الأربعاء ٢٧ - ١١ - ٢٠٢٤
بيانات
التاريخ:
تشرين الثاني ١٢, ٢٠١٢
المصدر:
جريدة الشروق المصرية
تطرّف..أم شىء آخر؟ - جلال امين
عندما كثُر الكلام عن التطرف الدينى، منذ نحو أربعين عاما، وفُسّر به مختلف أنواع الجرائم، من قتل الأبرياء، واعتداء على سياح، وتفجير الطائرات والأبراج... إلخ. لم أشعر بالارتياح قط إلى استخدام لفظ «التطرف» فى وصف الدافع إلى مثل هذه الأعمال، إن التطرف معناه الوصول بالشىء إلى منتهاه أو ذروته، أو ما يقرب من ذلك، فما العيب فى ذلك بالضبط، إذا كان هذا الشىء الذى نصل إلى منتهاه شيئا طيبا ومرغوبا فيه، مثل تحصيل العلم، أو التدين، أو تطبيق العدل، أو الحب (إذا كان المحبوب جديرا بهذا الحب)، أو حتى الكراهية، إذا كان الشىء أو الشخص المكروه جديرا بذلك؟
إن العالم الذى يستولى عليه حب الاستطلاع، والرغبة فى الفهم، فينسى نفسه وهو مستغرق فى القراءة، أو فى إجراء التجارب فى معمله، يمكن وصفه بالتطرف، ولكننا لا نستهجن ذلك منه، بل قد نغبطه ويزيد تقديرنا له. وقل مثل ذلك عن الفنان الموهوب الذى يفقد الإحساس بمرور الوقت إذا انهمك فى ممارسة فنه، بل أليس «التطرف» صفة من صفات كثيرين ممن نعتبرهم من عظماء التاريخ، سواء كانوا من المفكرين أو الأدباء أو الزعماء السياسيين أوالقادة العسكريين؟ ألم يكن غاندى العظيم متطرفا، فى شجاعته ورفضه للتغريب؟ ومانديلا فى رفضه للظلم، وتشرشل فى ولائه لوطنه... إلخ؟
ليس التطرف إذن هو المسئول عما نعتبره جريمة أو رذيلة، بل لا بد أن يكون المسئول شيئا آخر.
خطر لى أن الصفة المرفوضة حقا، فيما يتعلق بالصور المختلفة من التدين، وكذلك من صور الاشتغال بالفن أو من صور الحب أو الكره، ليس التطرف بل الهوس. الهوس، فى معجم اللغة العربية هو «ضرب من الجنون»، وهوس القوم أى «وقعوا فى اختلاط وفساد»، والمهوّس «الذى يحدث نفسه»، وتهوس فلان «مشى ثقيلا فى أرض لينة». وعندما استرجعت فى ذهنى ما حدث فى مصر فى الأربعين عاما الماضية فيما يتعلق بالصور المختلفة للتدين، وجدت أن الذى ننتقده منها ونرفضه لم يكن التطرف بل الهوس.
فى الشارع الذى أسكنه، وقريبا جدا من بيتى، يسكن رجل فقير أكاد أراه كل يوم فى خروجى من منزلى وعودتى. نمت علاقتى به من كثرة ما نتبادل من تحية وحديث على مر السنين، فعرفت طريقة تفكيره ونوع نظرته إلى الأمور، وما الذى يفرح له أو يحزنه، يرضيه أو يغضبه. أحببته حبا جما إذ وجدت فيه نظرة حكيمة جدا للأمور، ورضا مدهشا بحياته رغم صعوبتها، واعتزازا شديدا بكرامته رغم شدة حاجته بسبب كثرة أولاده، واستعدادا للضحك إذا وجد ما يضحك، ونفوره من الشكوى رغم كثرة ما يمكن أن يشكو منه، كان متدنيا، فهو ذاهب إلى المسجد القريب منا أو آت منه، من الفجر إلى العشاء، ولكنه بمجرد أن يخرج من المسجد ينهمك فى عمله بنشاط وهمة إذ لا تسمح له بالتهاون فيه حاجات أسرته المتجددة باستمرار، من ابن التحق بمعهد عال يحتاج إلى السكنى بعيدا عن أهله، إلى بنت مقبلة على الزواج، إلى زوجة تحتاج إلى المجىء من الصعيد لاستشارة طبيب... إلخ.
كان يعبر عن رضاه بقدره باستخدام تعبيرات مستقاة من التراث الدينى (إذ إنه لم يذهب قط إلى مدرسة يتعلم منها أكثر من ذلك)، ولكنى لم أسمعه قط يسرف فى استخدام هذه التعبيرات، فهو يستخدمها بقدر ملاءمتها للموقف الذى هو فيه، لا أكثر ولا أقل. إنه، كمعظم المصريين، لا يمكن أن يشير إلى عمل ينوى القيام به فى المستقبل دون أن يقول: «إن شاء الله»، تعبيرا عن شعور صادق بقلة قدرته على التنبؤ بما قد يستجد من أحوال، وعن اعتراف بحدود قدرته على إحداث ما يرغب فيه من تغيير، ولكنى لم أسمع منه قط، إذا سئل عن اسمه مثلا، أو عن اسم الشارع الذى يسكن فيه، إضافة تعبير «إن شاء الله» إلى الإجابة، فاستخدام هذا التعبير فى مثل هذا يدل فى الغالب لا على التدين بل على التظاهر به.
أمثال هذا الشخص كثيرون جدا فى مصر، بل أكاد أزعم أنهم غالبية المصريين، متدينون ولكن تدينهم لم يبلغ درجة الهوس. بل أستدرك وأقول: إنهم متدينون وليسوا مهوسين، إذن إن الهوس ليس درجة من التدين (أو تطرفا فيه) بل هو شىء مختلف تماما، ويعكس نفسية ومزاجا وموقفا من التدين والمجتمع مختلفا تماما عن نفسية المتدين ومزاجه ومواقفه.
إن هذا الرجل الطيب، مثل غالبية المصريين، يحمل حبا واحتراما عميقين لكل ما يقول به الدين، ويكره كل ما يكرهه الدين وينهى عنه، ولكنه لا يتصور أن يتحول الدين ليصبح الحياة كلها. إن هذا هو الموقف السليم وهو أيضا الموقف الطبيعى الذى ساد أيام الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأيام الخلفاء الراشدين، وأيام ازدهار الحضارة الإسلامية، وفى كل عصر وفى ظل أى دين اقترن فيه التدين بتحقيق تقدم اجتماعى وثقافى. هذا الرجل الطيب يذهب إلى المسجد بانتظام لأداء الصلوات الخمس، منذ أن كان الأذان بالصوت المجرد وقبل تركيب ميكرفون جبار، يظن المؤذن من خلاله أن درجة التقوى والورع تقاس بمدى ارتفاع صوت الميكرفون أو بقدرته على مد الحروف إلى أطول مدة ممكنة، مما لم يكن معروفا قطعا لا فى عصر الرسول الكريم، ولا فى عصر الخلفاء الراشدين، ولا فى عصر ازدهار الحضارة الإسلامية.
منذ أن قامت ثورة 25 يناير 2011، صادفنا جميعا أمثلة متتابعة من الهوس الدينى. بدأت بهجوم على إحدى الكنائس، ثم السير فى جماعة كبيرة من الناس للاعتداء على كنيسة أخرى. كان هذا العمل يمثل درجة من الهوس لم أستطع معه أن أقتنع بأنه لم يجر ترتيبه من قبل جهات لها مصلحة فى إفشال الثورة.
إنى أميل إلى الاعتقاد بأن التدين، مهما بلغ تطرفه، يظل فى الأساس موقفا فرديا، يتعلق بعلاقة خاصة بين المتدين وربه، أما الهوس، سواء كان فى التدين أو فى غيره، فينطوى فى معظم الأحوال على رغبة فى نوع من التواصل بين المرء والناس من حوله، ولكنه تواصل من نوع غريب. إنه نوع من «المظاهرة»، أو «الصياح»، يعكس رغبة فى إثبات التفرد والتميز عن الآخرين، أو فى التوحد مع مجموعة مماثلة من الناس يريدون أيضا إثبات تميزهم، أو يمد الواحد منهم بثقة أكبر فى النفس، أو بالشجاعة على القيام بعمل لا يستطيع القيام به بمفرده... إلخ. إن من الحكمة جدا أن نتصور «التطرف» فى عمل يقوم به المرء على النفراد، ولكن من الصعب تصور أن يحدث «الهوس» على انفراد. إن الهوس يفترض وجود شركاء أو على الأقل وجود متفرجين.
هكذا نظرت (وقد أكون مخطئا) إلى عضو مجلس الشعب فى إحدى الجلسات الأولى لانعقاده، عندما فاجأ الجميع بوقوفه أثناء الجلسة وأدى الأذان للصلاة. ثم تكررت مشاهد مماثلة فى وقائع حياتنا الاجتماعية والسياسية، وعلى شاشة التليفزيون، من أفظعها حادث الاعتداء بالقتل على طالب جامعى بالسويس، جريمته أنه كان يمشى فى الشارع مع خطيبته. ثم وقعت المظاهرة الكبيرة أمام السفارة الأمريكية فى القاهرة احتجاجا على ظهور فيلم سينمائى فى الولايات المتحدة، يسىء إلى الدين الإسلامى، وقام أحد المتظاهرين بحرق نسخة من الإنجيل أمام السفارة. وبلغ الاحتجاج على نفس الفيلم فى ليبيا، درجة قيام البعض بقتل السفير الأمريكى هناك. هل كان كل هذا الصياح والصخب والقتل من مظاهر التدين أم من مظاهر فقدان السيطرة على النفس، أدى إلى توجيه مشاعر الغضب والكراهية إلى أشخاص ليس لهم صلة بالعمل الذى أثار الاستياء ابتداء؟
إنى أعتبر من نفس هذا النوع من الأعمال، ما وقع من اعتداء لفظى على الممثلة المشهورة، بزعم الاحتجاج على نوع معين من الأفلام واعتباره منافيا للدين والأخلاق. إذ رأى أحدهم أنه لا يكفى هذا الاحتجاج بل لا بد من التعرض للسلوك الشخصى للممثلة بالسب والقذف. من نفس هذا النوع من الأعمال أيضاما قامت به إحدى المدرسات فى الصعيد من قص شعر تلميذة صغيرة من تلميذاتها، رغما عنها، بحجة أنها لم تحتشم بالدرجة الكافية فلم تغط شعرها بحجاب. كل هذه الأعمال ليست من أعمال التطرف فى التدين، بل تنتمى إلى نوع مختلف تماما من السلوك الإنسانى، أراه أقرب إلى الهوس.
الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك
اطبع الكود:
لا تستطيع ان تقرأه؟
جرب واحدا آخر
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة