الأربعاء ٩ - ٧ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: كانون الأول ٣٠, ٢٠١٢
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الإسلاميون في السلطة: فرصة للديموقراطية أم خطر عليها؟ - عباس الحلبي

عندما أحرق بائع خضار في بلدة سيدي بوزيد التونسية الصغيرة نفسه مدفوعاً بيأسه من تجاوزات السلطة المحلية بحقه وبتهديد حقه في رزقه لم يكن يفكر بأن تحالف حزب النهضة وسائر القوى الإسلامية هو الذي سيفوز بالانتخابات التشريعية وتتحكم بمفاصل الحكم.

 

مئات آلاف المصريين الذين تجمعوا في ميدان التحرير مطالبين بالكرامة والحرية وإسقاط نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك لم يدر في خلد أي منهم أن الإخوان المسلمين سوف يسيطرون مع حلفائهم على مجلس الشعب ولا على رئاسة الجمهورية طبعاً. وما يجري في سوريا الآن لا يختلف كثيراً، فقد تحولّت الثورة الشعبية التي بدأها متظاهرون في مناطق سورية عدة مطالبين بالحرية والديموقراطية إلى حرب بين نظام آل الأسد الحاكم ومجموعات جهادية مسلّحة، بغض النظر عن الائتلاف الوطني السوري المعارض في الخارج.


إن الثورات العربية إذا كان لنا من إطلاق هذه التسمية عليها اندلعت لأن سيطرة الحكام المستمرة على كل مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية ضيّقت على حياة الناس بحيث أصبحت لا تطاق وهم يرون في المقابل يومياً كيف أن مجتمعات ودول أخرى انتقلت من الأنظمة الشمولية إلى الأنظمة الديموقراطية بأساليب حضارية وراقية.  وتسنّى لها أن تنعم بالحرية والكرامة في ظل أنظمة ديموقراطية تقر بالتعددية وحقوق الإنسان وتداول السلطة وأنظمة اقتصادية تعلي من شأن توفير الفرص للجميع بالتساوي. هكذا كانت حال أوروبا الشرقية بعد هدم حائط برلين وإسقاط الأنظمة الديكتاتورية وهكذا حال دول أميركا اللاتينية التي آثرت الواحدة تلو الأخرى سبيل الانتقال إلى أنظمة ديموقراطية.


أما في البلاد العربية، وبعد الثورات التي جرت،  فقد أوصلت الانتخابات التشريعية إلى الحكم من كان جاهزاً ومؤهلاً له ولم يكن الأمر مفاجأة. ذلك أن الأنظمة العربية الهالكة قد عطّلت اللعبة الديموقراطية التي تنتج قيادات تبدأ من قاعدة الهرم إلى قمته. فالذي كان جاهزاً وقفز لانتزاع الفرصة هم الجماعات الإسلامية التي كانت تتحرك في القاعدة الشعبية بشبكة مصالح ظاهرها ديني وباطنها سياسي معززة بالإمكانات المادية في مجتمعات فقيرة وضمن شرائح من المجتمع تكاد تكون معدومة الإمكانات. ففاز حزب النهضة في تونس بنسبة 41% في الإنتخابات التشريعية، وحزب الحرية والعدالة المنبثق عن الإخوان المسلمين في مصر بنسبة 47% في الإنتخابات عينها.

 

المكتسبات الحقوقية

 

يقودنا هذا البحث إلى التساؤل حول ما إذا كانت الانتخابات التشريعية أعطت الإسلاميين تفويضاً مطلقاً بإلغاء المكتسبات الحقوقية ووقف تطور الحقوق الاجتماعية والمدنية؟ فهل أراد التونسيون بحق منح الإسلاميين تفويضاً لضرب مكتسبات الحياة العلمانية التي تراكمت على مر السنوات بما أعطى المرأة التونسية حقوقاً توازي حقوق الرجل؟ وهل اعطى المصريون الأخوان تفويضاً لتحويل مصر إلى دولة دينية مصدر التشريع فيها هو الشرع الإسلامي في حين أن الأقباط فيها يشكّلون ما لا يقل عن 15% من أصل 80 مليون نسمة؟


إن كل ثورة ما لم تحصّن نفسها كفاية، يكون مآلها الفشل الذريع وتنتهي بتكرار الوضع ذاته الذي حاربت بسببه الشعوب. فالتحدي الأكبر أمام الإسلاميين في الحكم الآن هو في قدرتهم على ادارة شؤون الدولة بالطرق العصرية. فالخطابات الدينية لا تطعم جائعاً ولا تؤمّن فرص العمل أمام الشباب.  فما تحتاجه المجتمعات العربية هو إيجاد حلول شاملة لمشكلات الفقر والجوع والأمية والبطالة والمسائل الاقتصادية والمالية. من هنا فإن نقطة الضعف في مسار الجماعات الإسلامية هو في أنها تحاول أن تبتعد عن طرح مثل هذه المشكلات لأنها تفتقد للخبرة في الإجابة عنها وبالتالي تحول مسار النقاش العام حول مسائل تتصل بالقضايا ذات البعد الديني لتصليب القواعد الشعبية حتى تحافظ على السلطة.


وبذلك فإن تصرف الجماعات الإسلامية منذ استلامها الحكم لا يختلف بل يكاد يماثل طريقة حكم  الأنظمة التي أسقطتها الشعوب التائقة للحرية والكرامة، في حين أن الشعوب التي ثارت لم يكن هدفها إطاحة نظام حكم علماني والقدوم بنظام إسلامي، بل التحرر من الديكتاتورية التي طبعت الأنظمة السابقة. ولذلك فإن وصول مرشّح الإخوان المسلمين في مصر أثار الذعر في نفوس الكثير من المصريين لاسيما العلمانيين منهم الذين ساهموا في نجاح الثورة في مصر. ويتخوف المسيحيون في سوريا على مصيرهم في حال نجاح الإسلاميين باطاحة نظام بشار الأسد، ذلك أن فرص نجاح الإسلاميين في الحكم، برأيهم، هي  أعلى  من فرص نجاح الليبراليين أو المعتدلين.


القياس على التجربة التركية

 

كان الأمل بأن يستلهم الإسلاميون العرب النموذج الإسلامي التركي الناجح في تركيا ويحاولون تكييفه على المجتمعات العربية.  فوصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى الحكم في تركيا  منذ اثنتي عشرة سنة لم يحل دون تأمين الرفاه بكل المعايير الاقتصادية والاجتماعية للشعب التركي ولم يتعرّض لمبادئ العلمانية التي قامت عليها الجمهورية التركية مع أتاتورك سنة 1924.
ولا مجال للحديث عن المؤشرات التي تدعم هذا القول إن لجهة زيادة الدخل الفردي أو انحسار المديونية العامة أو احتلال تركيا المواقع المتقدمة في اقتصادات العالم أو إنعاش السياحة وسوى ذلك من المؤشرات.


لقد ابتعد الإسلاميون العرب عن النموذج التركي بسبب احترامه للعلمانية المكرّسة في الدستور وهذا أمر لا تتقبّله أوساط واسعة من المجتمعات العربية، بسبب الحكام، وبسبب قلة وعي الشعب نفسه. فهذه التيارات الدينية تستند في قوتها إلى  دغدغة مشاعر الشعوب الدينية عبر استلهامها الشرع مصدراً للحكم، ولكن إن كان ذلك ينفع في المساجد إلا أنه لا يمكّنها من النجاح في تولّي الحكم، على الأقل حسب المعايير الحديثة.


فاستمرار القوى الإسلامية في الحكم مشروط بنجاحها في تقديم حلول  للمشاكل الحقيقية التي تعاني منها المجتمعات العربية وهي ما أشرنا إليه آنفاً ولا بد لهذه المجتمعات أن تحاسب الذين نجحوا أو فشلوا في التفويض المعطى لهم. ولكن الصعوبة تكمن في تعطيل هذه القوى مسار اللعبة الديموقراطية التي أوصلتها إلى الحكم بأية وسيلة من الوسائل. ولنا في نموذج "حماس" في غزة مثال صارخ بحيث نجح الإسلاميون في الوصول إلى السلطة وانقضت ولاية الانتخابات ولم تدع "حماس" إلى انتخابات جديدة فالأمر مستقر لها. فهل يمكن تصوّر سيناريوات شبيهة في هذه الدول؟


الأموات يحكمون الأحياء

 

إن الجماعات الإسلامية تشكّل خطراً على الديموقراطية ما لم تصدر موقفاً واضحاً صريحاً ومتماسكاً بالرفض المطلق لأي تراجع عن المكتسبات الحقوقية التي توصلت إليها مجتمعاتنا العربية والبشرية بصورة عامة فلا إعادة نظر مثلاً في تونس بحقوق المرأة وقانون الأحوال الشخصية. فتقاس النجاحات بدراسة المؤشرات، بحيث أن الثورات العربية قد أحرزت تقدماً بنسبة 0,5% فقط على صعيد حقوق الإنسان حسب إحصاء أخير وهو تطور زهيد إن لم يكن سلبياً إذا ما تم الأخذ في الاعتبار التقهقر الذي طال قطاعات أخرى في المقابل.


هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يعتمد على مؤشر الشفافية في الحياة الديموقراطية. والسؤال المطروح هل أن هناك لغتين في التعامل مع الأوضاع العامة في هذه البلاد؟ لغة جماعتنا لإرضائها بخطاب إقصائي ولغة أخرى موجهة للخارج تعلي من شأن قيم العدالة والمساواة والتعددية والحرية؟ فالمطلوب التحقق من أي الخطابين هو الغالب بعد هذه الفترة القصيرة من استلام زمام الأمور، وهل يمكن أن يحكم على التيارات الإسلامية في هذه الفترة القصيرة التي تولت فيها الحكم؟


إن من حق الأقليات الدينية في هذه المنطقة أن تتساءل عن مصيرها ومستقبلها في كل المتغيّرات الجديدة. فلو أعلن الإسلاميون تمسّكهم بالمواطنة كنهج للحكم لا خوف على غير المسلم أو المسلم غير الملتزم في هذه الدول، ولكن الغموض الذي يحيط بهذا الموضوع تحديداً يبعث على التساؤل لدى فئات واسعة من المواطنين العرب في هذه الدول من غير المسلمين عما سيصيبهم جراء هذه التطبيقات للمفاهيم الدينية التقليدية وسعي الإسلاميين للتوفيق بين قيم لا يمكن أن تلتقي: القيم من منظار ديني تقليدي والقيم التي توصّلت إليها المجتمعات الإنسانية نتيجة التطور في حقوق الإنسان وسواها.


فهل يبقى "الأموات يحكمون الأحياء" أم أن هناك رغبة حقيقية لعقد جديد يتّصل بكيفية إدارة الحكم والسعي لبناء نموذج ديموقراطي حديث يتأسس على حسن إدارة التنوع والإقرار بالتعددية واحترام الحريات الدينية بمعناها الحديث واستبعاد مسألة تطبيق الشريعة والاستعاضة عنها بقوانين الأحوال الشخصية التي تحافظ على وضع المرأة؟ 


فالدولة المدنية تقوم على تشريعات وضعية بينما الدولة الدينية تقوم على فتاوى وقد خبرنا عدداً منها ونظرة البعض إلى من هم ليسوا من وجهة نظرهم حتى من المسلمين فما بالنا بمستقبل المسيحيين في هذا الشرق؟


ومن جهة أخيرة، الحوار يقوم على الندية وعلى العدل أي ندية بين مؤمن وكافر وبين فئة تنظر إلى نفسها مستكبرة وأخرى ينظر إليها بدونية.
وأهمية مصر أنها منارة في العالم أثرت تاريخياً فيه واقتدت بها دول عديدة فإن هي انحرفت في هذا الاتجاه فأي ضمانة للمسيحيين بعد في هذا الشرق. 


لا نزال نعتقد أن الوقت لم يمضِ بعد للإجابة على كل هذه التساؤلات، فالتغيير صعب ويحتاج إلى وقت كافٍ لبيان نتائجه وأننا على ثقة أن الناس التي أحدثت هذا التغيير لن تتوانى عن الدفاع عن مكاسبها لا بل أن الثورات العربية ستقطف ثمار التغيير التي طمحت إليها وسعت لأجلها.


وإذا كانت الخشية موجودة ومشروعة من تسلم الإسلاميين الحكم، فإن الخشية هي أيضاً على الإسلاميين أنفسهم بما هم غير مؤهلين لحكم دول كبيرة ومؤثرة في محيطها كمصر، أو دول "عريقة" (ولو قياساً على محيطها القريب) كتونس في مجال حقوق الإنسان وحقوق المرأة وأنظمة الأحوال الشخصية.


لذلك تكمن مصلحة الجميع، إسلاميين وغير إسلاميين، في الحفاظ على المكتسبات الحقوقية من جهة وتقديم نموذج حكم ديموقراطي تناوبي للسلطة من جهة أخرى، مع إشراك مختلف شرائح المجتمع المدني والأطياف الدينية على أساس المواطنة. فهل ثمّة سميعٍ مجيب؟!


جوابي أن لنا في ما يحصل في مصر من تجديد لزخم الثورة، يبعث على الأمل ويثبت أن رقابة الرأي العام هي رقابة حيّة مستمرة ولعلّها بذلك تؤسّس لضمانة تكون بمثابة صمّام أمان في وجه الديكتاتوريات الدينية في العالم الحديث أياً يكن الدين الكريم الذي تلبسه.

 

قاضٍ لبناني



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة