حدث ما كنت أخشى منه وانقسمت مصر على نفسها إلى فسطاطين: فسطاط توجه إلى قصر الاتحادية للتعبير عن تأييده للإعلان الأخير الذى أصدره الدكتور محمد مرسى، بينما توجه الآخر، إلى ميدان التحرير للتعبير عن رفضه له. ولأننى شخصياً لم أتردد فى التعبير عن رفضى الفورى لهذا الإعلان فى مختلف وسائل الإعلام، فقد كان من الطبيعى أن أنحاز إلى الفسطاط الآخر وأن أتوجه فى اليوم التالى إلى ميدان التحرير للتعبير عن تضامنى معه. ولا أخفيكم سراً أننى كنت أخشى من أن تحاول فلول النظام القديم استغلال الموقف وركوب الموجة، غير أننى ما إن دلفت إلى قلب الميدان حتى شعرت براحة تامة، لأن كل الوجوه التى قابلتها هناك ذكّرتنى بأيام ثورة يناير العظيمة، وأعادت إلىَّ الإحساس بنبضها الحقيقى.
لم أستمع إلى الخطاب الذى قيل لى أثناء تواجدى فى الميدان إن الدكتور مرسى يلقيه الآن على مسامع أنصاره المتجمعين أمام قصر الاتحادية.
ورغم شعورى الفورى بارتكاب الدكتور مرسى خطأ سياسياً كبيراً حين أقدم على تصرف من هذا النوع، لأن مجرد قبول رئيس الدولة التوجه بالخطاب إلى الأنصار وحدهم يعنى اعترافاً ضمنياً بأنه لم يعد رئيساً لكل المصريين، فقد حرصت على الاستماع إلى خطابه باهتمام بمجرد عودتى إلى منزلى فى المساء. ولأن مهنتى هى البحث العلمى أولا وقبل كل شىء، فقد حاولت أن أعثر فى خطاب الدكتور مرسى على ما قد يقنعنى بضرورة إعادة النظر فى موقفى المبدئى من الخطوة الخطيرة التى أقدم عليها، غير أننى لم أعثر فيه إلا على كل ما زاد من قناعاتى رسوخاً. وللتدليل على صحة هذا الموقف، رُحت أستعرض المرة تلو الأخرى ما تضمنه الإعلان الدستورى من مواقف وإجراءات سياسية فى ضوء خبرتى الشخصية فى التعامل مع القوى السياسية المختلفة خلال السنوات الأخيرة. يتضمن إعلان الدكتور مرسى الأخير ست مواد،
الأولى: تقرر إعادة التحقيقات والمحاكمات فى جرائم قتل وإصابة المتظاهرين، والثانية: تحصن كل ما سبق أن أصدره الرئيس مرسى من إعلانات دستورية وقوانين وقرارات «منذ وصوله إلى السلطة فى ٣٠ يونيو ٢٠١٢»، وأيضا كل ما سيصدر عنه مستقبلاً «حتى نفاذ الدستور وانتخابات مجلس شعب جديد»، والثالثة: تمنحه حق الانفراد بتعيين النائب العام لمدة أربع سنوات تسرى على شاغل المنصب وقت صدور الإعلان، مما يعطيه الحق فى إقالة المستشار عبدالمجيد محمود فوراً وتعيين نائب عام بدلاً منه، والرابعة: مد المهلة الممنوحة للجمعية التأسيسية شهرين إضافيين للانتهاء من صياغة دستور جديد، والخامسة: تحصين الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى ضد أى قرار بالحل تصدره أى جهة قضائية، والسادسة: منح نفسه كل السلطات الاستثنائية اللازمة لاتخاذ ما يراه ضرورياً لمواجهة أخطار محتملة قد «تهدد الثورة أو حياة الأمة أو وحدة وسلامة الوطن».
يتضح من هذا السرد أن «إعلان مرسى» يستجيب فى ظاهره، كلياً أو جزئياً، لأمور محددة، كانت قوى الثورة قد طالبت بها من قبل فى مرحلة أو أخرى من مراحل تطورها، كإعادة التحقيقات والمحاكمات فى جرائم قتل المتظاهرين،
وإقالة النائب العام، وإتاحة المزيد من الوقت لصياغة دستور توافقى.. إلخ. غير أن الإعلان تضمن فى الوقت نفسه إجراءات استثنائية تمثل النقيض تماماً لكل القيم والأهداف التى من أجلها قامت الثورة، ومن ثَمّ تفتح الباب أمام إمكانية الانقضاض على الثورة ذاتها وتصفيتها. وقد حاول «مرسى» فى خطابه إقناع المواطنين بأن الإجراءات الاستثنائية التى تضمنها إعلانه هى لحماية الثورة، غير أنه لم ينجح فى إقناعى شخصياً، ليس لأننى أعارض تطبيق شرع الله، كما تدعى أبواق إعلامية مع كل من يختلف سياسياً مع التيار الذى ينتمى إليه الرئيس، ولكن لأننى أعارض كل من يحاول أن يصنع من نفسه ديكتاتوراً، حتى لو ارتدى ثياب الملائكة، من منطلق قناعتى التامة بأن الاستبداد هو ما أوصلنا إلى قاع الهاوية التى نحن فيها الآن.
قراءتى الخاصة والمستمدة من تجربتى الشخصية فى العمل السياسى تقول إن الهدف الأساسى للإعلان الرئاسى هو التمكين للجمعية التأسيسية بتشكيلها الحالى بعد الانسحابات الأخيرة منها، من كتابة دستور على مقاس الجماعة التى ينتمى إليها الرئيس. وهذا أمر مرفوض بالمطلق، وذلك لسبب بسيط، هو أن الدستور يحدد قواعد إدارة اللعبة السياسية، التى ينبغى أن تكون محايدة تماماً، ضماناً للنزاهة والمساواة بين مختلف المتنافسين على الساحة. ولست منحازاً سلفاً لأحد أو لبعض الفرق المتنافسة دون البعض الآخر. أما الأشياء الأخرى التى تضمنها الإعلان، والتى تبدو فى ظاهرها إيجابية وتستهدف حماية الثورة، فقد استهدفت ذر الرماد فى العيون للتغطية على الهدف الحقيقى.
كنت واحداً من بين كثيرين أثق فى وطنيتهم، توجهوا إلى فندق «فرمونت» عقب انتهاء الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة وقبل إعلان نتائجها، لإجراء مفاوضات مع الدكتور «مرسى»، استهدفت أمرين، الأول: الحيلولة دون تزوير نتائج الانتخابات، والآخر: حث الدكتور مرسى على أى يكون رئيساً لكل المصريين فى حال إعلان فوزه رئيساً للجمهورية. ورغم المماطلة فى تنفيذ ما وعد به الرئيس، فقد كنت واحداً ممن دعوا رفاقه إلى التحلى بالصبر، وسعيت مع آخرين لعودة الأعضاء المنسحبين من الجمعية التأسيسية، ولتشكيل لجنة فنية استشارية تدعم الجهود الرامية إلى التوصل إلى دستور توافقى يعبر عن كل المصريين. ولأننى كنت شاهد عيان على المناورات التى قامت بها الجماعة للتلاعب بكل من يختلف معهم فى الرأى، وإصرارها على تمرير دستور يعبر عن لون سياسى وأيديولوجى واحد
- وهو العامل الرئيسى الذى دفع بكل ألوان الطيف الأخرى إلى اتخاذ قرار بالانسحاب والامتناع عن الاستمرار فى المشاركة فى أعمال الجمعية التأسيسية، بمن فى ذلك أعضاء اللجنة الفنية الاستشارية - لم تعد لدىّ ثقة على الإطلاق فى النوايا الكامنة وراء صدور الإعلان الرئاسى فى هذا التوقيت بالذات وبهذه الطريقة.
لو كان الدكتور مرسى قد أصدر إعلانه بعد تشاور جماعى، عبر طاولة مفاوضات واحدة تضم رموز القوى الوطنية الرئيسية التى شاركت فى صنع الثورة، قبل الانسحابات الأخيرة من الجمعية التأسيسية، وهو ما اقترحته عليه وعلى بعض المقربين منه منذ أسابيع، لأمكن تجسير فجوة الثقة القائمة واستغلال مهلة الشهرين التى تضمنها الإعلان للتوصل إلى دستور توافقى، كنت ومازلت أظنه ممكنا، غير أن صدور الإعلان دون تشاور مسبق،
وبعد انسحاب ما يقرب من ربع أعضاء الجمعية التأسيسية ومعظم أعضاء اللجنة الفنية الاستشارية، يلقى بشكوك كثيفة حول دوافعه الحقيقية، ويحد كثيرا من الثقة فى قدرة الحكومة الحالية على إجراء انتخابات برلمانية نزيهة بعد تمرير الدستور.
أدرك أن الفلول متربصون، وأشعر بانزعاج كبير حين أرى «البرادعى» يقف كتفاً إلى كتف بجوار «الزند»، وكأن هذا الأخير، الذى كان أداة النظام المخلوع فى ضرب تيار استقلال القضاء، قد تحول فجأة إلى بطل، وأصبح واحداً من كبار زعماء الثورة! غير أننى لا أتردد فى تحميل جماعة الإخوان المسؤولية الكاملة عن الخلط الحادث حالياً فى أوراق اللعبة السياسية، الذى ربما يكون قد تسبب فيه قرار بالتحالف مع السلفيين فى الانتخابات البرلمانية القادمة.
مصر الآن فى مفترق طرق، لذا تبدو فى أمسّ الحاجة إلى رجل رشيد يستطيع إعادة بناء جسور الثقة المهدمة بين القوى الوطنية صاحبة المصلحة فى بناء نظام ديمقراطى حقيقى. فهل من رجل رشيد؟!
|