وصلتُ إلى سراييفو متحفزا لرؤية ستالينغراد البلقان والتي عانت ما عانته من حصار (1992 - 1995) وفقر وتجويع وقصف إبان الحرب الصربية على الجمهورية البوسنية الوليدة والتي أسفرت عن مقتل 12 ألف إنسان في هذه المدينة التي تحتضنها جبال غطتها الثلوج وتركت الحرائق آثارها على غاباتها الكثيفة.
ما حصل في البوسنة هو اعتداء دولة صربيا على دولة البوسنة والهرسك الحديثة النشوء. أما ما يحصل في سوريا فهو ثورة، ولكن المقارنة الإنسانية تصح وكذلك التعامل الدولي مع مأساة شعب أراد الحرية تشجّع على الاستفادة من التجربة البوسنية. وبالتالي، من المهم محاولة فهم ما جرى وخلفياته وكيفية إدارة النزاع ودور القوى الإقليمية وما يسمى المجتمع الدولي في إنهاء القتال ووقف أنهر الدماء. في هذه الحرب، برزت مواقف إنسانية عظيمة المعنى تتعلق بتضامن الأهالي وتضافر جهودهم بعيدا عن الاستفادة الآنية والأنانيات.
من أهم الدروس عملية التغطية الإعلامية وقصورها على بعض المناطق دون سواها. إضافة إلى أن الإعلام الخارجي لعب دورا رئيسيا في بناء الوعي الصحيح أو المغلوط عما يجري في البلاد وكان التواصل معه من قبل القوى البوسنية هو الأساس في تصحيح دفته وإبعاده عن المبالغات أحيانا أو التحليلات المتسرعة أحيانا أخرى. في المقابل، يبدو واضحا بأن تصريحات القادة الصرب هي التي أدخلت عبارة "الحرب الأهلية" إلى القاموس الإعلامي الغربي في الحديث عن انقضاض دولة صربية على دولة بوسنية معترف بها من قبل غالبية دول العالم. أهل البوسنة والهرسك وصلوا إلى الاستقلال وإيجاد حكومة وطنية تمثل كل المكونات قبل اندلاع الحرب، ولكن القوى الخارجية فضلت أن تتعامل معهم وتأتي بهم إلى المفاوضات لإنهاء الحرب وكأنهم يمثلون مصالح فئوية تتعلق بالمكون المسلم من مجتمعهم المركّب.
من جهة أخرى، يفاجأ المرء حين يعلم بأن التدخل الخارجي، والذي تأخر ثلاث سنوات، جاء في مرحلة كانت فيها القوات البوسنية قد عززت تحركاتها في اتجاه استعادة المناطق المحتلة. حيث إن انتصار البوسنيين توقف عبر التدخل الدولي. وهذا دليل على رغبة خارجية في السيطرة على مسألة التحول في اتجاه النظام الجديد بعيدا عن المغامرة في انتظار ما ستؤول إليه العمليات السياسية المحلية. وجاء اتفاق دايتون المفروض على كل الأطراف ليؤسس لنظام سياسي معقد وهيكلية وزارية وإدارية متضخمة. مما نجم عنه أن الوضع السياسي والاقتصادي مشلول منذ سنوات بسبب هذا الحل التوافقي الذي أوقف الدماء ولم يؤسس لدولة ناجحة. ربما يلام الغرب على فرض الحل الذي تمخّض عنه دستور يمنع من تطور الحياة السياسية في هذا البلد الصغير، ولكن الملام الأكبر هم القادة الذين ذهبوا إلى التفاوض من دون أن تكون لديهم أية رؤية سياسية واضحة لما يريدون أن تكون عليه بلادهم، فهل يستفيد السوريون؟
استاذ جامعي في باريس
|