بقلم غسان المفلح
ككل الظواهر في المنطقة الشرق الاوسطية ومنذ أكثر من قرنين تقريبا، كانت ظاهرة الدين السياسي عبارة عن نتاج لاجتياح الغرب بكل حمولته للمنطقة، والتي لم تظهر نتائجها إلا مع بدايات القرن العشرين واضمحلال الامبراطورية العثمانية ودخول الاستعمار الأوروبي الى المنطقة. حيث أن ترتيب البيت السياسي في منطقة الشرق الأوسط عموما، من حدود الهند وحتى المغرب العربي، كان مهمة عسيرة للاجتياح الغربي لهذه المنطقة، دول تنشأ وشعوب تتعرف على حضارة جديدة ومنتجاتها، وجيوش تدخل وتخرج، وحروب عالمية لتقاسم النفوذ، صراع ضار على الأسواق والثروات. رفض للاستعمار وتقليد لحضارته والثالثة تجمع بين الاثنتين، ثلاث نزعات أصيلة رافقت هذا التاريخ وحتى اللحظة. بدأت تتشكل الظواهر السياسية في المنطقة منذ أن أصبح هنالك مقرات للبعثات التبشيرية في المدن الرئيسية، في القاهرة ودمشق وبيروت وحلب، حيث عرفت تحت اسم جمعيات، ومنها من أخذ حيّزه في سياق النضال من أجل الاستقلال العربي عن الآستانة.
ما يهمنا هنا هو تسيس الظاهرة الدينية إسلاميا. نزعم أن هذه الظاهرة بدأت تحت أعين الاستعمار الانكليزي في مصر، وفي سياق ماذكرناه أعلاه، حتى أنتجت ما يعرف حتى اليوم بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين.
الحركة نشأت عام 1928، على يد الشيخ المؤسس حسن البنا، وفي عام 1931 بعد اشهار الجماعة برز نشاطها في القاهرة حيث أسس البنا عددا من الشُعَب في أكثر من محافظة. تعامل معها الانكليز بصفتها ظاهرة سياسية بالدرجة الأولى، أي يمكن تصنيفها إنكليزيا بكونها حزبا سياسيا، لمواجهة فاعلية شيوخ ورموز النهضة العربية الأولى، وكتبهم التي بدأت تشكل مرجعا لتيارات سياسية ذات طابع استقلالي، أو التي كانت تطالب بخروج الاستعمار الانكليزي، هذا على المستوى الفكري، إضافة الى مواجهتها لأحزاب أخرى كانت تكتسح الساحة السياسية كحزب الوفد. ومما يذكره الباحث المصري عبد الرحيم علي في كتابه عن تاريخ الحركة هو علاقة الإخوان بالشيوعيين حيث طلب حسن البنا الذي اغتيل عام 1949من السفارة الاميركية تكوين مكتب مشترك بين الاخوان والاميركيين لمكافحة الشيوعية على أن يكون معظم أعضائه من الإخوان، وتتولى اميركا ادارة المكتب ودفع مرتبات أعضاء الاخوان فيه. وهذا الطلب، إن صح، فهو يدل على عمق العلاقة كتبادل مصلحي.
إن الاغتيالات من جهة والتحالف بين القصر المحمي من الانكليز والأخوان المسلمين من جهة ثانية، هما ما ميز المرحلة التأسيسية للإخوان ومابعدها حتى منتصف الخمسينات من القرن العشرين. وما يهمنا هنا في أية مراجعة لتاريخ حركة الإخوان المسلمين، التركيز على نقطتين غاية من الأهمية وهما: الأولى أن الاغتيالات السياسية في تلك الفترة كانت منتشرة في كل الحركات السياسية في العالم وليست مقتصرة على الإخوان. والثانية والأهم أن الإنكليز وكل العالم الغربي، والقوى السياسية المصرية كانت تتعامل مع الإخوان بصفتهم حزبا سياسيا في الدرجة الأولى والأخيرة، ولم يجرِ التعامل معهم على أنهم تعبير أو ممثل سياسي وثقافي للإسلام وللمسلمين، وبقيت هذه المعاملة حتى التسعينات من القرن الماضي!
في هذا التاريخ الذي يزيد على ستة عقود تقريبا، كان النظر الى العنف مشطورا بانشطار العالم إلى معسكرين، منهم من يراه عنفا ثوريا، (المعسكر الشرقي بزعامة السوفيات)، ومنهم من يراه إجراما (المعسكر الغربي)، ولكن الأطرف من كل هذا، أن مفهوم العنف الإجرامي (الإرهاب) كان يتبدل من مكان إلى آخر، فتارة الغرب يمجد العنف ويساعده في مكان ويجرّمه في مكان آخر، وتارة أيضا السوفيات يجرمون العنف في مكان ويساعدونه ويعتبرونه ثوريا في مكان آخر، في تبادل أدوار ومواقع ورمزيات بين الغرب والشرق حسب الرؤى والمصالح. مثال ذلك ان الغرب لم يجرم آنذاك أي نوع من أنواع العنف الذي مارسه الإخوان المسلمون في كل دول العالم، لسبب بسيط أنه كان موجها ضد القوى المحسوبة على المعسكر الشرقي. لهذا كانت الدول التي تسمى إسلامية في غالبيتها تعيش معركة في صفوف الغرب ضد الشرق. طبيعة هذا الصراع كانت تفرض هذا النوع من التعامل مع ظاهرة العنف لأسباب سياسية، لكن الأهم من كل هذا أنهم أطراف سياسية تتصارع وتتبادل المواقع، وليست أطرافا دينية أو ثقافية قارة وثابتة.
وللمفارقة أيضا، فإن الغرب لم يستخدم حتى مفهوم الإسلام الأصولي إلا في العقد الأخير من القرن الماضي، بل كان يستخدم مفهوم الصحوة الإسلامية إبان السبعينات والثمانينات لمواجهة المد اليساري. لينبثق بعدها مفهوم الإرهاب (نشاط إيديولوجي يستخدم العنف الذي يهدف إلى التخويف من أجل تحقيق أهداف سياسية سواء بالإصالة عن نفسه أو بالنيابة عن طرف آخر). هذا المفهوم أول ما طبق على المقاومة الفلسطينية حتى قبل وجود حركة حماس أو حركة الجهاد الإسلامي. وبات الشهيد ياسر عرفات والشهيد جورج حبش أكبر إرهابيين في العالم!! رغم عدم وجود أي ملمح إسلاموي للمقاومة الفلسطينية آنذاك، حيث تتوزعها قوى يسارية وقومية عربية ووطنية فلسطينية ليس فيها ملمح إسلاموي. لهذا، الارهاب مصطلح لم يكن يعبر عن ثقافة أو دين بعينه إلا بعد أحداث 11 أيلول!!
الدلالة الأكثر حضورا للإرهاب هي العنف، والعنف الراهن لكونه مسلحاً فهو سياسي، والسلاح في الزمن الراهن والمتفجرات والعبوات الناسفة هي منتج سياسي، لا يمكن أن تصل الى أية مجموعة مهما صغرت أو كبرت دون دوافع سياسية وطرق سياسية ولأهداف سياسية. الارهاب سياسة لكنها عنيفة ومدمرة ولهذا يجب مناقشتها في الحقل السياسي. أما وأن المسيحيين يمثلون الحملة الصليبية أو الهولوكوست، والمسلمين يمثلون الارهاب فهذه خدمة مجانية للارهاب ذاته ولمن يقف خلفه من نظم إقليمية ودول أخرى... كما انه لا يمكننا فهم" الإسلام السياسي" إلا بتجادله مع دخول مجتمعاتنا الحداثة من جهة وبتبادل المنافع والكراهية مع سلطات المنطقة وبقية العالم من جهة أخرى.
الإسلام السياسي مفرز حداثوي مهما كان رأي بعضنا فيه، هذا المفرز أيضا يتبادل المنفعة أحيانا مع الظواهر الارهابية، مهما كانت العلاقة بين الإرهاب والإسلام السياسي- وهنا أقصد تيارات الإخوان وغيرها ممن تتبنى النهج السلمي. فإن الأخير يرفض بشدة أن يقوده هذا الارهاب لأن تيارات الإسلام السياسي النخبوي أكثر من يعرف أن هذا الإرهاب هو سياسي ونتاج سياسي ويخدم نموذج سياسي أيضا. أن يقبل المتدين، من أي دين كان، العيش في دولة القانون والحريات والمؤسسات وتداول السلطات، هذا ما يلزمني من ثقافته وما تبقى هو مواطن مثلي مثله وإن اختلفت ثقافتنا... وحده الارهاب لا يقبل بهذا المنطق ولا يقبله ليس انطلاقا من موقف ديني بل انطلاقا من مصلحة سياسية مباشرة تحاول أن تجد مرجعا أيديولوجيا لها في الدين أو في القومية أو في العرقية للوصول إلى تحقيق أجندتها السياسية. بن لادن و"طالبان" نموذجا، وكل من يعتبر أن كل مسلم هو بن لادن نموذجا لكن في المقلب الآخر.
وكنت قد أشرت إلى أن هنالك فصلاً بين الإخوان المسلمين كحزب سياسي والإسلام السياسي بدلالاته المتداولة حاليا، وأيضا أميل الى أن مفهوم الإسلام السياسي، بات أكثر دلالة على القول بعبارة صريحة" أن كل المسلمين أفرادا وجماعات إرهابيون" هذه الدلالة التي يصار إلى تعميمها منذ أن رأى هذا المصطلح النور في الأدبيات والإعلام الغربي وغير الغربي. لماذا المسيحية السياسية في الغرب هي حزب سياسي ديمقراطي وليبرالي وعندنا يختصر الامر بعبارة" المسلمون إرهابيون" بدلالة مخفية أو صريحة؟ في النهاية ما يهم أيضا في نقاش هذه اللوحة الثلاثية (إخوان، إرهاب، إسلام سياسي) هو غياب موقع السلطة السياسية الراهنة في بلداننا عن حيز النقاش، وهذا أخطر ما في الموضوع برأيي. وغيابها يؤكد الدلالة التي ذهبنا إليها من انبثاق مصطلح الإسلام السياسي. وحدها النظم السياسية في منطقة الشرق الأوسط هي المستثناة كشخوص وكعائلات وكأفراد، وكأن لا دور لها في تاريخنا المعاصر!! وفق هذا المنظور هل يمكننا الحديث عن دخول مرحلة رابعة عنوانها تجربة حزب العدالة والتنمية التركي؟
( كاتب لبناني )
|