الأحد ٢٤ - ١١ - ٢٠٢٤
بيانات
التاريخ:
كانون ثاني ٦, ٢٠١٣
المصدر:
جريدة الشروق المصرية
للخروج من أزمتنا الاقتصادية: لابد من زعيم - جلال امين
فى ختام محاضراتى عن التنمية الاقتصادية، كثيرا ما كنت أقول لطلبتى إن الفشل فى تحقيق التنمية لا يرجع إلى الجهل بما يجب عمله، ولا إلى عقبات من النوع الذى يشغل الاقتصاديون أنفسهم بشرحه وتحليله، بل يمكن تلخيص السبب الأساسى لفشل التنمية، فى معظم الحالات، بالعبارة البسيطة التالية: «أصحاب السلطة القادرون على اتخاذ القرارات اللازمة للتنمية، لا يجدون لأنفسهم مصلحة فى اتخاذها، وأصحاب المصلحة فى اتخاذ هذه القرارات لا يملكون السلطة».
هذه العبارة (مثل كل التعميمات التى تبسط الأمور تبسيطا شديدا) ليست بالطبع دقيقة تماما، لكنى أعتقد أنها تلمس جانبا مهما جدا من الحقيقة، ومن السهل التدليل على صحتها منطقيا وتاريخيا. وهى تنطبق على مصر مثل انطباها على معظم تجارب ما يسمى بـ«العالم الثالث».
لن أدخل القارئ فى متاهة من الأدلة التاريخية أو النظرية، بل سأتناول مباشرة أزمتنا الاقتصادية الحالية، والتى توصف بحق بأنها أزمة حادة ومعقدة، وأن الخروج منها صعب. ومع ذلك سأشير بسرعة إلى أن هذه ليست أول مرة فى تاريخنا الاقتصادى، التى تمر فيها مصر بأزمة حادة ومعقدة. فما أكثر الأزمات الاقتصادية التى مررنا بها طوال القرنين الماضيين (أما قبل ذلك فقد كان حالنا أسوأ، إذ إن الركود الاقتصادى التام، مع الفقر المدقع أسوأ بكثير من الأزمات الاقتصادية). ولكن يلاحظ أن المرات القليلة التى حققت فيها مصر تنمية اقتصادية حقيقية كانت هى تلك التى أتحدث خلالها مصلحة الممسكين بالسلطة بالمصلحة العامة، أو بعبارة أخرى كانت هى التى رأى الممسكون بالسلطة فيها أن مصلحتهم تتطلب تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية. وفى هذه المرات القليلة لم تتوقف التنمية فى مصر إلا عندما جاء أشخاص جدد إلى السلطة يرون مصلحتهم الشخصية فى تحقيق عكس ذلك بالضبط.
لم يكن الفشل قط بسبب الجهل بشروط التنمية، بل كان بسبب عدم وجود رغبة فيها. لم يكن السبب انعدام القدرة بها غياب الإرادة. إن كثيرين يتصورون أن المشكلة الاقتصادية بطبيعتها معقدة، وأن حلها يحتاج إلى عقلية فذة أو عبقرية، ولكن الحقيقة أنه ليس هناك بلد فى العالم لا يملك من الموارد المادية والبشرية ما يكفى لوضعه على مسار تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية. العقبة الحقيقية ليست اقتصادية بل سياسية. والتنمية صعبة، ليس بسبب صعوبة حل المشكلة الاقتصادية بل بسبب صعوبة التغلب على العقبات السياسية.
●●●
عندما قامت ثورة 25 يناير 2011، أى منذ أقل قليلا من عامين، كان لدى مصر كل الامكانيات الاقتصادية التى تتيح بداية مسيرة رائعة فى طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية السريعة، مما ساهم فى إشاعة مناخ من الأمل والثقة فى أن النهاية السعيدة قادمة، وأن تحمل بعض الصعاب هو أمر مؤقت ومبرر طالما بدأنا السير فى الطريق الصحيح. لا داعى لذكر ما تحوزه مصر من موارد اقتصادية، مادية وبشرية، تؤهلها لتحقيق التنمية السريعة، حتى فى ظل نمو سريع فى السكان. ولا داعى لتكرار القول بأن المشكلة السكانية تحل بالتنمية السريعة وليس العكس، وأن الاستثمارات والمساعدات الأجنبية مفيدة ولا غضاضة فيها طالما تتم فى حدود معقولة وبشروط نضعها نحن. ولكننا مع ذلك نستطيع، إذا لزم الأمر، أن نستغنى عن هذه الاستثمارات والمساعدات الأجنبية ونعتمد اعتمادا كاملا على أنفسنا فى تحقيق التنمية، إذا توفر لنا النوع اللازم من متخذى القرارات الأساسية والممسكين بالسلطة. الاندماج فى العالم جيد ومفيد ولكن بحكمة وشجاعة، والاعتماد على النفس ممكن أيضا ومفيد، ولكن بشرط توفر الحكمة والشجاعة. فما الذى أفسد الأمور خلال العامين الماضيين إذن؟ ما الذى جعلنا نفشل فى كلا الأمرين: فلا نحن اندمجنا مع العالم وحصلنا على الاستثمارات والمساعدات المفيدة من الخارج، ولا نحن اتخذنا القرارات اللازمة للاستغناء عن العالم والاعتماد بدلا من ذلك على أنفسنا؟ سبب الفشل أنه طوال العامين الماضيين لم تتوفر للممسكين بالسلطة فى مصر لا الحكمة ولا الشجاعة، أو بعبارة أخرى لم يتوفر لنا «زعيم».
●●●
الأمر مدهش لأن المفترض أن الثورة أقدر على إنتاج الزعماء من الظروف العادية والمستقرة. فالثورة تعبير عن احتجاج وتذمر ومطالب شعبية، وكل هذا كان فى حالة ثورة 25 يناير أوضح من الشمس: التذمر شديد، والاحتجاجات من كل الفئات، والمطالب الشعبية كثيرة بعد أن ظلت مكبوتة طوال ثلاثين عاما من الحكم الفاسد والديكتاتورى. فلماذا لم ينتج عن كل هذا زعيم يقود البلاد فى هذه الفترة الصعبة؟ نحن لا نطلب أن يتم الإصلاح، الاقتصادى أو غيره، خلال عامين، ناهيك عن أن تتحقق التنمية الاقتصادية التى تحتاج بطبعها إلى مدة أطول بكثير، ولكن كان المفترض والمتوقع أن نرى على الأقل بداية للإصلاح، ووضع أسس صحيحة للتنمية، ولا يمكن أن يحدث هذا فى بلد كمصر، وبعد فترة فشل طويلة كالتى مررنا بها، إلا على يدى زعيم. فما الذى منع ظهوره؟
قد يقال إن ثلاثين عاما من الكبت الذى تعرضت له كل فصائل المعارضة المصرية منعت ظهور هذا الزعيم، ولكنى لا أجد هذا التفسير مقنعا، إذ لابد أن نعترف بأنه، بمجرد قيام الثورة فى 25 يناير، لمعت شخصيات، من الشباب وغير الشباب، من الرجال والنساء، فى الميادين أو من خلال وسائل الإعلام، كان من الممكن جدا أن تصعد إلى مستوى الزعامة المطلوبة، لو كانت الأمور قد سارت مثلما كنا نتوقعها ونرجوها فى الأيام الأولى للثورة. فما الذى حدث بالضبط لكى يخيب هذا الأمل؟ خيبة الأمل هذه، هى التى أدت فى رأيى، إلى إحجام بعض هذه الشخصيات الواعدة بالزعامة عن الترشح لرئاسة الجمهورية عندما فتح الباب لهذا الترشح. لم يكن هذا الإحجام من قبيل التعفف أو العجز أو الافتقار إلى رؤية واضحة لما يجب عمله. بل كان بسبب الشك فى أن أبواب الأمل التى فتحتها الثورة ستظل مفتوحة لاختيار أكثر الشخصيات جدارة. ولكن، حتى مع هذا الإحجام من بعض هذه الشخصيات الجديرة بالزعامة عن الترشح لرئاسة الجمهورية، ظهرت بعض الأسماء التى أقدم أصحابها على الترشح لهذا المنصب، وكانوا جديرين فعلا، وفى زمن قصير، بملء مكان الزعيم. كان هؤلاء قلة ضئيلة وسط عدد كبير من الذين رشحوا أنفسهم للرئاسة ممن لا يتصور أن يقوموا بدور الزعيم. هذه القلة الضئيلة والممتازة، رغم اختلاف توجهاتهم السياسية، والتفاوت الكبير فى أعمارهم، كان كل واحد منهم فى رأيى، يمكن لو ترك فى الحلبة، فى منافسة شريفة مع الآخرين، أن يقوم بدور الزعيم المطلوب، بالكفاءة اللازمة. ولكن هذا هو للأسف ما لم يحدث.
كانت العقبات توضع منذ البداية، الواحدة بعد الأخرى، للحيلولة دون ظهور هذا الزعيم. رفض أولا الاقتراح بتكوين مجلس رئاسى كان من الممكن أن يضم بعض الشخصيات التى حظيت بإعجاب وتقدير الناس منذ أيام الثورة الأولى. وحصلنا بدلا من ذلك على مجلس عسكرى انفرد بالحكم، دون أن تتوفر فى أى من أعضائه صفات الزعيم. بل بدا من الواضح أن من المخطط ألا يظهر من بين أعضاء المجلس العسكرى أحد يمكن أن يشار إليه بالزعيم، أو بصاحب الأثر الأكبر فى اتخاذ القرارات. لابد أنه كان من المتعمد أيضا أن يظل رئيسا لهذا المجلس الرجل الذى خدم فى ظل الرئيس السابق مبارك مدة طويلة، ولم يعرف عنه طوال هذه الفترة أى معارضة ذات شأن لاتجاه الحكم فى ذلك العهد. وعلى أى حال، كان من الواضح أيضا أنه حتى هذا الرئيس لم يكن هو صاحب القرارات الأساسية الصادرة من المجلس العسكرى.
ثم جاءت تلك الاختيارات المذهلة لرئيس للوزراء بعد آخر، من أصحاب الشخصيات الباهتة التى خدمت أيضا فى ظل العهد السابق الذى قامت الثورة ضده، ولم يعرف عنها لا صفات الزعامة ولا حتى الاستعداد للمخاطرة باتخاذ موقف المعارض الصلب لما يريده الممسكون بالسلطة. وقل مثل هذا بالطبع على الوزراء المتتابعين.
فلما حل موعد انتخابات الرئاسة، ضُرب بعض المرشحين للرئاسة من الترشيح (كما اتضح من التصريحات التى أدلى بها هؤلاء بعد مرور وقت كاف)، حتى انتهينا إلى تخييرنا بين شخصيتين أحلاهما مر، ولا تتوفر فى أى منهما صفات الزعيم الذى كان يرجوه ويتمناه من قاموا بالثورة.
●●●
خلال هذه الفترة كلها، أى ما كاد يصل إلى عامين كاملين، ازدادت الأزمة الاقتصادية حدة. وكان هذا أمرا طبيعيا جدا فى مثل هذه الظروف، ولا يجب أن يستغربه أحد. فى غياب رئيس حازم يتمتع بثقة الناس واحترامهم، ويضعون فيه آمالهم، هل كان غريبا أن تتدهور حالة الأمن؟ وإذا تدهور الأمن هل من الغريب أن تتدهور السياحة، وأن ينخفض بشدة معدل الاستثمار، سواء المحلى أو الأجنبى؟ وفى ظل هذا وذاك، هل من الغريب أن يتدهور حجم الناتج القومى، وأن تزيد الواردات وتنخفض الصادرات، ويزيد حجم الفجوة فى ميزان المدفوعات، ومن ثم ينخفض حجم الاحتياطى من النقد الأجنبى إلى أقل من النصف؟ وإذا تدهور حجم الناتج والدخل القومى هل من الغريب أن يزداد بشدة عجز الموازنة الحكومية؟ وإذا زاد هذا العجز وذاك، هل من الغريب أن يصبح الحصول على قرض من صندوق النقد الدولى ضرورة ملحة؟
ليس هناك أى غرابة فى كل هذا. والسبب ليس أن لدينا وزراء للاقتصاد أو المالية أو التنمية والتخطيط لا يعرفون ما يجب عمله، أو يجهلون القواعد الأساسية فى علم الاقتصاد. ليست هذه بالطبع هى المشكلة بل المشكلة أن لدينا وزراء ينتظرون الأوامر الضرورية، وهذه الأوامر الضرورية لا تصدر، لأنه ليس لدينا زعيم.
●●●
بقى إذن السؤال عن ماهية هذه العقبات التى تحول دون ظهور هذا الزعيم. الإجابة، كما سبق أن ذكرت، ليست أن مصر ليست بها من يصلح للزعامة، بل إن هناك من يعملون كل ما يمكن عمله، وليل نهار، للحيلولة دون ظهوره. هؤلاء الذين يعتبرون منع ظهور هذا الزعيم مسألة حياة أو موت، هم أعداء الوطن الحقيقيون، فى الداخل والخارج، يتخذون أشكالا مختلفة، ويتكلمون لغات مختلفة، ويستخدمون أنواعا مختلفة من الخطاب السياسى. ولكنهم لا يقولون الحقيقة أبدا. فإذا كان هذا هو ما يفهمه الناس من عبارة «نظرية المؤامرة»، فإنى أعترف بأنى أعتبر هذه النظرية أفضل النظريات طرًّا، فى تفسير ما حدث فى مصر منذ 25 يناير 2011.
الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك
اطبع الكود:
لا تستطيع ان تقرأه؟
جرب واحدا آخر
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة