لا ترقى السلفيّة في لبنان إلى سويّة حزب الله من حيث امتلاكه مشروعاً متكاملاً، فضلاً عن بنائه جيشاً متباهياً وارتباطه بأنظمة استعملت وتستعمل لبنان ساحة لصراعات قاتلة ومدمّرة.
لكنّ هذا كلّه لا يعني، ولا يجب أن يعني، غضّ النظر عن النموّ السلفيّ في طرابلس أو صيدا أو سواهما، أو إيجاد أعذار وتبريرات لذاك النموّ، أو التمنّع عن مواجهته في الميادين السياسيّة والثقافيّة والإعلاميّة.
نعم، هناك خطر سلفيّ مرشّح أن ينمو ويكبر. أسبابه كثيرة يتّصل بعضها بالردّ على حالة حزب الله، وبعضها بالخواء القياديّ الراهن للطائفة السنّيّة، وبعضها بالأوضاع الاقتصاديّة البالغة التردّي، وهذا من غير أن ننسى المناخ الدينيّ – السياسيّ الذي يعصف بعموم المنطقة. فوق هذا، وفي ترجمتها اللبنانيّة، جاءت الثورة السوريّة تحفّز القوى المغبونة والمهمّشة لعقود، الأمر الذي استثمره السلفيّون وقوى سنّيّة أخرى استثماراً تعبويّاً.
لكنّ التفسير ليس تبريراً ولا يجوز أن يكون، سيّما وأنّنا، في لبنان وفي العالم العربيّ، عانينا الكثير من نظريّة "مش وقتها" وأنّ "التناقض الرئيسيّ" مع عدوّ ما يلغي سائر الاعتبارات الأخرى أو يؤجّلها.
بالطبع هناك المهوّلون بالسلفيّين لأغراض تخصّهم هم، وهناك الذين اكتشفوا فجأة أنّهم تقدميّون يكرهون تديين السياسة، وهم لم يروا ذلك لا في حزب الله الدينيّ ولا في الحركة النشطة جدّاً لبناء المساجد إبّان العهد الأسديّ المديد في سوريّا. بيد أنّ الخطورة الأكبر المترتّبة على هذه الظاهرة السلفيّة أنّها تنشىء "شعباً" مغايراً، داخل الشعب اللبنانيّ، بعدما سبق لحزب الله أن أنشأ "شعباً" مغايراً. والمقصود هنا المأكل والملبس والعادات والطقوس والتعليم وسائر أوجه الاجتماع وتعبيراته. وهذا ما يحصل في مناخ "أزمة الهويّة" المستمرّة في المنطقة كلّها وتعاظم الميل إلى إنشاء مجتمعات موازية ومضادّة تستفيد من تقلّص وظائف الدولة الرعائيّة والخدميّة والإيديولوجيّة. وفي وسع تطوّر كهذا في حال تماديه أن يمزّق كلّ واحد من شعوب المنطقة، فيما المنطقة بأسرها في أمسّ الحاجة إلى تحويل جماعاتها شعوباً. وغنيّ عن القول إنّ مهمّة كهذه بالغة الصعوبة، تستلزم كلّ الجهود المخلصة والعقلانيّة من غير أن يكون النجاح فيها مضموناً!
وإذا صحّ هذا التقدير في عمومه، فإنّ صحّته وخطورته تبدوان أكبر في بلد كلبنان موصوف بأنّه فسيفساء جماعات متساكنة ومتجاورة، بلدٍ تقلّب تاريخه الحديث على جمر الحروب والمنازعات بين هذه الجماعات. فكيف وأنّ هذا اللبنان إيّاه لا يحتمل، كما قد تحتمل بلدان أخرى، المرور في حقبة إسلاميّة ينفتح فيها الصراع السياسيّ ضدّ الإسلاميّين. ذاك أنّ احتمالاً كهذا لا يعني، في حالتنا، إلاّ شيئاً واحداً وحيداً هو الحرب الأهليّة المفتوحة التي سيكون لها أفق واحد أوحد هو الخراب العميم!
|