كان النظام المصري أقدم الأنظمة العربية التي يتماهى فيها الجيش مع السلطة ويسهر على استمراريتها ويمتص انقساماتها وتناقضاتها. أقدم الأنظمة التي تنشأ فيها رأسمالية الدولة في رعاية السلطة العسكرية التي تخلق طبقتها الخاصة الجديدة التي تحاول بعد وقت الخروج من الدولة وقصرها على حماية احتكاراتها ونهبها واستثمار سلطتها، ووضع قوتها الرادعة في هذا السبيل. لقد تمت في عهد مبارك خصخصة المؤسسات والشركات المؤممة ومنحها ما يشبه الهبات وغالباً بأسعار رمزية الى اعضاء الطبقة الجديدة الحاكمة التي تناهبت التأميمات وصار لزاما على الدولة عندئذ ان تضع قوتها البيروقراطية والأمنية المتضخمة للغاية في خدمة مصالح اتخذت شكلاً مافياويا عائلياً وشللياً، وأن ترعى هذه الاحتكارات وتحمي تحكمها وهيمنتها. لقد استخدم النظام المصري في عهد مبارك مليونا ومئتي ألف شرطي وقرابة مليونين في المخابرات لغاية كهذه، ومنح مصالح شكلت في عهد عبد الناصر أمثلة كبيرة على التحديث والتصنيع كمصنع الصلب وشركة الغاز الى احمد عز وجمال مبارك وأمثالهما. كان من نتائج سياسات كهذه توسيع الفارق الى حد خيالي بين أثرياء خرافيين وفقراء الى حد العدم، وكان من نتائجها تضخم الدولة أمنيا وبيروقراطيا الى حد خيالي. كان من نتائجها أيضاً صياغة قوانين استثنائية اضافة الى القوة الرادعة لصيانة مصالح الطبقة الجديدة، والتوريث إحداها.
مع ذلك اقتصرت الثورة على المطالبة الديموقراطية. سكتت عن المطالبة الاجتماعية والاقتصادية كما سكتت عن رفع شعارات تتناول سياسات الدولة الخارجية (إسرائيل، غزة، الولايات المتحدة). كانت الثورة رغم الشتات الجماهيري الذي شارك فيها قادرة على ان تلزم جادة الاعتدال، وان لا تثير مخاوف أميركية. كان وراء هذا الاعتدال وعي مبكر لما آلت إليه الخطابات القومية والاشتراكية والدينية، ورغبة في عدم بعث هذه الخطابات، وما يحوم حولها من شبهات، وما يمكن ان تستفزه من مشاعر وتأويلات. فهذه الخطابات ونقائضها شكلت عمود ايديولوجيات النظام وسياساته. لقد اكتفى الثوار بالمطالب الديموقراطية (رحيل الرئيس، تعديل الدستور، حل المجلسين المزورين) رغم ان الوجه الاجتماعي للثورة تجلى في إقصاء ممثلي رجال الأعمال عن الحكم ومحاكمتهم، والوجه القومي في إثارة قضية بيع الغاز المصري لإسرائيل بأقل من الكلفة (مسألة يتورط فيها جمال مبارك ابن الرئيس ووريثه المفترض في الحكم). أما الجانب الديني فهو قائم في مشاركة الإخوان المسلمين في الثورة. لقد اهتم شبان الثورة برفع شعارات ومطالب اجتماعية، تاركين المسائل الخلافية للممارسة الديموقراطية اللاحقة. احترس شبان الثورة من تقديم برامج ايديولوجية واستراتيجية. لقد تربت كل الايديولوجيات والاستراتيجيات المتضاربة في حضن الاستبداد ورعايته، وشكلت جميعها تمثلات وتمويهات له. ان هدم هذه الحصن ضروري لأي نقاش استراتيجي ولأي خيارات سياسية وايديولوجية. الحرية اولا وبعد ذلك يبدأ النقاش.
النظام المصري، ليس فقط أقدم الأنظمة العربية، في هذا النمط، انه تقريباً نموذجها الأكثر كمالاً. لقد كان هذا النظام مثالاً في استمراريته وقدرته على فض نزاعاته الداخلية وامتصاصها، كما قدم نموذجا في تماهيه مع السلطة وتموهه بها. كما شكل أيضاً نموذجا في رسوخه وتضخمه الهائل، كما انه قد يكون نموذجاً لاكتمال هذا النظام العربي ودخوله في تناقضات محكومة بطبيعته ومولده. فالخروج من رأسمالية الدولة الى الرأسمال الفردي لا يتم فقط بطريقة بشعة وجشعه للغاية في رعاية النظام الأمني وحراسته، بل ان هذا الانتقال يشكل ليس فقط استفزازاً للشعب الذي يلاحظ ان المال العام صار منهبة لحاشية النظام، بل يشكل أيضاً استفزازاً للجيش الذي تتهدد سلطته او تجري الصفقات في حراسة النظام الأمني الذي هو جزء منه. يمكننا ان نفهم محايدة الجيش في كل من تونس ومصر وتركه السلطة تسقط بدون أي تدخل.
سقوط هذا النظام رغم تضخمه الأمني الخيالي، ناشئ من ان هذه الأنظمة سرعان ما تغدو عدوة للشعب. تفقد الدولة على هذا الصعيد كل قدرة على الهيمنة كما يقررها غرامشي، أي التوسط في النزاعات الطبقية والقيام بدور المربي والمثقف للشعب. ان شراهة أعضاء هذه السلطة ومافياويتهم ومراعاتهم حاشيتهم وأقاربهم، سرعان ما تغدو مذمة ومكروهة، وسرعان ما يؤدي تضخم النظام نفسه ووصوله الى تناقض مع بيئته ومنابته واستغراقه في جشعه ونهبه، كل هذا يجعله لدى اول هبة عاجزا عن المواجهة. كان الدرس التونسي بسيطا، ليس في وسع أي نظام ان يقتل كل شعبه، لذا فإن قدرة الجمهور على تجاوز خوفه، وتخطي ضحاياه لمواصلة الهجوم، كافية لتفكيك النظام الذي كان قد وصل الى نوع من شلّة حاكمة دخلت في تناقض مع بداياتها ومنابتها. ان محاولة الخروج من رأسمالية الدولة الى رأسمالية فردية في حماية الدولة وحراستها، تؤدي، في جملة ما تؤدي، الى استفزاز الجهاز الحاكم نفسه., انها تستفز حتى الجيش والجهاز الأمني. ان ترهل السلطة على هذا النحو يجعلها قابلة للتفكيك لدى مواجهتها ضغطا جماهيرياً قوياً وحاسماً.
واضح بالطبع ان النظام المصري هو الأقدم، لكنه ليس الوحيد. الأنظمة العربية التي قامت على طغم عسكرية والتي اختطت رأسمالية الدولة وقامت اثناء ذلك بخلق طبقتها الخاصة التي اخذت تطمح للخروج من رأسمالية الدولة، الأنظمة العربية من هذا النمط هي تقريباً السائدة. بل انها تشكل ما نسميه أحياناً النظام العربي. وإذا كان النظام التونسي والنظام المصري قد سقطا في حدود أسابيع، فإن ذلك يعني ان ترهل السلطة وتناقضات النظام قد وصلت الى أوجها في مرحلة من تطوره. فالواضح ان هذا النظام يتكامل ويجر معه مزيداً من التناقضات ولا بد من ان مسألة التوريث ذات دلالة. فالواضح ان مسألة التوريث هذه، التي غدت في الفترة الأخيرة على جداول كل الأنظمة، هي الدلالة الرمزية للانتقال من رأســمالية الدولـــة الى دولة الرأسماليين الذين وُلدوا في رحم الحكم ورجــال الأعــمال الذين ترعرعــوا على نهبــها وهباتها.
انهيار النظام المصري يعيد الى الذاكرة نموذجية هذا النظام الذي سرعان ما صار قدوة، وثقله العربي الذي سمح له في يوم بخلق الجمهور العربي الذي تماثل وتحاكى في كل الأقطار، ان انهيار هذا النظام، وهذه المرة أيضاً بحركة جماهيرية، سينقل العدوى الى كل الأنظمة. لقد بدأت البوادر تظهر في اليمن والجزائر والبحرين. لم تطرح الحركة المصرية شعاراً قومياً، ولا يبدو ان لها مطامح قومية، لكن العدوى تتم بدون تحريض من هذا النوع او اطروحة مماثلة. العدوى تتم عفواً، وتستفيد لا من رطانة سياسية من أي نوع، لكنها تستفيد من روابط واقعية لا تحــتاج حتى الى تسمية. لقد انتقلت العدوى من المغرب الى المشرق في زمن قيــاسي، وهي الآن لا تزال تبدو فاعلة. لن نحتاج الى خطابة قومية لتفـــسير هذه العدوى. إن الواقع والروابط الواقعية ابلغ، وما يتم، يتم بدون أي افتــعال. لقد شعر الحكام قبل غيرهم به، والرشى التي قدمت من الســلطات للجماهير الشعبية في غير مكان دليل واضح على هذا. ان تدمير حاجز الخوف يجعل السلطات عاجزة تقريباً ويجعل الجماهير واثقة للغاية بنفسها وقدرتها.
كان يقال ان الديموقـــراطية مفهــوم غربي لا يناسبنا. كلام كهذا وجد استجابة فعلية في سيــاق عجـزنا عن اللحاق بالعصر وإحباطاتنا السياسية والايديولوجية. لقد وُلدت الأنظمة العسكرية من خيار الحرب التي ارتدت علينا هزائم متلاحقة، والاحباطات انتهت أحياناً الى موقف عدمي وانتحاري عبرت عنه «القاعدة» بتلاوينها العديدة. الحدث التونسي والحدث المصري يعيداننا الى الجادّة. الانتصار الديموقراطي هو مجدداً طريقنا الى العصر وإلى التحديث. الانتصار المصري بوجه خاص، سيكون زلزالاً يفجر الأرض تحت الجميع.
|