان المجتعات المتماسكة وهو أن الصعود الأصولي يأتي ضمن موجة تاريخية من صعود الثقافة الديموقراطية في العام العربي مجسَّدة في مدٍّ من إحساس المجتمعات العربية بحقها في التعبير والقرار الحر لا عودة عنه. موجة الحرية لا بد أن تُعقلِن أو تضبط لصالحها على المدى البعيد الموجة الأصولية الموازية، بل أن تفرض عليها التغيير من داخلها وليس فقط من خارجها... بما يدفع سياسياً إلى الحد الأعلى من التفاؤل بإمكان تحوّلِ الاحزاب الدينية وعلى رأسها "الإخوان" إلى نوع من أحزاب اليمين المحافظ المسيحي على غرار أحزاب اليمين المحافظ الأوروبي المعروفة بأحزاب المسيحيين الديموقراطيين مثلما اقتربت "الإسلامية" التركية من أن تكون؟



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة