ما قبل الثورة في تونس وما بعدها بقلم حسام براهمي
في تونس، أمتلك مقهى للإنترنت، ومذ أخذ الـ"فايسبوك" يتقدم إلى الضوء، راح زبائني يقولون إني بمثابة رئيس تحرير صحيفة. فالـ"فايسبوك" تحوّل منبراً، مذ اكتشفه التونسيون، يكتب فيه الشبان آراءهم، بلا قيد أو شرط، وتحوّلت مساحاته الإفتراضية مكاناً للتجمع والتكاثر، أشبه بتظاهرة كبيرة في قالب وهمي. لكنها اذا ما وجدت طبعتها الواقعية، صارت ثورة، كما حدث في بلادي، التي أطلقت شرارة التغيير عبر الـ"فايسبوك". كما هو معلوم، لعب الاعلام دورا كبيرا في نجاح ثورة تونس وفي تبليغ صوتها إلى الداخل والخارج، لكن الـ"فايسبوك" يُعتبر صاحب الريادة في فضح ما كان يعانيه التونسيون من خنق للحريات وانتهاك للحرمات. نتيجة التضييق على الاعلام الدولي وتنكر الاعلام المحلي، اضطر المحتجون الى صنع افلامهم الخاصة وكتابة مقالاتهم الشخصية. لكن الصعوبة الكبرى التي واجهتهم، كانت تتمثل في تحميل تلك الفيديوهات والصور على الـ"فايسبوك"، اذ كثيرا ما كانت صفحاتهم تتعرض للحجب وتعرضوا هم انفسهم للتهديد والاعتقال، بل كاد عديد منهم يحاكمون بدعوى الترويج للفتنة، كما حصل خصوصاً خلال احداث الحوض المنجمي في 2008. لكن ايمان المتظاهرين بعدالة مطالبهم دفعهم الى ابتكار وسائل وطرق عديدة للتغلب على هذه الصعوبات مثل استعمال "البروكسيات".
هذا بالاضافة الى تعاون اصحاب محال الانترنت معهم من خلال السماح لهم بتحميل افلامهم الخاصة وصورهم على رغم فرض رجال الامن مراقبة مشددة عليهم وتهديدهم بغلق محالهم واتخاذ التتبعات العدلية في حقهم. وقد حصلت بعض حالات الاغلاق، بسبب استخدام "البروكسيات"، لكن ذلك لم يمنعهم من مواصلة النضال. كنا ممنوعين من استخدام هذه "البروكسيات"، وكنت أسمح دائماً، بالسر، لشباب الإتحاد الطالبي، باستخدام هذه التقنية، وتعرضت بسبب ذلك للمساءلة والتهديد بإقفال المحل، وكانت الرقابة على محالنا تتم إما بصفة شخصية على أيدي بعض من كانوا يدّعون انهم زبائن، وكانوا في الحقيقة يتبعون لأجهزة الأمن، وإما من خلال المراقبة الالكترونية، وهذا ما دفعنا الى الالتقاء ليلا في ساعات متأخرة نسبياً، وقد ساعدني وجودي قرب الجامعات والكليات في إبقاء مقهى الإنترنت مفتوحاً حتى الهزيع الأخير من الليل.
زد على ذلك ان الـ"فايسبوك" ساهم في تنسيق الجهود وتأطير الشباب من خلال تحديد مواعيد التظاهرات وأمكنتها، لكن الدور الابرز للـ"فايسبوك" تمثل اساسا في مرحلة ما بعد الثورة بعد انتشار حالات السلب والنهب، ما دفع الشباب الى ابتكار فكرة تكوين لجان الاحياء التي تبنّتها بعد ذلك القوى السياسية والجيش، حيث كان التواصل بين الشباب والتنسيق في ما بينهم من خلال تبادل الصور والاخبار والقيام بالتبليغ والتحذير من اللصوص والمجرمين، وهو ما ساهم في إلقاء القبض على العديد منهم. الى ذلك، لعبت الصفحة الاجتماعية دوراً في تعريف المواطنين بالوزراء وولاة المحافظات الجدد، لتفادي محاولات حزب التجمع الدستوري الديموقراطي الالتفاف على الثورة، الأمر الذي ساهم في استبدال العديد منهم وعلى دفعات، الى درجة دفعت عدداً من الاصوات، ما بعد الثورة، الى العودة والمناداة بحجب صفحات الـ"فايسبوك" والـ"تويتر".
مزاج الـ"سوفت وير" في مصر بقلم سيد محمود
ربما تكون الثورة المصرية التي لا تزال تجري وقائعها الارتدادية الان، أغرب ثورة في تاريخ الثورات البشرية، فهي لها جمهور، ولا تزال تبحث عن زعيم وتحدّد موعدها مثل أي عرس، ووجهت الدعوات الى حضورها، لتشمل أنصارها واعداءها على حد سواء. حتى من تخلفوا في أيامها الأولى، عادوا وانضموا اليها. وحده الـ"فايسبوك" حوّلها الى "موعد غرامي" يسهل ترتيبه. فقد كان هو "نبض" الثورة و"الترموميتر" الذي مكّننا من قياس درجات حراراتها طوال الأيام الماضية. على الـ"فايسبوك" نبدو مثل أمّ تراقب صحة أبنائها كل يوم، ترسل الى الكبير "ابتسامة أمل"، وتعطي الصغير جرعة الحليب، وتربت كتف المشاغب منهم ليهجع قليلا، أو كما يشرح صديقي قاسم حداد نمارس "علاج المسافة".
اليوم آن الآوان لنعتذر من الـ""فايسبوك"، فقد اتهمناه طويلا بتعطلينا، بقتل أوقاتنا، لكنه الآن فوق أعناقنا. فقد مكّننا من إحياء أوطاننا واستعادة أيقونات ثوّارنا القدامى. يوم اندلعت الثورة، كنت خارج بلدي أفتش في صفحات أصدقائي عن خبر يروي الظمأ. أنا الصحافي المحترف، لم أعد أطمئن الى ما تقوله الفضائيات وبقية وسائل الاعلام، كله "ملون". لكن الـ"فايسبوك" بدا لي أبيض كثوب عرس وواضحاً كضوء شمس.
في اليوم الأول أذاعت إحدى وكالات الأنباء خبراً عن احتمال حجب هذا الموقع الجهنمي، فبدأتُ أقلق على حقوق المواطنة التي اكتسبتها طوال ثلاث سنوات. خفت أن أغلق جهاز الكومبيوتر فتنام الى الابد قصص الحب التي أعرفها والحكايات والمعارك التي كنت طرفاً فيها. شعرتُ لوهلة بأخطار انتهاك الذاكرة، فكتبتُ أسأل أصدقائي جميعا، فجاءت رسائل تكذب الخبر، وأخرى تضعه في اطار التوقعات. بعد يومين اتخذت الحكومة التي كانت تدير أيامنا من "القرية الذكية"، أغبى قراراتها على الإطلاق، اذ قررت غلق الأنترنت وقطع الاتصالات. الحكومة التي جاء رئيسها بحملة "جهاز كومبيوتر لكل مواطن"، أعادتنا الى القرن الثاني الهجري لكنها فشلت في تدمير مزاج الـ"سوفت وير" الذي أعاد إلينا ميدان التحرير.
الميدان، الذي تعرف قلة من المصريين السبب الرئيسي في تسميته بهذا الإسم، كان يحمل اسم ميدان الاسماعيلية (نسبة الى الخديوي اسماعيل مؤسس القاهرة الحديثة) قبل ان تغيّره حكومة "ثورة يوليو" فتسمّيه ميدان التحرير، حيث مر موكب جلاء القوات البريطانية عن مصر وكانت معسكراتها في قلب الميدان، في المحل الواقع بين جامعة الدول العربية ومبنى فندق هيلتون القديم. اليوم، مع استمرار الثورة، وانتصارها، تجدد المعنى القائم في اسم الميدان بعد ضخ دماء جديدة من الجيل. بدأ طقساً افتراضياً فصار حياة واقعية بامتياز.
لا أقبل أن أصدّق أن الـ"فايسبوك" وحده صنع ما نحن فيه، فالأكيد أن القهر هو الذي قاد الناس الى هنا: حاجتهم الى الخلاص وتطلعهم الى الأفضل. فتونس التي سبقتنا في الصعود الى نهائيات كأس الثورة العربية، كانت الانترنت فيها مراقبة، ومع ذلك نزل الناس الى الشارع، وما جرى في شارع الحبيب بورقيبة لا يختلف كثيرا عما جرى في ميدان التحرير. لكن في مصر بدا الـ"فايسبوك" مثل "المنبّه" الذي يوقظ الناس من النوم ويساعدهم في الذهاب الى أعمالهم. بسببه تحولت الثورة "ايفنت" event وتحوّل الثوار أعضاء group. ففي جمهورية الـ"فايسبوك" ثمة حقوق يتمتع بها الجميع، المعارض والموالي، مَن في قلب التنظيم ومَن هو خارجه. آلية التصويت جاهزة والحق في التعليق والاحتجاج لا يتوقف، كما أن الـ"وول"، أي الحائط، يتحوّل روزنامة للثورة ودفتراً ليومياتها ووثيقة لوقائعها ومنبراً للثوار والمناوئين لهم. قلت أمس لصديقي الذي يحب النظام الذي جعله الـ"فايسبوك" عهداً بائداً، "لا أفهم كيف لم يتمكن النظام من محاصرة ثورة أعلن موعد اندلاعها قبل عشرين يوما؟!".
المعتصمون في الميدان ابناء مخلصون لعقلية الـ"السوفت وير"، التي لا بد أن تدفع كارل ماركس وليون تروتسكي ولينين وهربرت ماركيوز والان تورين الى مراجعة أفكارهم عن الثورة. فهؤلاء لا بد أنهم اليوم ينظرون بإعجاب الى فكرة ميشال فوكو عن "القوة الناعمة"، وكلام بيار بورديو عن "الرأسمال الرمزي". فما جرى في الميدان ربما هو التجسيد الجبار لفكرة الفاعل الاجتماعي التي طرحها الأخير. فمواطن الـ"فايسبوك" الافتراضي يكتسب، بشكل غير واع، مجموعة من الاستعدادات من خلال انغماسه في محيطه الاجتماعي، تمكّنه من أن يكيّف عمله مع ضرورات المعيش اليومي. ففي التحرير يعيد الجميع اكتشاف ذواتهم ويختبرون قدراتهم على تطوير عادات ذهنية وسلوكية يجري تطبيقها على كل المشكلات التي يواجهها الناس. فالواقع أصبح سوريالياً الى درجة تجعل جيل الـ"فايسبوك" يسخر من رئيس نظامه لإجباره على الرحيل وينتقم منه بنكتة تقول: "مبارك بعد ما مات، قابل السادات وعبد الناصر، سألوه: سمّ ولاّ منصّه؟ ردّ: فايسبوك".
إنه يقود ثورة الشباب في اليمن أيضاً بقلم محمد المقالح حتى تفجُّر الثورة الشعبية المجيدة في تونس وهروب الرئيس زين العابدين بن علي إلى السعودية، كان عدد متزايد من الشباب والطلاب اليمنيين قد وجد عالمه الافتراضي الخاص على صفحات الـ"فايسبوك"، ومن خلال حائطه المفتوح والمتنوع أصبح الشباب والصبايا يعبّرون عن كل ما يجول في خواطرهم بحرية مطلقة، بدا كأنهم يكتشفونها للمرة الأولى، ومعها يعيدون اكتشاف ذاتهم وإمكاناتها الهائلة في الخلق والتعبير الحر عن همومهم وتطلعاتهم.
مواضيع الحب والسياسة والدين، عبّر عنها شباب يمني جديد ومتعلم بدون قيود أو محرّمات، ومن خلال "الفايسبوك" أقام علاقات اجتماعية واسعة مع أقرانه في اليمن وفي المنطقة العربية والعالم. وكانت الصفة التي خلقها هذا العالم الجديد، ولا يزال، الشعور بالفخر والاعتزاز والثقة بالذات وبإنسانية الفرد بعد عقود من التغييب والكبت وسد جميع منافذ التعبير عن جيل لا يجد من يستمع إليه ولا يعرف طريقا مفتوحا له للسير إلى الإمام.
العالم الافتراضي الذي خلقته صفحات الـ"فيسبوك" للشباب اليمني ما لبث ان تحوّل عالماً واقعياً، يمشي على الأرض بقدمين ثابتتين، ويصرخ بصوت عال لا حدود له ولا قدرة لأحد على إسكاته او خفض نبرته. وهذا بالضبط ما صنعته الثورة التونسية ومن بعدها الثورة المصرية في نفوس حاملي الحقائب المتدلية على جنباتهم وفي طياتها أجهزة حواسيب محمولة، هي سلاحهم الوحيد ولكن الأكثر تأثيراً في السياسة اليمنية وما يعتمل في شارعها من حراك شعبي هائل، يطالب اليوم بصورة متصاعدة بالتغيير الثوري: "الشعب يريد إسقاط النظام".
أول تظاهرة شعبية حقيقية، سقفُها إسقاط الرئيس صالح، قادها شباب التقوا عبر صفحات الـ"فايسبوك"، وهذا يشير الى دور "حائط" هذا الـ"فايسبوك"، حيث كانت الدعوة الى التظاهر لدعم ثورة تونس أولاً، ولتفجير ثورة اليمن ثانياً، قد تمت على صفحات الـ"فايسبوك" غالباً، وخصوصاً ان الـ"تويتر" وغيره من وسائل الإعلام الجديدة منتشرة في اليمن كثيراً. تظاهرات الشباب اليمني الجديد التي لا تزال متواصلة يوميا حتى الان، بدأت غداة سقوط الرئيس بن علي في تونس وقادها شباب يساريون وقوميون ومستقلون، بينهم نائب أو نائبان في البرلمان وقادتهم امرأة يمنية ثورية هي توكل عبد السلام كرمان، الناشطة والصحافية ورئيسة المنظمة الحقوقية "صحافيات بلا قيود".
لم تكن أحزاب المعارضة الرسمية اليمنية المنضوية في تحالف اللقاء المشترك تعرف بالضبط حقيقة ما يعمله الإعلام الاجتماعي اليوم في الحياة السياسة اليمنية والعربية عموما، لكنها مثل نظام الرئيس صالح وحزبه الحاكم "المؤتمر الشعبي العام" قد شعرت بشيء من التوجس أولا، ما لبث أن تحوّل مخاوف حقيقية من انقلاب طاولة السياسة اليمنية عشية اختطاف الناشطة الحقوقية وزعيمة الشباب الثوري توكل كرمان.
ومثلما حصل في تونس ومن ثم في مصر، سارعت السلطة في اليمن الى القمع كوسيلة وحيدة للسياسة فاختطفت الناشطة توكل كرمان لكنها بدون ان تشعر كادت ان تفجر ثورة شعبية هائلة لن تتوقف أو تهدأ الا بإسقاط الرئيس ونظامه السياسي برمته، فتراجعت بسرعة وأفرجت فوراً عن كرمان بعدما وجدت ان الـ"فايسبوك" والموقف الاجتماعي من اعتقال "امرأة بعد منتصف الليل" قد اثارا غضبا عارما عبّرت عنه تظاهرات متواصلة في صنعاء وتعز ومحافظات اخرى كان معظم وقودها، فضلا عن محركها الأساسي، من شباب وشابات، يلبسون بنطلونات الجينز ويحملون على أكتافهم اجهزة حواسيب ويتحدثون في الغالب الانكليزية. يقوم الشباب اليمني اليوم بعقد تحالفات اجتماعية وسياسية عبر الـ"فايسبوك"، ويترقب باهتمام ما ستؤول إليه الثورة المصرية، وستكون اليمن ودولة او دولتان عربيتان اخريان على اللائحة بعد الثورة المصرية.
لا شك ان مآلات الثورة الشعبية اليمنية المحتملة ستكون مختلفة تماما عن شقيقتيها في تونس ومصر. واذا كان هنالك من جامع بينها وبين بقية الثورات الشعبية العربية المعاصرة ففي كونها ثورة للشباب وبدون رأس أو قيادة سياسية محددة. ولعل هذا هو سر انتصارها وعدم قدرة القمع والاستبداد على احتوائها أو توجيهها تماما، كما هي حال صفحات الـ"فايسبوك" والـ"تويتر" والـ"يوتيوب"، حيث لا مكان للاستبداد ولا قدرة لأجهزته على الحد من تأثيرها.
الطريق إلى "المشاعر التزامنية" في البحرين بقلم حسين المرهون على رغم الضجيج المتنامي هذه الأيام في خصوص شبكات التواصل الاجتماعية على الإنترنت، وتصويرها كما لو أن كل شعب يمتلك "فايسبوك" و"تويتر"، مقبل على ثورة لا محالة، غداً أو بعد غد، أميل إلى رأي متحفظ نوعاً ما، يلتقي مع ما عبّر عنه المفكر السيد ولد أباه، في مقال نشره أخيراً، مفاده أولاً: أن هذا الفاعل "الثوري" الجديد إنما هو "وسيلة عملية فاعلة استخدمت بنجاعة". ثانياً: أنه على خلاف الدور القديم الذي اضطلعت به الصحافة المكتوبة، والذي سمح بتنميط الآراء، فإن التقنيات الاتصالية الجديدة أفضت إلى ما دعاه "تزامنية المشاعر".
أضيف من عندي أن المشاعر المتزامنة هذه تعمل وفق المنطق الخاص بها، وهو منطق الشبكة، وهذه لم تعد مقتصرة على الإنترنت فقط، وربما لم تبدأ في فضائه الأثيري حتى. بل بدأت مع بدء امتناع الأحزاب القديمة والنقابات والإيديولوجيات عن الاضطلاع بدور مؤثر في حياتنا، وظهور الشبكات ولجان العمل الأهلية لإنجاز أهداف محددة قصيرة الأمد (حركة "كفاية"، المثال النموذجي لذلك). ولذا فإن الانضواء في هذه الشبكات الجديدة، لا يتطلب قدراً كبيراً من الثقة، ولا أهدافا طويلة الأمد، ولا التزاما تنظيمياً صارماً. الأهم أن فيها قدراً كبيراً من الفردية، وذلك على خلاف كل ما درجت عليه الأحزاب القديمة.
تالياً، فإن رأيي يذهب إلى أن الجديد في ثورتي تونس ومصر، ليس الوسيط الاتصالي المستخدم، أي الـ"فايسبوك" والـ"تويتر"، على أهميتهما، فما هذان سوى "وسائل عملية استخدمت بنجاعة"، كما عبّر ولد أباه، الأمر الذي أدى إلى أن يفضيا إلى "مشاعر تزامنية" بين مئات الآلاف من الناس. إنما الجديد، يتمثل في نشأة هذه الشبكات على الأرض أولا وقبل كل شيء - وهذا هو الميدان الحقيقي!-، وفقاً لعوامل اجتماعية مركّبة وشديدة التعقيد، قبل انتقالها وتنظيمها على الـ"فايسبوك" أو الـ"تويتر". ثم رؤيتنا أول نماذجها في التغيير. وقد صارا نموذجين الآن.
في خصوص البحرين، لا أراها تشذ عن بقية الدول العربية. هناك نحو 200 ألف مستخدم للـ"فايسبوك"، 70 في المئة منهم من فئات الشباب، بحسب إحصاءات أخيرة لجمعية البحرين للإنترنت. لكني لم أشهد حتى الآن ترجمة لأيّ تحركات يمكن القول إن مصدرها "فايسبوك". فما هو موجود على الأرض من تحركات يقودها معارضون إنما هو موجود قبله. ولا تزال التنظيمات ذات البنى التقليدية قوية، الإسلامية خصوصاً، على ما دلت على ذلك نتائج الانتخابات الأخيرة. وهي تنظيمات يفضل الحكم التعامل معها على تلك التي تستخدم أسلوب الشبكة في العمل، مثل "مركز البحرين لحقوق الإنسان"، الذي قامت السلطة بحلّه، وهو مركز ناشط جداً على الـ"فايسبوك" والـ"تويتر"، وفي تشكيل "اللجان الشعبية" لخدمة قضايا وقتية، في حين أن بيئته الخصبة هي الشباب.
الجديد الذي ربما قد يكون من المهمّ معرفته هنا، هو إعلان تم تداوله بكثرة على الإنترنت، ودعمته بقوة بعض الفاعليات السياسية غير المرخص لها، التي تمتلك تصورات جذرية للتغيير، حول انطلاق حركة احتجاجية في 14 شباط. يقابله في المقلب الآخر، إعلان الحكومة البحرينية أخيراً عن التوجه إلى تقنين استخدام المواقع الاجتماعية التواصلية. وقد تحدث الخبر الذي نشرته الصحافة عن "قرب تشكيل لجنة حكومية تضم ممثلين عن هيئة شؤون الاعلام وهيئة تنظيم الاتصالات وهيئة الحكومة الالكترونية لوضع آليات تسمح بمراقبة حكومية أكبر لحركة المواقع الالكترونية التواصلية وفي مقدمها الـ"فايسبوك"
هل تقفز الجزائر من المساحة الإفتراضية؟ - بقلم عاطف قدادرة
عندما بدأت أحداث تونس تأخذ طريقها نحو اللاعودة، كانت ارتدادات المشهد كاملة ترتسم في عالم الانترنت الجزائري. تغذّت فجأة تعليقات الشباب على صفحات الـ"فايسبوك" وبرزت "أحزاب أنترنت" وسط استمرار تضييق يطبع جزءا من الحريات والعمل الصحافي في الجزائر، واستمرار غلق المجال السمعي البصري، ومع توجه وجوه من المعارضة الجزائرية نحو تسيير تظاهرات ترغب في الاستلهام من التجربة التونسية القريبة، ومن بعدها المصرية. بدأت مظاهر كرّ وفرّ على الشبكة الافتراضية بين الداعين الى هذه المسيرات والرافضين لها.
وإذا كان شباب "فايسبوك" الجزائر، بدأ يصنع لنفسه موقعا في المساحة الافتراضية، مع ركود غير مسبوق لطبقة سياسية وحزبية مهلهلة الأدوار في الأصل، فإن استيعاب الجهات الحكومية والأمنية للدروس بدأ يتخطى مرحلة القصور، لربما تفاديا لمآل الاعتماد على أساليب الترويع والتخويف الهرمة، وترك "فضاء الفايسبوك" من دون مضايقات، يتفاعل فيه الشباب الغاضب واليائس والحالم، في مقابل تنازلات غير مسبوقة بدأ النظام الجزائري في الإعلان عنها: رفع حال الطوارئ وفتح المجال الإعلامي الحكومي أمام أحزاب السلطة والمعارضة بقدر سواء، وتأكيدات مستمرة بأن لا وجود لأي نوع من الرقابة على الأنترنت.
في هذا السياق تنشط صفحات جديدة على الـ"فايسبوك"، بمسميات تعكس توجهات إيديولوجية ناشئة، تتخطى خطاب "الأبوة" الذي تتبناه الأحزاب "القومية" و"الديموقراطية" و"العلمانية" التي تصنع المشهد في بلد خرج لتوّه من دوامة عنف دامت عقدا من الزمن، صفحات تنقل الدعوة إلى "يوم الحريات"، وأخرى ترفض قفز سياسيين على "ثورة الشباب". ظهر "حزب أم درمان" و"شباب الجزائر"، و"الجزائر الحالمة"، وفي تعليقات أعضائها، تهكمٌ على عدم قدرة السلطات على التحجج بغياب تراخيص حزبية تمنعها من النشاط. شباب "فايسبوك" الجزائر، رافق "ثورة الياسمين" في تونس وتفاعل معها ونقل أخبارها، لكنه في "ثورة شباب مصر" جهر بـ"المصالحة" مع "خصوم الأمس" بعد جفاء خلّفته مباراة لكرة القدم في تصفيات كأس العالم، وهي المصالحة التي ظلت عصية على السياسيين ورجال النخبة ومثقفي البلدين، وهو، أي هذا الشباب، يترقب اليوم مصيره، هل يستجيب النظام أم يصم آذانه؟.
|