السبت ٢٣ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: شباط ١٧, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
 
مصر: الثورة ما بعد الإسلاموية - أوليفييه روا

يفسّر الرأي الأوروبي الانتفاضات الشعبية في شمال أفريقيا وفي مصر من خلال منظار قديم يعود إلى أكثر من ثلاثين عاماً: الثورة الإسلامية في إيران. ينتظر هذا الرأي إذاً رؤية التيارات الإسلامية، أي "الإخوان المسلمين" ونظرائهم المحليين، إما على رأس التحرّك وإما في المرصاد من أجل الاستيلاء على السلطة. بيد أن تكتّم "الإخوان المسلمين" وبراغماتيّتهم يُفاجئان ويقلقان: أين هم الإسلاميون؟


لكن إذا نظرنا إلى مطلقي الحركة، من الواضح أننا أمام جيل ما بعد إسلاموي. بالنسبة إليهم، الحركات الثورية الكبرى في السبعينات والثمانينات هي تاريخ قديم، إنه تاريخ أهلهم. لا يهتمّ هذا الجيل الجديد بالأيديولوجيا: فشعاراتهم كلها براغماتية وملموسة ("ارحل")؛ ولا يستعينون بالإسلام كما فعل أسلافهم في الجزائر في أواخر الثمانينات. ويعبّرون قبل كل شيء عن رفض الديكتاتوريات الفاسدة ويرفعون مطلب الديموقراطية. لا يعني هذا بالتأكيد أن المتظاهرين علمانيون، بل يعني ببساطة أنهم لا يرون في الإسلام أيديولوجيا سياسية قادرة على خلق نظام أفضل: إنهم في مساحة سياسية علمانية. وينطبق هذا على الأيديولوجيات الأخرى: إنهم قوميون (يظهر ذلك من خلال الأعلام التي يلوّحون بها) لكنهم لا ينادون بالقومية. والأكثر تميّزاً هو اختفاء نظريات المؤامرة: لا يُشار إلى الولايات المتحدة وإسرائيل (أو فرنسا في تونس مع العلم بأنها دعمت بن علي حتى النهاية) بأنهما السبب وراء مصائب العالم العربي. حتى القومية العربية اختفت من الشعارات، في حين أن تأثير المحاكاة الذي يدفع بالمصريين واليمنيين إلى الشارع عقب الأحداث في تونس يُظهر أن هناك فعلاً واقعاً سياسياً خاصاً بالعالم العربي.


هذا الجيل تعدّدي، ولا شك في أن السبب هو أنه أيضاً أكثر فردانية. تُبيِّن الدراسات السوسيولوجية أن هذا الجيل أكثر ثقافة من سابقه، ويعيش أكثر في إطار عائلات نواة، وينجب أولاداً أقل، لكنه في الوقت نفسه عاطل عن العمل أو يعيش في وضع اجتماعي متدنٍّ. إنه أكثر اطّلاعاً، ويملك في معظم الأحيان إمكانية الولوج إلى وسائل الاتصالات الحديثة التي تتيح التواصل من فرد إلى آخر من طريق الشبكات من دون المرور بوساطة الأحزاب السياسية (المحظورة في مختلف الأحوال). يعرف الشبان أن الأنظمة الإسلامية أصبحت ديكتاتوريات: لا تسحرهم إيران ولا السعودية. من يتظاهرون في مصر هم أنفسهم من كانوا يتظاهرون في إيران ضد أحمدي نجاد (لأغراض البروباغندا يدّعي النظام في طهران دعم التحرّك في مصر، لكنها تصفية حسابات مع مبارك). ربما كانوا مؤمنين، لكنّهم يفصلون إيمانهم عن مطالبهم السياسية: وفي هذا المعنى، التحرّك "علماني" لأنه يفصل بين الدين والسياسة. لقد اكتسبت الممارسة الدينية طابعاً فردياً.


يتظاهرون قبل كل شيء من أجل الكرامة، و"الاحترام": انطلق هذا الشعار من الجزائر في أواخر التسعينات. والقيم التي يتبنّونها عالمية. بيد أن الديموقراطية التي يطالبون بها اليوم لم تعد مستوردة: هذا هو الفارق مع ترويج الديموقراطية الذي قامت به إدارة بوش عام 2003، والذي لم يحظَ بالقبول لأنه لم يكن يتمتّع بأي شرعية سياسية وكان مرتبطاً بتدخّل عسكري. المفارقة هي أن إضعاف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وبراغماتية إدارة أوباما يتيحان الآن للسكان أن يعبّروا بشرعية تامة عن مطلب الديموقراطية.


