تفرض تحولات مجتمعات الربيع العربي طابعا من الحيرة والريبة على احتمالات الأيام القادمة في ضوء ما يحدث اليوم في مصر من حالة استقطاب حادة وصلت إلى حد الاقتتال، وما يكمن تحت رماد السياسة في تونس أو حالة الانقسام المتوقعة في ليبيا، يزيد من تعقيد الموقف حول مستقبل الممارسة الديمقراطية في ظل نفوذ تيارات الإسلام السياسي، وقدرة هذه التيارات على استثمار هذه الفرصة في إجراء مصالحة تاريخية مع فكرة الدولة الديمقراطية المدنية.
التساؤلات الحرجة التي تطرح اليوم على خلفية الإيمان بحق تيارات الإسلام السياسي في الوصول إلى السلطة، بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، لا تبدأ من مدى قدرة هذه التيارات على دمقرطة سلوكها السياسي وتعلم السياسة، ولا تنتهي عند ما قد يفرضه هذا التيار من تغيير اجتماعي وثقافي قسري قد يضحي بالديمقراطية ذاتها، تحت مبرر القاعدة التراثية "دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة"، والتي استهلكت جل فعاليات هذه التيارات على مدى أكثر من نصف قرن، وهي المرحلة التي حضّرت فيها هذه التيارات خميرتها التاريخية.
اللغز فيما تفضي إليه هذه الحالة من غموض وعدم يقين حول المستقبل. فالمسار الطبيعي للتاريخ الإنساني في هذا الجزء من العالم يقول بأن هذه مرحلة لابد منها، وأن العرب بحاجة إلى مرحلة الانتقال من حالة الشعوب النيئة إلى حالة الشعوب الناضجة، والتي قد تحتاج إلى حالة من الطبخ على نار مستعرة ربما حتى نهاية القرن الراهن، سيشهدون فيها صراعات وحروبا أهلية وإقليمية ودولية وفتنا، وقس على ذلك من أحوال، حتى يدخلوا في عملية تاريخية جريئة ودقيقة تقود إلى إصلاح ديني حقيقي يعيد ميلاد المجتمع والدولة من جديد على أسس مدنية وديمقراطية. هذا المسار التاريخي الذي مر به الغرب مرت به جماعات ثقافية أخرى في جهات أخرى من العالم وهو ليس خبرة يحتكرها الغرب.
إن مصدر التهديد الأكثر خطورة يتمثل في التوترات الطائفية واحتمالات تحولها إلى عنف دام عابر للأديان وداخل الأديان نفسها، والتي تعمل ببطء وبشكل صادم على ضرب السلم الأهلي والتكامل السياسي والاندماج الاجتماعي في العمق. والخطر فيها هو بروز دور الحركات السلفية إلى واجهة الصراعات الطائفية؛ استمراراً لمسار معقد من التوترات الطائفية التي تشهدها بشكل عنيف مجموعة من المجتمعات العربية، وتعبر عن خبرة قاسية في إدارة الاندماج الاجتماعي.
لم توفق المجتمعات العربية، بكل مكوناتها السياسية والثقافية وفي مقدمتها تيارات الإسلام السياسي، في إنتاج "رأس مال اجتماعي" يحمي القيم المدنية المشتركة، ويمنع المواجهة بين المجتمع والدولة مهما تغيرت اتجاهات السلطة السياسية ومرجعيتها الفكرية، أي التوافق على القيم الكبرى التي تشكل الأرض الخصبة للإصلاح في القيم والمعاني والإرادة المشتركة.
المهم في هذا التطور أن هناك تضخيما سياسيا وإعلاميا لهذه الحالة في العالم العربي؛ ربما هذا التضخيم قادم من طبيعة جاذبية الربيع العربي في وسائل الإعلام، لكن علينا أن نتذكر أن حجم الصراع داخل فسيفساء الأديان والمذاهب في الشرق الأوسط لم يصل إلى مستوى الجرائم التاريخية التي ارتكبت على سبيل المثال على خلفيات دينية أو اثنية كما حدث قبل سنوات في روندا، في الوقت نفسه سيخسر الإسلام السياسي فرصة تاريخية إذا لم يتقدم هو نحو إصلاح ديني في سلوكه السياسي بحيث يستوعب الديمقراطية قبل أن تخرجه الديمقراطية من اللعبة السياسية بأكملها.
(الغد)
|