احتفل اللبنانيّون بعيد الاستقلال احتفالاً يُخفي وراءه انقسامهم العميق المؤهّل، في أيّة لحظة، لأن ينفجر نزاعاً أهليّاً مفتوحاً. والحال أنّ التركيز على "الجيش"، في أعياد الاستقلال، كان ولا يزال يشي بهذه الحقيقة، وهي أنّ "الشعب" غير موحّد فعلاً وغير متّفق على معنى الاستقلال نفسه.
وهذه هي ليست المناسبة الملائمة لمناقشة آراء الطوائف والجماعات في ما خصّ الاستقلال وفي ما خصّ نظرة واحدتها إلى الأخرى. يكفي القول إنّ 69 سنة استقلاليّة لم تنجح في تبديد ذلك، وبالتأكيد فإنّ الهوّة التي كانت تفصل بين اللبنانيّين في 1943 أصغر كثيراً منها اليوم.
فمن أصل السنوات الـ69 تلك، قليلةٌ هي تلك التي أمكن فيها الانصراف لبناء مجتمع مستقرّ ودولة سيّدة. وهذا ما كان أساسه داخليّاً دوماً وإن لعبت الظروف الخارجيّة دوراً ملحوظاً في تضخيمه، خصوصاً بسبب موقع لبنان من الصراع العربيّ-الإسرائيليّ والتجاور مع نظام عسكريّ في سوريّا.
لكنّ المرء يميل إلى القول إنّ العبث الاستقلاليّ الذي عاشه ويعيشه لبنان، ينطبق على بلدان كثيرة في "العالم الثالث": بلدان نالت استقلالها، وهو مبدئيّاً حقّ طبيعيّ وشرط من شروط المساواة على نطاق كونيّ، قبل أن تستكمل الأسباب الاجتماعيّة والثقافيّة للانتفاع بالاستقلال هذا.
ويكاد واحدنا يقول، وفي البال ما حصل في تلك التجارب، إنّ نزع الاستعمار تمّ قبل أوانه، خصوصاً أنّ الفترة الذهبيّة لذاك الاستعمار هي التي امتدّت من نهاية الحرب العالميّة الأولى إلى نهاية الحرب العالميّة الثانية. بمعنى آخر، أساءت الاعتبارات الاستراتيجيّة الطاغية، خصوصاً منها مكافحة النفوذ الألمانيّ ومحاصرته، للإنجازات التي أرسى الاستعمار بعضها ولم ينجح في استكمالها. هكذا ظهرت حالاتٌ تصرّف المستعمرون فيها بما لا يوحي بالأمانة للمهمّة التي انتُدبوا لأجلها، فعطّلوا برلمانات ودساتير أنشأوها هم أنفسهم، ومارسوا القسوة والقمع حيال حركات شعبيّة أرعبهم تعاطفها مع خصومهم الأوروبيّين في لحظة حربيّة. وهذا، في عمومه، ما ساهم في تقديم الاستعمار على صورة بالغة السوء لم تكفّ الأدبيّات النضاليّة العربيّة عن إنتاجها وإعادة إنتاجها على نحو موسّع.
مع هذا تبقى هناك إنجازات لم يفعل الكثير من البلدان المستقلّة مثلها، من البرلمانات إلى الإدارات ومن سكك الحديد إلى المدارس، ناهيك عن بدايات تأسيس طبقة من السياسيّين تتولّى إدارة المستعمرات السابقة. وهذا ما لم يُنشئه الفرنسيّون والبريطانيّون حبّاً بنا بطبيعة الحال، ولا تعبيراً منهم عن نزوع إنسانيّ أصيل، بل فعلوا ذلك حبّاً بأنفسهم ومصالحهم: أليس النظام الرأسماليّ، على ما تقول الأدبيّات الماركسيّة نفسها، أوّل نظام في التاريخ تدفعه صناعيّته وديناميكيّته إلى توحيد العالم وتقريب أجزائه؟
وقصارى القول إنّ حظّنا سيّئ مرّتين: مرّةً لأنّ نزع الاستعمار حصل قبل أوانه، ومرّة لأنّنا لم ننجح في استخدام السنوات الاستقلاليّة كي نبني مجتمعات سياسيّة تستكمل إيجابيّات الاستعمار من دون سلبيّاته.
فهل نحتفل والحال هذه؟
|