لكن هذا لا يعني أن الانتفاضة تصنع ثورة. ليس للتحرّك قادة ولا أحزاب سياسية ولا إطار، الأمر الذي ينسجم مع طبيعته لكنه يطرح مشكلة مأسسة الديموقراطية. الاحتمال ضئيل بأن يؤدّي اختفاء ديكتاتورية تلقائياً إلى قيام ديموقراطية ليبرالية، كما أملت واشنطن في العراق. هناك في كل بلد عربي، كما في البلدان الأخرى، مشهد سياسي معقّد جداً ويزداد تعقيداً في حالة البلدان العربية بسبب إخفاء الديكتاتوريات له. لكن ما عدا الإسلاميين، وفي معظم الأحيان النقابات (ولو كانت مستضعفة)، ليس هناك فاعلون كثر.

لم يختفِ الإسلاميون لكنهم تغيّروا
يُطلَق توصيف الإسلاميين على من يرون في الإسلام أيديولوجيا سياسية قادرة على حل كل مشكلات المجتمع. غادر الأكثر راديكالية بينهم المشهد لخوض الجهاد الدولي ولم يعودوا موجودين على الساحة المحلية: إنهم في الصحراء مع "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" أو في باكستان أو في ضواحي لندن. ليست لديهم قاعدة اجتماعية أو سياسية. الجهاد العالمي منفصل كلياً عن الحركات الاجتماعية والنضالات الوطنية. لا شك في أن بروباغندا "القاعدة" تحاول تصوير التحرّك وكأنه طليعة انتفاضة في المجتمع الإسلامي بكامله ضد القمع الغربي، لكنها لا تنجح في ذلك. يجنّد تنظيم "القاعدة" شباناً جهاديين لا يرتبطون بأرض معيّنة ولا قاعدة اجتماعية لهم، وانفصلوا جميعهم عن محيطهم وعائلاتهم. يبقى التنظيم منغلقاً في منطق "البروباغندا بواسطة الفعل"، ولم يهتم قط ببناء هيكلية سياسية في قلب المجتمعات المسلمة. علاوةً على ذلك، بما أن نشاط "القاعدة" يتركّز في شكل أساسي في الغرب أو يُصوَّب نحو أهداف تُحدَّد بأنها غربية، تأثيره في المجتمعات الحقيقية معدوم.
الوهم البصري الآخر هو ربط إعادة الأسلمة المكثّفة التي يبدو أن مجتمعات العالم العربي عرفتها في الأعوام الثلاثين الماضية بتشدّد سياسي. إذا كانت المجتمعات العربية أكثر إسلامية في الظاهر مما كانت عليه قبل ثلاثين أو أربعين عاماً، فكيف نفسّر غياب الشعارات الإسلامية في التظاهرات الحالية؟ هنا تكمن مفارقة الأسلمة: لقد جرّدت الإسلام إلى حد كبير من الطابع السياسي. حصلت إعادة الأسلمة الاجتماعية والثقافية (ارتداء الحجاب، عدد المساجد، تضاعف أعداد الواعظين والقنوات التلفزيونية الدينية) بعيداً عن المقاتلين الإسلاميين، وفتحت أيضاً "سوقاً دينية" لم يعد يحتكرها أحد؛ وتنسجم أيضاً مع بحث الشبان الجديد عن الدين، وهو بحث فرداني إنما أيضاً متغيِّر. باختصار، فقدَ الإسلاميون احتكار الكلمة الدينية في المساحة العامة الذي كانوا يتمتّعون به في الثمانينات.


من جهة، غالباً ما أيّد الديكتاتوريون (لكن ليس في تونس) إسلاماً محافظاً، مرئياً إنما غير سياسي، ويسكنه هاجس ضبط الأعراف والتقاليد. أصبح ارتداء الحجاب أمراً شائعاً. وانسجمت محافظية الدولة هذه مع التيار المعروف بـ"السلفية" الذي يركّز على إعادة أسلمة الأفراد وليس على التحرّكات الاجتماعية. باختصار، وعلى الرغم من أنها قد تبدو مفارقة كبيرة، جعلت إعادة الأسلمة المؤشر الديني مبتذلاً وغير مسيَّس: عندما يكون كل شيء دينياً، لا يعود أي شيء ديني. فما اعتُبِر من منظار الغرب بأنه موجة خضراء كبرى من إعادة الأسلمة ليس في نهاية الأمر سوى ابتذال: يصبح كل شيء إسلامياً من الوجبات السريعة إلى الموضة النسائية. لكن أشكال التقوى أصبحت فردانية أيضاً: يبني المرء إيمانه، ويبحث عن الواعظ الذي يتحدّث عن تحقيق الذات، على غرار المصري عمر خالد، ولا يعود يكترث لطوبى الدولة الإسلامية. يركّز "السلفيون" على الدفاع عن الإشارات والقيم الدينية وليس البرنامج السياسي: إنهم غائبون عن الاحتجاجات حيث لا نرى نساء يرتدين البرقع (مع العلم بأن هناك الكثير من النساء بين المتظاهرين، حتى في مصر). ثم تزدهر من جديد تيارات دينية أخرى كنّا نعتقد أنها انكفأت، على غرار الصوفية. يخرج هذا التنوّع في المشهد الديني أيضاً من إطار الإسلام، كما نرى في الجزائر أو إيران، مع ظهور موجة اعتناق للدين المسيحي.


الخطأ الآخر هو الاعتقاد بأن الديكتاتوريات تدافع عن العلمانية في وجه التعصّب الديني. لم تُعلمن الأنظمة السلطوية المجتمعات، بل على العكس، وباستثناء تونس، ارتضت إعادة أسلمة من النوع النيو-أصولي حيث نتحدّث عن تطبيق الشريعة من دون طرح السؤال عن طبيعة الدولة. في كل مكان، روّضت الدولة العلماء والمؤسسات الدينية الرسمية، مع الانكفاء على محافظية لاهوتية شديدة الحذر. هذا وتجدر الإشارة في شكل خاص إلى أنه لم يعد هناك دور لرجال الدين التقليديين الذين تلقّوا تحصيلهم العلمي في الأزهر، لا في الشأن السياسي ولا في رهانات المجتمع الكبرى. فهم لم يعد لديهم ما يقدّمونه للأجيال الجديدة التي تبحث عن نماذج جديدة لعيش إيمانها في عالم أكثر انفتاحاً. لكن نتيجة لذلك، لم يعد المحافظون الدينيون يقفون إلى جانب الاحتجاجات الشعبية.

مفتاح للتغيير
يطال هذا التطوّر أيضاً التيارات السياسية الإسلامية المتمثِّلة في جماعة "الإخوان المسلمين" والمنضوين تحت لوائها مثل حزب "النهضة" في تونس. لقد تغيّر "الإخوان المسلمون" كثيراً. ولا شك في أن عامل التغيير الأول هو اختبار الفشل، في النجاح الظاهري (الثورة الإسلامية في إيران) كما في الهزيمة (القمع الذي يُمارَس ضدهم في كل مكان). وقد استخلص الجيل المناضل الجديد العِبَر من ذلك، وكذلك الأجيال السابقة مثل راشد الغنوشي في تونس. لقد فهموا أن السعي إلى تولّي السلطة عقب ثورة يقود إما إلى الحرب الأهلية وإما إلى الديكتاتورية؛ واقتربوا في نضالهم ضد القمع من القوى السياسية الأخرى. وبما أنهم يعرفون مجتمعهم جيداً، يدركون أيضاً أنه ليس للأيديولوجيا ثقل كبير. وقد استخلصوا الدروس أيضاً من النموذج التركي: استطاع أردوغان و"حزب العدالة والتنمية" التوفيق بين الديموقراطية والنصر الانتخابي والتنمية الاقتصادية والاستقلال الوطني وترويج القيم التي إن لم تكن إسلامية فهي على الأقل قيم "الأصالة".


لكن "الإخوان المسلمين" لم يعودوا يجسّدون في شكل خاص نموذجاً اقتصادياً أو اجتماعياً آخر. أصبحوا محافظين في ما يتعلق بالأعراف والعادات، وليبراليين في الاقتصاد. وهذا هو بلا شك التطوّر الأبرز: في الثمانينات، كان الإسلاميون (ولا سيما الشيعة) يدّعون الدفاع عن الطبقات المظلومة وينادون بتأميم الاقتصاد، وإعادة توزيع الثروات. أما اليوم فقد وافق "الإخوان المسلمون" المصريون على الإصلاح الزراعي المضاد الذي قاده مبارك، ويقوم على منح مالكي الأراضي حق زيادة بدلات الإيجار وتسريح المزارعين الذين يعملون عندهم. حتى إن الإسلاميين لم يعودوا موجودين في التحرّكات الاجتماعية في دلتا النيل، حيث نشهد عودة لـ"اليسار" أي المناضلين النقابيين.


بيد أن نزوع الإسلاميين نحو البورجوازية هو أيضاً ورقة رابحة للديموقراطية: فبدلاً من استخدام ورقة الثورة الإسلامية، يدفعهم هذا الأمر نحو المصالحة والتسوية والتحالف مع قوى سياسية أخرى. ليست المسألة المطروحة الآن معرفة إذا كانت الديكتاتوريات هي الحصن الأفضل ضد التشدد الإسلامي أم لا. لقد أصبح الإسلاميون فاعلين في اللعبة الديموقراطية. لا شك في أنهم سيمارسون ثقلاً يصب في اتجاه فرض سيطرة أكبر على الأعراف والعادات، لكن في غياب الاستناد إلى آلة قمعية كما في إيران أو إلى شرطة دينية كما في السعودية، سوف يكون عليهم التكيّف مع مطلب الحرية الذي لا يتوقّف فقط عند حق انتخاب مجلس للنواب. باختصار، إما يتماهى الإسلاميون مع التيار السلفي والمحافظ التقليدي، فيخسرون بذلك ادّعاءهم بأنهم يفكّرون في الإسلام من منظار حديث، وإما يبذلون جهداً لإعادة النظر في تصوّرهم للعلاقات بين الدين والسياسة.


سوف يكون "الإخوان المسلمون" مفتاحاً للتغيير لا سيما إذا لم يسعَ الجيل الثائر إلى التنظّم سياسياً، أي إذا اكتفى بثورة الاحتجاج من دون الإعلان عن نوع جديد من الأنظمة. من جهة أخرى، تبقى المجتمعات العربية محافظة إلى حد ما؛ تريد الطبقات الوسطى التي تكوّنت عقب التحرّر الاقتصادي، الاستقرار السياسي: فهي تعترض قبل كل شيء على الطبيعة الافتراسية للديكتاتوريات التي ولّدت هوساً بالسرقة لدى النظام التونسي. المقارنة بين تونس ومصر منوِّرة. في تونس، أضعفت جماعة بن علي كل حلفائها المحتملين، من خلال رفض مشاطرة السلطة إنما أيضاً الثروة: كانت الأسرة الحاكمة تبتزّ الأموال باستمرار من رجال الأعمال، ولم يُترَك الجيش خارج اللعبة السياسية وحسب إنما أيضاً خارج توزيع الثروات: كان الجيش التونسي فقيراً؛ ولديه مصلحة على مختلف الأصعدة بأن يكون هناك نظام ديموقراطي، فلا شك في أنه سيُخصِّص له موازنة أكبر.


في المقابل، كانت للنظام في مصر قاعدة اجتماعية أكبر، ولا يشارك الجيش في السلطة وحسب إنما أيضاً في إدارة الاقتصاد ومنافعه. إذاً سيصطدم المطلب الديموقراطي في مختلف أنحاء العالم العربي بالتجذّر الاجتماعي لشبكات المحسوبيات التابعة لكل نظام. ثمة بعد أنتروبولوجي مهم في هذا الإطار: هل يستطيع مطلب الديموقراطية أن يتجاوز الشبكات المعقَّدة للولاءات والانتماءات إلى هيئات اجتماعية وسيطة (سواء تمثّلت في الجيش أو القبائل أو الزبائنية السياسية، إلخ.)؟ ما هي قدرة الأنظمة على استغلال الولاءات التقليدية (البدو في الأردن، القبائل في اليمن)؟ كيف يمكن هذه المجموعات الاجتماعية أن تواكب هذا المطلب الديموقراطي وتصبح فاعلة فيه أو تحجم عن ذلك؟ كيف ستتنوّع المرجعية الدينية وتتكيّف مع أوضاع جديدة؟ سوف تكون العملية طويلة وفوضوية، لكن ثمة أمر أكيد: لقد انتهى زمن الاستثنائية العربية. تعكس الأحداث الحالية تغييراً عميقاً في المجتمعات في العالم العربي. تحصل هذه التغييرات منذ وقت طويل، لكن الكليشيهات الراسخة التي كان الغرب يلصقها بالشرق الأوسط كانت تحجبها عن الأنظار.


قبل عشرين عاماً، صدر لي كتاب بعنوان "إخفاق الإسلام السياسي". لا يهمّ إذا كان الناس قد أقبلوا على قراءته أم لا، لكن ما يحدث اليوم يُظهر أن الفاعلين المحليين استمدّوا بأنفسهم دروساً من تاريخهم. لا شك في أن قصّتنا مع الإسلام لم تنتهِ، وأن الديموقراطية الليبرالية ليست "نهاية التاريخ"، لكن يجب من الآن فصاعداً التفكير في الإسلام انطلاقاً من كونه مستقلاً عن ثقافة تُعرَف بالثقافة "العربية-المسلمة"، وهي لا تنغلق على نفسها اليوم تماماً كما لم تفعل بالأمس.

 

"الموند"
ترجمة نسرين ناضر

(أستاذ (ومدير البرنامج المتوسطي) في المعهد الجامعي الأوروبي في فلورنسا (إيطاليا)) 



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة