الحكومة البرلمانية هي السلطة التنفيذية في النظام البرلماني، والسلطة التي تمارسها هذه الحكومة، تختلف من حيث المضمون والمدى عن تلك التي تمارسها الحكومة في النظام الرئاسي. وقد احتاج ظهور الحكومة البرلمانية إلى الوجود، فترة طويلة من الصراع السياسي حتى استقرت، وأصبح لتشكلها شروط ومواصفات ينبغي توافرها.
وبالنسبة للأردن، فإن النصوص القانونية والدستورية القائمة، تحتاج إلى تعديلات وإضافات، من أجل توفير البيئة والشروط اللازمة لقيام هذا النوع من الحكومات عندنا. ولذلك فسوف نتحدث في هذه الورقة عن ارتباط هذا الحكومة بالنظام البرلماني أولاً، ونوعية قانون الانتخاب الذي يساعد على قيامها ثانياً، ثم نوعية النصوص الدستورية التي تدفع الأحزاب إلى النمو لتشكيلها في ظل ظروف الأردن ثالثاً.
أولاً
الحكومة في ظل النظام البرلماني والملكية الدستورية
أصبح مطلب ثورات دول الربيع العربي، الأخذ بالنظام البرلماني وتشكيل حكومات برلمانية، والتخلص من النظام الذي عانت منه شعوب تلك الدول. والنموذج التي تسير الثورتان التونسية والمصرية على طريق الأخذ به خير مثال. فقد طالبت كل واحدة من الثورتين المنتصرتين في تونس ومصر ولا تزال، الأخذ بالنظام البرلماني (ويسمى أيضاً النيابي)، وذلك بعد أن عاش البلَدَان لعقود من الزمن، في ظل أبشع صورة وممارسة للنظام الرئاسي. والنظام البرلماني الذي تطالب به الثورتان، يحكمه دستور واضح المعالم، متكامل البنيان، لا يعطي صلاحيات أو سلطات لرئيس الدولة، وبالتالي أصبح هذا النظام البرلماني مطلباً لثوار تونس ومصر، حتى لا يتمكن رئيس الجمهورية القادم من الاستناد إلى صلاحيات دستورية يتطرف في ممارستها نظرياً وواقعياً، ويصبح حاكماً مطلقاً أوحداً تدور الدولة وباقي السلطات ومعها الشعب حوله، لتكون طوع بنانه، وبعدها ينطلق الشعر والنثر والإعلام في التسبيح بحمده، والتأييد المطلق له، أملاً في رضائه ورضا عائلته وأنسبائه، ويسكت الجميع كاتمين غيظهم وهم يرون بأم أعينهم، كيف يستبيح الرئيس وأتباعه أراضي الدولة بقرارات حكومية، وكيف تنهب أموال الخزينة بسطوة رئاسية تباركها الحكومات والمناصب التي يصنعها، وتصبح أجهزة المخابرات والأجهزة الأمنية العلنية منها والخفية أدوات لتكميم الأفواه، وتسهيل النهب والسطو، ومصادرة الحقوق والحريات، وانتهاك الحرمات.
إن الصورة البشعة للنظام الرئاسي الذي قاد تطبيقه في تونس ومصر إلى ما سبق، ليست من طبيعة هذا النظام، وليست مما فكر أو يفكر فيه قانوني أو سياسي درس أو درّس هذا النظام، أو بحث في أصوله وتطوره نظرياً وواقعياً.
لكن الرئيس في الدولتين، بموجب بعض الصلاحيات التي يعطيها له النظام الرئاسي، استطاع الزحف تدريجياً خارجها وتوسيعها، ثم تمكن من تعديل نصوص الدستور وبعض القوانين ليزيد من سلطاته، حتى أصبح الصنم الأوحد الذي يتوجب على الجميع عبادته وطاعته. لننظر إلى أمريكا وفرنسا اللتان تأخذ كل منهما بالنظام الرئاسي الذي يعطي للرئيس صلاحيات وسلطات بموجب الدستور، وعندها سنجد أن ذات الوسائل الرقابية المنصوص عليها في الدستور الرئاسي تمكنت من إيقاف الرئيس عند حدوده. لكن الرئيس في كل من مصر وتونس تمكن من تدجين الوسائل الرقابية الدستورية، والاستحواذ على أشخاصها، والوصول بوطنه حدوداً أدت إلى الانفجار الشعبي والمطالبة بالنظام البرلماني.
والحقيقة أنه بمعزل عن نظام الجمعية الذي ظلت بواقيه في بعض المقاطعات السويسرية قائمة حتى الآن، فإن الفقه الدستوري في الوقت الحاضر يعرف نوعين من عوائل النظم السياسية، أولهما عائلة النظام البرلماني، وثانيهما عائلة النظام الرئاسي. وتعتبر بريطانيا النموذج البارز والمصدر التاريخي للنظام البرلماني، في حين تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية نموذجاً للنظام الرئاسي. وبالنظر الى أن الدستور الأردني ينتمي إلى عائلة النظام البرلماني وتستوجب محصلة إحكام هذا الدستور أن تكون لدينا حكومة برلمانية، فسوف أورد الحقائق التالية المستقرة عن هذا النظام:
1. نشأ النظام البرلماني في بريطانيا، وقد احتاج حتى وصل إلى المرحلة التي استقر عليها حوالي (600) سنة، وهي الفترة الممتدة من تاريخ صدور الماغنا كارتا عام 1215 حتى أواخر القرن الثامن عشر. وقد تكاملت ملامح هذا النظام الذي كانت محصلته تشكيل حكومة برلمانية، في عهد جورج الثالث الذي حكم من عام 1760 حتى عام 1820. وبالنظر إلى هذا التشكل التدريجي للنظام، فإن القواعد التي تحكمه، أي القواعد الدستورية، تشكلت تدريجياً أيضاً، وهذه القواعد بعضها مصدره أعراف وتقاليد فرضها الواقع، وبعضها مصدره أحكام أصدرها القضاء، والبعض الثالث مصدره نصوص لها طبيعة دستورية أصدرها البرلمان الإنجليزي.
2. أخذت بلجيكا بالنظام البرلماني الذي يفرض قيام حكومة برلمانية، بعد أن استقلت عن هولندا عام 1830، وأصدرت أول دستور برلماني مكتوب عام 1831، وهو عبارة عن تدوين للقواعد الدستورية التي تحكم النظام الإنجليزي. وقد أعادت بلجيكا مراجعة هذا الدستور وإجراء بعض التعديلات عليه في الأعوام 1893، 1899، 1921، 1980، 1988، 1992، 1993، 1996.
3. وعندما أرادت بعض الدول أن تأخذ بالنظام البرلماني الإنجليزي، وجدت نصوصه مكتوبة في بلجيكا، فاستقت نصوص دساتيرها البرلمانية من هذا الدستور. ومن هذه الدول مصر والأردن، حيث استقت مصر دستورها لعام 1923 من نسخة الدستور البلجيكي لعام 1921، وكذلك الأردن في دستورها لعام 1952، حيث تأثرت ببعض الصياغات المصرية.
4. وبالنظر إلى أن النظام البرلماني قد نما وترعرع وتكامل في ظل نظام ملكي، فقد أخذت بهذا النظام البرلماني النظم الملكية، في أوروبا، والعديد من الدول الملكية الأخرى في العالم، على مدى القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فضلاً عن العديد من الدول التي أخذت بالنظام الجمهوري، كما سنرى.
5. وبذات الطريقة الدستورية التي وفّقت فيها بريطانيا بين قاعدة توارث المُلْك الدستورية وبين قاعدة الشعب مصدر السلطة الدستورية، أخـذت الدول التي عمدت النظام البرلماني، واستقرت تلك الطريقة فيها، وأصبحت لديها حكومات برلمانية. وهذه الطريقة تقوم على الفصل بين السلطة وبين المُلْك، بمعنى أن ممارسة الشعب للسلطة تكون عن طريق نواب ينتخبهم ليشكلوا مجلساً يسمى مجلس النواب، أو مجلس الشعب، أو مجلس العموم ... الخ، وهذا المجلس الذي يمثل الشعب مصدر السلطة، يتم انتخابه على أسس حزبية، بحيث تتشكل الحكومة من حزب الأغلبية أو ائتلاف الأغلبية، لتمارس الحكم كسلطة تنفيذية تحت رقابة المجلس نفسه، فضلاً عن رقابة القضاء ورقابة الرأي العام. وبالنظر إلى أن رئيس الدولة يتولى موقعه بالتوارث وليس بالانتخاب، فإنه يصبح رمزاً للدولة ووحدتها، دون أن يمارس سلطة، لأن الذي يتولى السلطة هو الشعب وفقاً للآلية سابقة الذكر. وبصفته رمزاً للدولة، فإن الملك هو الذي يوقع على القرارات الحكومية التي تحتاج إلى توقيع رئيس الدولة، وهو الذي يوقع على التشريعات التي تتخذها السلطة التشريعية، وهو الذي تصدر الأحكام القضائية باسمه.
6. وانطلاقاً من قاعدة أن الملك لا يمارس سلطة في النظام البرلماني، فقد أصبح لا يتحمل مسؤولية، وبالتالي لا يجوز نقده أو المساس به، لأن النقد يوجه إلى من يمارس السلطة، ومن يقوم بهذه الممارسة يمكن أن يخطىء وبالتالي يحق للناس توجيه النقد واللوم له، وتغييره. وقد ولدت هذه القاعدة وتكرست في التطبيق في عهد الملك جورج الثالث في بريطانيا الذي حكم، كما أسلفنا، من عام 1760 حتى عام 1820، واستوجبت النص في قانون العقوبات على جريمة إطالة اللسان لكل من يصدر عنه أي مساس بالملك. ومنذ ذلك الوقت، استخلص الفقه قاعدة تلازم السلطة والمسؤولية، أي أن من يمارس سلطة يتحمل مسؤولية هذه الممارسة، ومن لا يمارس السلطة لا يتحمل مسؤولية.
7. ويقوم النظام البرلماني على ركائز أساسية منها:
- وجود رئيس دولة يملك ولا يحكم أو يمارس على شعبه سلطة، لأن الشعب هو صاحب السلطة ويمارسها عن طريق مجلس منتخب يمثله.
- وجود أحزاب سياسية تتناوب على الحكم، كحكومات برلمانية يشكلها حزب الأغلبية أو ائتلاف الأغلبية.
- حق المجلس الممثل للشعب (النواب) في منح الثقة للحكومة من أجل توفير مشروعية لوجودها وممارسة صلاحياتها.
- حق المجلس في سحب ثقته من الحكومة، ليصار إلى تشكيل حكومة بدلاً منها. - حق الحكومة في إجراء انتخابات مبكرة، أو في حل مجلس النواب، وفي هذه الحالة يتوجب على الحكومة أن تستقيل، ليصار إلى تشكيل حكومة جديدة لإجراء الانتخابات للمجلس الجديد. - يتوجب على الحكومة التي تحل مجلس النواب بيان أسباب الحل، حتى لا تلجأ الحكومة اللاحقة إلى حل المجلس الجديد لذات السبب.
- مسؤولية الحكومة التضامنية أمام مجلس النواب عن كل عمل تقوم به، وحق مجلس النواب في محاسبة الحكومة عما يصدر عنها.
8. وخلال القرن العشرين، أصبحت تأخذ بالنظام البرلماني الدول التي يوجد فيها نظام جمهوري وليس ملكي، كالهند وإيطاليا على سبيل المثال، وأصبح رئيس الجمهورية لا يمارس سلطة.
9. ومن أجل أن يصبح رئيس الدولة في النظام البرلماني رمزاً للدولة، ومجسداً لوحدتها الوطنية، فقد استوجب الدستور في النظام البرلماني توقيع رئيس الدولة، كما أسلفنا، على ما يصدر عن الحكومة والبرلمان.
ولعل ما أخذ به الدستور البلجيكي يجسد واقع الحال في هذا النظام البرلماني. وندرج بشيء من التفصيل، ما نصت عليه المواد (33، 36، 37،42، 44، 45، 46،61، 67، 88، 96، 104، 108، 109، 113، 114)، وذلك على النحو التالي:
- الأمة مصدر السلطات وتمارسها على النحو المبين في الدستور.
- يتم انتخاب أعضاء مجلس النواب والشيوخ على النحو المبين في الدستور والقانون، ويمثلون الأمة وليس من انتخبوهم فحسب.
- الملك هو رأس الدولة، وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية. - السلطة التشريعية يباشرها الملك ومجلس النواب ومجلس الشيوخ. - السلطة التنفيذية تتبع الملك في الحدود المبينة في الدستور. - تصدر أحكام القضاء باسم الملك. - الملك يصدق على القوانين ويصدرها ويأمر بوضع الأنظمة اللازمة لتنفيذها. - الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وله أن يصدر الأوامر لها ضمن الحدود المبينة في الدستور.
- الملك يدعو مجلس التشريع للانعقاد ويؤجل جلسته ويفض دورته. - للملك حق حل مجلس النواب إذا قرر هذا المجلس بالأغلبية المطلقة لأعضائه حجب الثقة عن الحكومة ولم يسمِ للملك خلال ثلاثة أيام رئيساً بديلاً، أو قرر سحب الثقة من الحكومة ولم يقم في ذات الوقت بتسمية رئيس بديل له. - إذا حُل مجلس النواب، فيعتبر مجلس الشيوخ منحلاً. - الملك يعين الوزراء ويقيلهم على النحو المبين في الدستور. - الملك ينشىء ويمنح ويسترد الرتب والألقاب الشرفية. - الملك يصدر العفو ويخفض الأحكام القضائية. - أوامر الملك الخطية أو الشفوية لا تخلي الوزراء من مسؤولياتهم. - يجب توقيع الوزير أو الوزراء المختصين على القرارات التي يوقعها الملك، ويتحمل الوزراء المسؤولية وليس الملك. - الوزراء مسؤولون أمام مجلس النواب.
- حق المواطنين بإنشاء الأحزاب السياسية بشرط أن لا يتعارض نشاطها مع أحكام قانون العقوبات.
وفي هذا الصدد، فقد صدر في بريطانيا عام 1992 مدونة بالقواعد الدستورية التي تحكم النظام البرلماني الإنجليزي، وقد جاءت هذه المدونة على شكل نصوص وضعها الفقه الإنجليـزي، للتسهيل على الباحثين عن المعرفة بأحكام الدستور الإنجليزي من خلال الرجوع إليها. ووفقاً لما ورد في الفصل (31) (Section 31) من المدونة، فإن هذه القواعد لا تخرج عن الأحكام الوارد ذكرها في الدستور البلجيكي. وذات الأحكام التي يحتويها الدستور الإنجليزي والبلجيكي، وردت في المواد (24-49) من الدستور الهولندي وفقاً لمراجعته الأخيرة عام 2008، والمواد (56-65) من الدستور الإسباني لعام 1978، الذي عاد بموجبه الحكم الملكي إلى اسبانيا وفقاً للنظام البرلماني، بعد زوال حكم الجنرال فرانكو.
10. ويترتب على ما سبق، بالنسبة لموضوعنا، أنه ما دام أن توقيع الملك وحده لا يكفي لصدور قرار أو قانون، وأن هذا الصدور يستوجب توقيع الوزير أو الوزراء من أجل تحمل المسؤولية، فإن من حق الوزير ومن واجبه أن يمتنع عن التوقيع إن وجد في الأمر مخالفة للدستور أو القانون أو المصلحة العامة. وفوق ذلك، فما دامت أوامر الملك الخطية أو الشفوية لا تخلي الوزير الذي يستجيب لها من المسؤولية، فمن واجب الوزير عندما يتبين أن في أوامر الملك ما ينطوي على مخالفة لدستور أو قانون أو مصلحة عامة، أن يعلم الملك بذلك، وعندها، فإن من الطبيعي أن يتراجع الملك عما أمر به. فإن أصر على ذلك، فمن حق الوزير أن لا يستجيب، لأنه هو وليس الملك، سيكون محلاً للحساب وتحمل المسؤولية.
11. لقد اكتفينا بذكر القواعد الواردة في دستور كل من مملكة بلجيكا، ومملكة بريطانيا ومملكة هولندا، ومملكة اسبانيا، كنماذج لأعرق الملكيات التي تأخذ بالنظام البرلماني في العالم. ونضيف، أن كل قاعدة واردة في نصوص تلك الدساتير، قد سالت من أجلها أنهار من دماء شعوب أوروبا من أجل الحصول عليها. وفوق ذلك، فإن كل نص من نصوص تلك الدساتير قد تحدد مدلوله على مدى ما يقرب القرنين، بموجب أحكام صادرة عن أرقى المحاكم وأعلاها، وبموجب مجالس تشريعية ملتزمة ومنتمية لأوطانها، فضلاً عن تفسيرات صادرة عن أكبر فقهاء القانون في العالم. واستقر مدلول تلك النصوص على نحو متكامل ومتوازن، بحيث إذا أُعطي بعضها مدلولاً مختلاً، سيؤدي ذلك إلى إلحاق الخلل بالبعض الآخر. ومن هنا، فقد أصبحت الدول التي تأخذ بنصوص تلك الدساتير، تلجأ إلى البحث عن المدلول الذي استقر لتلك النصوص، كمصدر تاريخي، عندما تحتاج إلى معرفة المعنى المتعلق بأي نص يستشكل عليها مدلوله.
12. وبمراجعة النصوص الواردة في الدستور الأردني، نجد أنها، ما عدا المادتين (34/4 و 36) متطابقة مع نصوص دساتير الملكيات العريقة التي أخذت بالنظام البرلماني، على النحو الذي سبق ذكره. واصطلاح الملكية الدستورية الذي أصبح محل تداول في الأردن، ليس من الاصطلاحات التي تستخدمها عادةً كتب القانون أو يستعملها الفقه الدستوري، لكن تداوله من قبل فئات وأطياف سياسية لا يعني أكثر من أننا في الأردن دولة ملكية يحكمها دستور يأخذ بالنظام النيابي – أي البرلماني – وأن هذا الدستور واجب التطبيق. والمادة الأولى من دستورنا تنص على أن 'نظام الحكم نيابي ملكي وراثي'.
13. إن النظام البرلماني الذي نأخذ به، قد ارتبط عند الدول التي طورته بوجود أحزاب تتناوب على السلطة لتشكيل حكومات برلمانية، حيث أن رئيس الدولة في هذا النظام، يكلف بتشكيل الحكومة رئيس حزب الأغلبية أو رئيس ائتلاف الأغلبية، ليطلق على هذه الحكومة وصف الحكومة البرلمانية. ومن الناحية الواقعية، فهو لا يكلف غيرهم، لأن هذا الغير لا يستطيع الحصول على الثقة المطلوبة من مجلس النواب. ولذلك، فإن الحكومة البرلمانية المقصودة، ليست مجرد حكومة حصلت على ثقة مجلس النواب، وإنما الحكومة التي تنبثق عن حزب الأغلبية أو ائتلاف الأغلبية.
وهكذا، فإن المتطلب السابق والأساسي للحكومة البرلمانية، هو وجود أحزاب تطرح برامجها للشعب، من أجل أن يختار في الانتخابات النيابية مرشحي الحزب الذي يجد برنامجه من وجهة نظره أفضل من غيره. لكن الذي جرى عندنا في الأردن، أن الأحزاب مُنعت لعقود من الزمن وأصبحت الحزبية جريمة. ومن هنا فلم ينشأ عندنا حتى الآن أحزاب أغلبية وأقلية تتناوب على الحكم. ولذلك، فإن الملك أصبح يطلب من أي شخص يثق به أن يشكل الحكومة، وأن يطلب منه تقديم استقالته، وذلك دون قيود أو شروط وفي أي وقت. وهذه الممارسة جعلت فهم رؤساء الحكومات والوزراء أن تقلدهم لمناصبهم واستمرارهم فيها، يتطلب إرضاء الملك بالطريقة التي يعتقدونها. ومن هنا أصبحنا نرى الكثير ممن يتقلدون هذه المناصب يقومون، إما بتوجيه خفي أو نتيجة استخلاص من ظروف الواقع، بنسبة ما يقومون به إلى الملك، وذلك تقرباً ووسيلة للبقاء. بل واستتبع ذلك، التقرب من المحيطين بالملك، اعتقاداً بأن ذلك يجلب رضاء جلالته عن طريقهم. وهكذا غدا صاحب الجهاز بالتدريج مطاعاً وأصبح صاحب سلطة على الحكومات اعتقاداً منها بأنه يعبر عما يريده الملك، فتنازلت له الكثير من الحكومات بشكل واقعي عن صلاحياتها الدستورية، وتفاقم الأمر، وصار بتوجيه منه يُعيَّن الوزراء وأصحاب المناصب، بل وحتى رؤساء الجامعات والعمداء، وعلى الحكومات التوقيع على القرارات لتكون المسؤولة دستورياً عنها، ويكون على هذه الحكومات في النهاية أن تجد السند الدستوري أو القانوني لما توقع عليه. ومن أجل إسباغ الصفة الدستورية على ما تقوم به الحكومات باسم الملك، أصبحت هذه الحكومات تغطي نفسها باستشارات قانونية تفصل حسب الرغبة والطلب، بأجر تدفعه الحكومات من المال العام. وبموجب هذه الاستشارات، أصبحت القوانين المؤقتة المخالفة للدستور مشروعة، وغدا تغييب مجلس النواب مشروعاً، وأصبح الانحراف عن الدستور مغطى بفتاوى تبرره. بل أكثر من ذلك، فقد أصبح من يحتل موقعاً اجتماعياً أو سياسياً، يصدر الفتاوى الدستورية رغم عدم تأهيله القانوني، اعتقاداً منه أن ذلك يسبغ عليه الرضا المطلوب. ورغم تكاثر أعداد أعضاء نادي رؤساء الوزارات، والتزايد في تعاقب رؤساء الديـوان الملكـي، فإني أظن، وليس كل الظن إثم، أنهم لم ينبهوا جلالة الملك إلى أوجه الخلل التي زحفت بشكل تدريجي على نظامنا الدستوري البرلماني، ولا إلى تكريس تغييب الحكومات البرلمانية، وأن ذلك أوصلتنا الى ما نشكو منه الآن، حتى يقوم جلالته بوضع الأمور في نصابها. بل إن بعض رؤساء الوزارات تعودوا على القول، إن جلالة الملك فوق الدستور، في حين أن جلالته لا يمكن أن يقبل بذلك. وأعتقد أن كل من قصّر في هذا الأمر، فإنه يكون قد حنث بيمين الإخلاص للملك وللدستور في آن معاً.
14. لقد حزنت وتألمت كثيراً، وأنا أقرأ فتوى أصدرها سياسي وازن في دولتنا حيث يقول، أن الوزراء في دولتنا، يحكمون وفقاً للمادة (26) من الدستور بتفويض من الملك!!، لأن المادة المذكورة تنص على أن 'تناط السلطة التنفيذية بالملك ويتولاها بواسطة وزرائه وفقاً لأحكام الدستور'. أتمنى على من قال ذلك أن يتمهل مستقبلاً، حتى لا يفتي بما لا معرفة له به، ويتذكر، أنه ما كان سيقول ما قال، لو أعطى نفسه فرصة ليسأل عن حقيقة وواقع النص المماثل لنص دستورنا، والمستقر نظرياً وعملياً على نحو متواتر على مدى قرنين من الزمان في بريطانيا وبلجيكا وغيرها من الملكيات الدستورية، راجياً أن يعلم أن التفويض له مدلوله القانوني، ويعني أن من يقوم بالتفويض يكون مصدراً للسلطة والصلاحيات التي سيمارسها من فوضه، وهذا غير قائم في دستورنا أو في دساتير العالم المتحضر عموماً، لأن الشعب هو مصدر السلطة. وأتساءل، ماذا سيكون ردة فعل الحكومات في دول أوروبا البرلمانية عندما يقال لهم، رغم أنكم حصلتم على ثقة أغلبية أصوات ممثلي الشعب، فإن مصدر سلطة الوزراء عندكم هو الملك/الملكة، وهؤلاء الوزراء يحكمون بتفويض منه أو منها، وقد أفتى بذلك سياسي وازن دكتور في الأردن!! في ظني أن كل وزير فـي هـذه الدول، سوف يسكت برهة وهو كاتم غيظه، وبعدها يقول، لا حول ولا قوة بالله على هذا السياسي الوازن الدكتور الأردني، ألا يعلم بأن دول أوروبا قدمت الكثير من الضحايا لتصل إلى عكس ما يقوله هذا الأردني، ثم ألم يطلع هذا الأردني على المواد (40، 45، 47،51) من دستور وطنه التي أخذت بحروفها من النصوص الدستورية التي تحكم نظمنا البرلمانية!!
لا يا أبناء وطني، إن الدستور ينبغي أن يحظى بأقدس درجات الاحترام، وكل نص فيه ملزم للسلطات والمواطنين على حد سواء، ومن ثم فلا يجوز لأحد مهما علا موقعه الوظيفي أو الاجتماعي، أن يتعاطى مع نصوص الدستور على هواه، أو يعطي لها مدلولات ليست منها. ويكفي ما سبق أن أُعطي لنصوص الدستور من تفسيرات تم تفصيلها على مقاس الحكومات أو أجهزتها أو غيرهم من أصحاب النفوذ، تقرباً لنيل الرضى أو متاجرة لقبض الثمن، وقادتنا إلى ما نحن فيه من سوء حال.
15. وعود على دستورنا الأردني، فقد كان عند صدوره عام 1952 نموذجاً للدستور البرلماني، وتشكلت في بدايات تطبيقه الحكومة البرلمانية. لكن التعديلات الـ (28) التي أجريت عليه، زادت من سلطة الحكومات، ومكنتها من التغول على ما عداها، وألحقت به التشويه، وأخلت بالتوازن الذي كان قائماً بين أحكامه عند صدوره. وحتى الحقوق والحريات التي لم يطالها التعديل في دستورنا، أفرغت من مضمونها بموجب تفسيرات على المقاس، أو بموجب قوانين مؤقتة أو دائمة صدرت على نحو مخالف لهذا الدستور. وهكذا، ساد في الواقع مفهوم للحكم وممارسة السلطة، تحولنا معه إلى دولة أمنية بدلاً من أن نكون دولة مدنية. وصاحب هذه الردة عن الدستور، خلق بيئة اجتماعية وسياسية يسيطر عليها الخوف، وطفا على السطح إعلام يتقن الهتاف والمديح، فدجنت الأقلام، واهتزت قيم المجتمع، وغُيّب الرأي الناقد للسلوك السلطوي الخارج على الدستور، بعد أن تم تصنيف المواطنين إلى موالين وغير موالين، وحرم الوطن من كفاءات الكثير من أبنائه، فانتشر الفساد، واستشرى عند من يتسترون بجلباب الولاء، واستبيحت أراضي الدولة ونهب المال العام، وغدت المفاتيح المحركة لمسار السياسة حكراً على الأمني والمناسبين لمقاساته، لنصبح دولة أشخاص وليس دولة قانون ودستور. ولولا الرياح العاصفة القادمة من بلاد الثورات العربية، لبقي صوت من يجأر بالشكوى صوتاً نشازاً يوصف صاحبه بأنه صاحب أجندة خاصة، أو يعاني من البطالة السياسية، أو له علاقات مشبوهة مع الخارج، إلى غير ذلك من التهم الجاهزة التي كانت تتكرر صباح مساء، وتقتات على تكرارها أقلام وأبواق بعينها لا تعرف غير الانتماء لجيوبها ومصالحها.
ومع ضغط الناس خلال الربيع الأردني المطالب بالإصلاح، تم الإعلان عن إصلاحات قامت بها السلطة، لكنها ظلت دون المطلوب. وبالنسبة لموضوعنا، الحكومة البرلمانية، فإنه لا قانون الانتخاب، ولا النصوص الدستورية ذات العلاقة، تمكن من تشكيل حكومات برلمانية، أو تستجيب للمتطلبات التي يقتضيها تشكيل تلك الحكومات، كما سنرى.
ثانياً الحكومة البرلمانية ومخرجات قانون الصوت الواحد
أسلفنا أن الحكومة البرلمانية بمعناها المتعارف عليه في دول النظام البرلماني، لا تعني مجرد حكومة تحصل على ثقة غالبية مجلس النواب، إذ لو كان الأمر يعني الحصول على الثقة فحسب، لكانت جميع الحكومات عندنا برلمانية، ولما كانت هناك حاجة عند أصحاب القرار لتكرار الوعود بحكومة برلمانية بعد الانتخابات. ذلك أن الحكومة البرلمانية التي نسعى إلى تكوينها في الأردن، هي التي تفرزها أغلبية مجلس نواب تجسد الأحزاب والقوى السياسية في الدولة، ويكون دور هذه الحكومة وضع برامج تلك الأحزاب والقوى موضع التنفيذ. وأتساءل، هل في ضوء المفهوم الحقيقي للحكومة البرلمانية، على ما سبق، ستؤدي الإنتخابات القادمة وفق قانون الصوت الواحد، إلى قيام حكومة برلمانية؟
1. إن المعطيات الواقعية وتجاربنا مع المجالس التي أفرزها قانون الصوت الواحد، لا تشجع على القول بأن المجلس القادم يستطيع إفراز حكومة برلمانية. ذلك أنه إذا كان مجلس النواب يتكون من نواب أفراد، يشكلون بعد فوزهم كتلاً هلامية، للحصول على رئاسات اللجان أو غير ذلك من المواقع، دون أن تجمعهم برامج حكم، وطروحات فازوا بالانتخابات على أساسها، فإن مثل هذه الكتل لا قيمة لها في توجيه حكم، ولا وزن لها في رقابة حكومات، إذ سيبقى كل واحدٍ من النواب أقلية بمفرده، ويعطي الثقة لأي حكومة، تقرباً منها، أو إرضاء لمن لا يُعصى لهم أمر، لتحقيق منافع ومصالح خاصة حالّة أو موعوده، وبالتالي فإن هذا الحال لا يوفر الأسس التي تقوم عليها الحكومة البرلمانية. وحتى عند فوز بعض الأحزاب الجادة ببضعة مقاعد، فسوف يكون صوتها المرحب به كمعارضة، فاقد الفاعلية، ودورها لا يعدو أن يكون استكمالاً لديكور ديمقراطي مطلوب، ولن يغير وجودها من الذهنية السائدة حتى الآن، وعقلية من يقررون الإصلاح على هواهم بإرادة فوقية. فالأردنيون يعرفون عن الكثيرين ممن يجهزون أنفسهم أو يتم تجهيزهم وتمويلهم لاعتلاء سرج النيابة والحكم، وفقاً لبركات قانون الصوت الواحد، وجرّبوهم، وشاهدوا بأم أعينهم، كيف حوّلوا الدولة، إلى مزرعة لهم وللأقارب، وللأنجال والأحفاد، وجرّفوا الوطن من كفاءاته وإمكانياته وقدراته.
2. أخشى أن الحال لن يختلف مع المجلس القادم، ما دام قانون الصوت الواحد قد أصبح قدراً سماوياً مفروضاً بإرادة علوية، انطلاقاً من جهلٍ قانوني يقول، أن الـ (108) مقاعد نيابية للصوت الواحد، أصبحت في نظامنا الدستوري والقانوني حقوقاً مكتسبة، ليردد الإعلام والأقلام هذا الإصطلاح لترسيخه، رغم تجاوزه على البديهيات. وحتى الوعد بالنزاهة التي أصبحت منّة على الأردنيين في الانتخابات، وتحسّناً عليهم بها، وفقاُ لوعودٍ تتكرر كل يوم، فإن ذلك لا يعني أكثر من إظهار حقيقة ما دخل إلى صندوق الانتخاب، وهذا على أهميته، فإنه في المحصلة لن يغيّر من نوعية النائب ولا فرديته، ما دامت الدوائر الصغيرة والمقزّمة، المسجلة مقاعدها في اللوح السلطوي المحفوظ، مخصصة لذات النوعيات، وجاهزة للتأثير على أصواتها ممن خَبِر الأردنيون جاهزيتهم للتمويل، أو حتى من خلال الشراء والبيع عن طريق سماسرة ومتكسبين.
3. لست أدري ماذا سيختلف مجلس الصوت الواحد القادم عن مجالس ذات الصوت التي سبقت. هل الـ (27) مقعداً لقائمة الوطن، سوف تجعل مجلس نوابنا مجلساً يفرز حكومة برلمانية، حتى لو كان هؤلاء من رفاق لينين وتشي جيفارا، أم أن الرفاق على فرض وجودهم، سيُحسّن صياحهم وصراخهم الفاقد للجدوى، من الشكل الديكوري المنتظر!!
4. إنني لا أعتقد بأن الإعلام الموجه، ونداءات الرسميين وكتاب الأعمدة، قادرون على إقناع من يعارضون نظام الصوت الواحد، أن بمقدورهم تحقيق الإصلاحات الدستورية والسياسية من خلال مجلس الصوت الواحد القادم. ذلك أنه ما دامت الـ (108) مقاعد، ومعها الـ (15) مقعداً الملحقة بها، تشكل أغلبية المجلس النيابي القادم، وكان هؤلاء من مفرزات ذات البيئة التي أفرزت نواب المجالس المطعون في سلامة وجودها وأدائها، فما هي الجدوى عند هذه المعارضة من المشاركة في الانتخابات، وهي تعلم أن ما تريده مرفوض منذ البداية، وأنها كالطالب الذي يتم إعلامه بأنه راسب مقدماً، ومع ذلك يقال له ادخل الامتحان واكتب ما تريد.
5. ومن وجهة نظري، فإن الطريق المفروض الآن على الوطن لكي يسير فيه، يكشف عن انتصار قوى الشد العكسي في معركتها ضد التطوير، لمنع أي إصلاح حقيقي يقود إلى حكومات برلمانية، وتداول السلطة. وقد تم تنصيب حكومات لهذه الغاية لتكون منتصرة في تلك المعركة. ومن الملفت للنظر، أنه منذ اليوم الأول الذي جاء فيه دولة الدكتور فايز، أعلن تكريسه لنظام الصوت الواحد، وألغى محصلة جهد حكومات سبقت، ولجنة الحوار الوطني التي كانت قد توصلت إلى استقراء لتوجهات الشعب الأردني في هذا المجال.
عشرون شهراً مضت على مسيراتٍ بُحّت أصوات الأردنيين خلالها وهي تطالب بإصلاح وحكومات برلمانية وتداولٍ للسلطة، فهل هذا الطريق الذي تم إدخال الوطن فيه يحقق ذلك؟ هل علينا أن نصدق ونلغي عقولنا ونسكت، ونطوي صفحة الربيع الأردني!!! وإذا كان الأمر كذلك، فمتى إذن نبدأ، متى نضع أقدامنا على بداية الطريق؟
6. إن الطريق إلى الحكومة البرلمانية يستوجب وقف الحرب الخفية التي طال أمدها على المعارضة وما لديها من أحزاب وتجمعات، والتغوّل عليها باختراقها وتفتيتها، كما يستوجب إلغاء مبدأ الصوت الواحد، وإيجاد دوائر انتخابية واسعة، تمكن المواطن من اختيار أصحاب الكفاءة، إضافة إلى مرشح عشيرته وقريته وحارته، وتمكن الأحزاب من حشد أصوات توصل ما أمكن من مرشحيها إلى مقعد النيابة، ليتعاملوا مع الحكومات، تأييداً أو معارضة، انطلاقاً من برامجهم الحزبية. وهذا يستدعي إعطاء الناخب حق التصويت لمرشحين بعدد المقاعد المخصصة لدائرته الانتخابية، أو بأكثر عدد فيها. ليس هناك من طريق غير هذا، لعلاج الآثار التي خلّفها قانون الصوت الواحد الذي مزّق لُحمة المجتمع، وحوّل الوطن إلى جزر اجتماعية وعشائرية، أو حتى مِزق عشائرية، معزولة، يعتبر كل منها المقعد النيابي عنواناً لسيادتها تحرص عليه.
7. إن طريق الصوت الواحد، لا يفتح الباب لوصول أحزاب إلى مجلس النواب غير تلك تجامل على حساب المبدأ، أو تلك التي ولدت في ليالي القدر الحكومية بطريقة قيصرية، ولن يسهل الوصول لكفاءات تعتبر النيابة خدمة عامة لوطن، وليس خدمة لقرية أو حي أو فخذ في عشيرة، أو تنفيعاً بتوظيف محظوظين، أو بتقاعد أو جواز سفر.
ورغم النتيجة المعروفة التي سيوصلنا إليها طريق الصوت الواحد، فإن الكثيرين يتساءلون عن كيفية تشكيل الحكومة بعد انتخاب مجلس الصوت الواحد الجديد، هل ستكون من نواب أو من غيرهم!! ليس هذا الأمر مما يمكن الانشغال به، ففي الدول التي تأخذ دساتيرها بالنظام البرلماني مثلنا، فإن الحكومة، ما عدا بريطانيا، يمكن أن يدخل في تشكيلها نواب أو غير نواب، في حين يشترط في الوزير في بريطانيا أن يكون نائباً في البرلمان.
8. أما الذي علينا الانشغال به، فهو الطريق الموصل لتشكيل الحكومات البرلمانية، وما يستهدفه هذا الطريق من نمو للأحزاب، من أجل أن تكون لدينا حكومات برامج حزبية، لا حكومات ترضيات وتنفيعات شلليّة. فإذا كانت الحكومة القادمة التي ستحصل على الثقة من مجلس نواب الصوت الواحد القادم، سيتم تشكيلها بعد التشاور مع نواب مثل الذين تعددت أوصاف المسيرات لهم، وأعلنت الصحف أنهم كانوا يتلقون الأوامر على الهاتف عند التصويت، فهل نتجاوز إن قلنا أننا سنكون أمام ذات المسرحية التي جربناها وانكوينا بنارها، ومع ذلك لا زلنا بعد (20) عاماً نكررها!! لقد تعاقب الممثلون لذات المسرحية على ذات المسرح، وبمضمون أدى إلى الفساد والإفساد والتسلط والاستفراد بالسلطة، وفرض نصوص دستورية وقانونية بأسلوب الفوقية والإستعلائية، فهل أمام هذا ننتظر إصلاحاًَ يتكرر الوعد به!!
9. لا يا أيها المسؤولون، لا ترحّلوا المشكلة للشهور القادمة، لأن الأمر جلل، والخسائر حتى الآن أكبر من حد الوصف، في حين أن القادم أعظم. انظروا إلى حقيقة ما في دواخل الناس، وما أصبحت تلهج به ألسنتهم من أحاديث سادت في مجتمعهم، وما تعكسه من فقدان للثقة، جعلت أمراً مألوفاً عندهم تجاوز المحرمات والخطوط الحمراء. فعلى مدى العشرين شهراً الماضية، استطاع المسؤولون، وببراعة فائقة، أن يُبعِدوا عن النظام تدريجياً بواكيه الحقيقيين، ويحوّلوا هؤلاء البواكي إلى مواجهة مع النظام، ويجعلوا الملك يقف بالمواجهة مع شعبه، مع ما ترتب على ذلك من جروح أصابت مشروعية النظام على نحوٍ غير مسبوق، ومع ذلك، لا يزال أصحاب القرار يستدرجون المزيد من أصوات الجروح، عن طريق الاعتقال وتوجيه التهم، رغم أن ذلك أثبت عدم جدواه.
أيها المسؤولون عن فرض مجالس الصوت الواحد، إنكم بإسكات الناس، تغلقون الجرح على كيس الألم، ليقود ذلك بالضرورة لاحقاً إلى الإنتفاخ ثم الإنفجار!! نعم هكذا فعلتم، فقد أكثرتم بتجاهلكم للناس أعداد الكاظمين الغيظ والمشحونين بالقهر، وهيأتم هؤلاء للانفجار، مع أول عود كبريت يتم إشعاله.
أربع حكومات حتى الآن طواها الربيع الأردني، والخامسة الجديدة ستغادر بعد شهرين، ولا تزال شكوى الأردنيين على حالها، فهل تعتقدون أنه في ظل الحكومة السادسة ومجلس الصوت الواحد القادم، سيختلف الحال، عند شعبٍ واعٍ يسمي الفاسدين وتجار المناصب بأسمائهم، ويستطيع التمييز بين سلطات الديكور وسلطات الفعل!! إنني أتمنى من الله أن لا يصبح إخراجكم القادم لسلطتي التشريع والتنفيذ، وهو آخر ما في جعبتكم للإصلاح، عود الكبريت المشؤوم!!
10. لا بد من تدارك الأمر لتجنب الوصول إلى طريق مسدود. ويمكن أن يتم التدارك عن طريق سحب قرار حل مجلس النواب، لوجود عوارٌ دستوري فيه، أو إحالة الأمر إلى المحكمة الدستورية لتفسير المادة (74/1) من الدستور. ذلك أن العوار يتمثل في عدم إدراج سبب حل المجلس في صُلب القرار، وبالتالي مخالفته الواضحة للمادة (74/1) من الدستور، التي تستوجب ذكر سبب حل مجلس النواب. إن الصدوع للشرعية الدستورية يستوجب تصويب قرار حل المجلس، مهما أدى ذلك إلى تعاقب الحكومات. أما بعد تصويب القرار وعودة مجلس النواب، فإنه يكون بمقدور أي حكومة قائمة، تعديل قانون الانتخاب، من خلال هذا المجلس على النحو الذي يتطلبه التوافق المجتمعي، ليُصار إلى حله بعد ذلك بقرار صحيح.
ثالثاً
كيف نُنمي الأحزاب عندنا كمتطلب أساسي للحكومة البرلمانية
تعتبر الأحزاب السياسية في الوقت الحاضر، الوسيلة المثلى التي أفرزها الفكر السياسي والدستوري لانصهار الأفراد والجماعات داخل الدولة، في مؤسسات سياسية تتولى الحكم، أو تكون رقيباً عليه، من خلال ما تقدمه من برامج وخطط مدروسة تضعها في خدمة وطنها وشعبها موضع التنفيذ. ومثل هذا الأسلوب المؤسسي، هو الذي يقود إلى تشكيل حكومات برلمانية، وهو الذي يعطي للحياة السياسية معناها، ويمكن من زيادة التلاحم والترابط بين أبناء المجتمع، ليكون التنافس بين الأحزاب قائماً على المضامين التي يطرحها كل حزب، مما يؤدي إلى تقدم الأداء في الدولة وتطوره. لكن هذا الأسلوب المؤسسي، تم تعطيله في الأردن لأكثر من ثلاثين سنة، أصبحت خلالها الحزبية جريمة يعاقب عليها القانون، وخلال العشرين سنة الأخيرة التي أبيحت فيها الحزبية، غدت الأحزاب التي تمكنت من التشكيل تراوح مكانها، لتصبح مجرد ديكور لتزيين الواقع السياسي. ومثل هذه النتيجة تستوجب تغيير النهج والقواعد التي تحكمه.
ونتبيّن ذلك مما يلي:
أ. بالرغم من أن الدستور الأردني منذ عام 1952 ينص في المادة (16) على حق الأردنيين في تأليف الأحزاب السياسية، إلا أن هذا الحق ظل خالي المضمون بعد أن جعلت الدولة إنشاء الأحزاب جريمة يعاقب عليها القانون، واستمر هذا الحال حتى إلغاء الأحكام العرفية عام 1991. ومنذ هذا التاريخ حتى الآن، حيث أصبح يطلق على هذه الفترة فترة العهد الديمقراطي، صدرت قوانين أحزاب يغلب عليها الطابع التعجيزي والعقابي، وحتى الأحزاب التي تمكنت من النشوء، فقد وضع لها من العراقيل ما تكفل بإجهاض نموها، لتصبح عديمة التأثير على توجهات الحكم أو تشكيل الوزارات، وظل يطلق على الكثير منها أحزاب المعارضة، لاستكمال الشكل الديكوري للديمقراطية. وهنا نجد أن التعديلات التي جاءت بنصوص أضيفت إلى الدستور الأردني، أبقت الحال على ما هو عليه، رغم أن ذلك هو الجوهر الذي ينبغي أن تعالجه الإصلاحات الدستورية، وأنه هو الذي يمكن من قيام الحكومات البرلمانية. وفي هذا المجال، فقد راعت العديد من الدول هذا الأمر، مثل المغرب وإسبانيا، حيث وضعت قواعد في دساتيرها، تؤدي إلى دفع الأحزاب إلى التشكل والنمو، في الوقت الذي أغفلنا ذلك في تعديلاتنا الدستورية.
ب. ففي المغرب، عالج الدستور الجديد هذا الموضوع بشكل جدي وهادف:فمن ناحية، نصت المادة / الفصل (47) على ما يلي:
'يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها' ومثل هذا النص جعل للحزب، موالياً كان أم معارضاً، حقاً دستورياً في تشكيل الحكومة، حتى ولو حصل على عشرين مقعداً، ما دام أنه هو الذي تصدر الانتخابات. ويستطيع القيام بهذا التشكيل من خلال الائتلاف مع أحزاب وتكتلات أخرى. ومن ناحية ثانية، أعطت المادة / الفصل (10) للمعارضة حريات وحقوقاً جوهرية من شأنها أن تشركها في شؤون الحكم وصنع القرار، وتمكنها من النمو، ومنها:
'يضمن الدستور، بصفة خاصة للمعارضة الحقوق التالية:
- حيزاً زمنياً في وسائل الإعلام العمومية يتناسب مع تمثيلها
- المساهمة في اقتراح المترشحين وفي انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية
- رئاسة اللجنة المكلفة بالتشريع بمجلس النواب
- ممارسة السلطة عن طريق التناوب الديموقراطي محلياً وجهوياً ووطنياً في نطاق أحكام الدستور .....'
ج. وقد أخذت أسبانيا في دستورها لعام 1978، بأسلوب في تشكيل الحكومات، تجاوز الأسلوب المنفرد لرئيس الدولة، جيث مكّن من نمو أحزاب سياسية، في أعقاب انتهاء حكم الجنرال فرانكون، والوصول إلى قيام حكومات برلمانية، خلال بضع سنوات، لتتناوب على الحكم.
د. أما في الأردن، فإننا نجد أن المادة (35) من الدستور الأردني تنص على ما يلي:
'الملك يعين رئيس الوزراء ويقيله ويقبل استقالته ويعين الوزراء ويقيلهم... الخ.'
هذا النص أعطى للملك حقاً مطلقاً في تعيين رئيس الحكومة وإقالته، دون أي قيد أو شرط، وأبقته التعديلات، دون مراعاة للواقع الأردني، والشكوى التي بلغت أوجها من الآثار والنتائج التي قاد إليها هذا الأسلوب. إن الملك، كأي إنسان، يعيش في بيئة اجتماعية معينة، ومنذ عام 1952، وهو يختار من معارفه في هذه البيئة، الشخص الذي يشكل الحكومة. ومثل هذا الأسلوب الفردي هو الذي قاد إلى ما نحن فيه من شكوى في الأردن. ذلك أن رئيس الوزراء، يأتي للموقع من عالم الغيب، فلا يعرف لماذا جاء، ولا متى يتم إخراجه. وحرصاً من هذا الرئيس، الذي لا سند له من حزب أو تجمع نيابي على البقاء في منصبه، وجد أن الطريق إلى هذا البقـاء هو عدم الخروج على الذهنية السائدة في الحكم، اعتقاد بأن ذلك يبقيه في موقعه، وغدا لسفينة الحكومة أكثر من قائد وموجه، سواء اتفق الأمر مع الدستور أو خالفه، في حين أن الرئيس الذي يتوجب عليه أن يمارس السلطة ويتحمل المسؤولية وفقاً للدستور، أصبح عليه تنفيذ ما يقرره له غيره. وهكذا أصبح رؤساء الوزارات والوزراء يعلنون أن ما قاموا به جاء بتوجيهات الملك، وساد الاعتقاد عند الناس وفقاً للواقع أن الملك هو الذي يمارس السلطة وليس الحكومة، في حين أن الدستور يجعل الملك مصوناً من كل تبعة ومسؤولية. بعبارة أخرى، أصبحت هناك جهات تمارس السلطة، ويكون على الحكومة التنفيذ وتحمل المسؤولية.
هـ. وإذا كان رئيس الدولة في الديمقراطيات البرلمانية هو الذي يتولى تكليف رئيس الحكومة بالتشكيل الوزاري لحكومة برلمانية، فذلك لأن هذه الديمقراطيات لديها أحزاب تتناوب على السلطة، إذ يكون على رئيس الدولة أن يكلف رئيس حزب الأغلبية أو ائتلاف الأغلبية بهذا التشكيل، لتصبح الأقلية هي المعارضة. أما في الأردن، فقد تم تعطيل إنشاء الأحزاب السياسية أو نموها، كما أسلفنا، فغدت محصلة النص السابق، سلطة مطلقة فردية للملك، مع ما يترتب على ذلك من آثار في الحياة السياسية. ولذلك، فقد كان ينبغي أن تتضمن التعديلات الدستورية نصاً يعالج موضوع الأسلوب الفردي في تشكيل الحكومات، ويأخذ بيد الأحزاب للنمو، وتشكيل الحكومات البرلمانية.
و. وفي الوقت الذي عالجت فيه المغرب وأسبانيا هذا الواقع الموجود عندها على النحو السابق، فقد رفض المصلحون عندنا قبول أي اقتراح بهذا الشأن. ذلك أنني، كنت اقترحت النص التالي كبديل عن نص المادة (35) سابقة الذكر.
'يتولى الملك تعيين رئيس الوزراء في ضوء التشاور مع قيادات الكتل النيابية التي لا يقل عدد أعضائها عن عشرة بالمئة من مجموع أعضاء مجلس النواب'
ومثل هذا النص يضع أسلوباً مؤسسياً في تشكيل الحكومة يبقي صلاحية التكليف للملك، وفي ذات الوقت يأخذ بعين الاعتبار، ظروف الواقع الأردني، فيدفع أعضاء مجلس النواب إلى تأليف كتل نيابية تتكون من النسبة السابقة وفقاً لبرامج تضعها، وكذلك يدفع الأحزاب التي يقل عددها عن النسبة المطلوبة إلى عقد ائتلافات بينها ليصل عدد أعضائها إلى النسبة المقررة، ويشعر جميع النواب بكتلهم أنهم شركاء في تشكيل الحكومات، ومن ثم ليصبح التنافس بين هذه الكتل مستنداً إلى برامج وطروحات يتم من خلالها تقييم أداء الحكومة ومحاسبتها. وفي الوقت الذي سوف يساعد هذا الأسلوب في نمو أحزاب سياسية تصل إلى أغلبية وأقلية، فإنه سوف يشكل سنداً وظهراً نيابياً للرئيس، يمكّن حكومته من ممارسة سلطاتها الدستورية، ويضع حداً لهيمنة بعض الجهات على الرئيس ووزرائه. وهذا بالتأكيد يستوجب أن يكون مجلس النواب منتخباً حقيقة من الشعب، وليس مزوراً.
ز. وقد زودت دولة رئيس الوزراء خلال شهر إجراء التعديلات، بدراسة نشرتها الصحف المحلية، أوردتُ فيها النص السابق الذي اقترحته، مع عدد من الاقتراحات التي من شأنها إقامة نظام دستوري برلماني متوازن في الأردن، وعرضتُ ما توصلتُ إليه على مجموعة من السادة النواب في جلسة عقدت بناء على طلبهم في مجلس النواب، لكن النواب، رغم قناعتهم بمـا زودتهم به، تم رفض ما قدموه، لأنه لا يتفق مع التوجيهات التي تأتي للمجلس عبر الهاتف. وهكذا، فإن أعضاء مجلس النواب لم يكن لهم حول ولا طول، وانحصر دورهم في مسائل جانبية وشكلية، وبقينا أمام أسلوب في تشكيل الحكومات، لا يراعي ظروفنا التي تتطلب الدفع بنمو الأحزاب إلى الأمام، من أجل الوصول إلى تشكيل حكومات برلمانية حقة.
وفي تقديري، فإن الأخذ بما ورد في هذه الورقة، يمكن أن يضعنا على طريق تشكيل الحكومات البرلمانية المطلوبة. |