عمّق مشروع الدستور المصري الجديد الأزمة التي أطلقها الإعلان الدستوري. إسراع الرئيس محمد مرسي والجمعية التأسيسية لتمرير الاقتراع على المواد بالشكل الذي تم به، يدعو إلى العجب، على الأقل. ثمة الكثير من المآخذ على الدستور لناحية مطاطية المواد وسهولة التنصل من الالتزامات التي تمليها على السلطات وإطلاق يد جهات لا يفترض بها التدخل في الشأن السياسي (هيئة كبار العلماء)، على نحو يعيد تشكيل المجتمع المصري بالصورة التي ترغب بها القوى الحاكمة اليوم. وظهرت في وسائل الإعلام المصرية شروحات مفصلة للثغرات الرهيبة في المشروع وتشمل علاقات السلطات ببعضها وانحسار دور الدولة الاجتماعي والتنموي وتجاهله المبدأ الأساس لكل دساتير العالم: المساواة بين المواطنين (راجع على سبيل المثال مقال زياد بهاء الدين «عشرة أسباب لرفض الدستور» في صحيفة «الشروق» في 5/12/2012). وبلغت المهزلة ذروتها في الدعوة الى استفتاء عام حول المشروع بعد أسبوعين من إقرار الجمعية التأسيسية له، ما يتناقض ليس مع إمكان نشره وتعميم مضمونه على المصريين بملايينهم التسعين وانتظار ردود فعل القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعنية، بل أيضا ما يطيح تعهد مرسي بإطلاق حوار مجتمعي واسع حول الدستور بمجرد أن تقره «التأسيسية». لكن هذا ليس أول تعهد ينكث «الإخوان المسلمون» به. كل النواقص القانونية والإجرائية في مشروع الدستور تبقى مفهومة، كل التحشيد الميليشوي لأنصار «الإخوان» حول القصر الرئاسي يظل في سياق محاولة تثبيت حكمهم بعد الهبة المصرية العارمة ضد ما وصف بحكم «مرسي موحد السلطات» على وزن العبارة التي تشير الى «مينا موحد القطرين»، الفرعون الذي وحد شطري مصر القديمة. التحشيد هذا مفهوم بدوره. ولعله ليس من المبالغة القول إن الانقسام الذي يشهده الشارع المصري اليوم، ذهب عميقاً في ارض تعج بأسباب الصراع. ومن الخفة وقلة الفطنة الاستخفاف بحجم الإخوان المسلمين ونفوذهم وسعة تأثيرهم. وما ارتكبوه من أخطاء سياسية كبرى في السنتين الماضيتين لا ينفي الحقيقة البسيطة المتمثلة في حضورهم القوي في الكثير من القطاعات الحيوية. لكن ذلك أمرٌ وما يحاولون تمريره اليوم أمر آخر تماما. وأس المشكلة التي يطرحها الإخوان اليوم يتجاوز الجوانب الدستورية والإجرائية بأشواط ويصل إلى هوية المجتمع المصري وموقع مصر في محيطها وفي العالم. ويصل إلى الموقف الرافض للانخراط في الحداثة والتنوير (ومدخلها الاعتراف بالمساواة بين المواطنين بغض النظر عن الدين واللون والجنس والعرق)، بذريعة التمسك بفهم سطحي ومخلٍّ بأوامر الإسلام ونواهيه. وعليه، يتعين الانتباه هنا إلى مسألة تداني البداهة وتغيب عن النظر وسط غبار المهاترات، خلاصتها أن ما يجري اليوم هو ردة بالمعنى الدقيق للكلمة. كانت الردة تراجعا عن القيم الجديدة التي اقترحها الإسلام على عرب الجزيرة. واليوم تشن قوى الظلام حرب ردة -وللمفارقة باسم الإسلام- على قيم اعتنقتها شرائح واسعة من المصريين، قيم العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة. ردة نحو حكم الفرد المتسلط المُؤيَّد بالجماعة المعصومة وبرؤيتها الصائبة إلى شؤون الناس وشجونهم. ردة نحو العداء للعقل ونحو شهر سلاح الدين واحتكار تفسيره وتأويله. فيطرح السؤال ذاته بحدة: من هو الأقرب إلى روح الإسلام وحقيقته؟ أهو جماهير ميدان التحرير بألوانها واختلافاتها الصحية، بل الضرورية، أم من يحاول فرض رأي واحد ولون واحد وقول واحد؟
|