السبت ٢٣ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الثاني ١٢, ٢٠١٢
المصدر: جريدة القدس العربي
الكويت: صراع الارادة الشعبية مع الديمقراطية الشكلية - سعيد الشهابي

الثورات لها اسبابها الكامنة في النسيج السياسي والاجتماعي في البلدان المحكومة بانظمة الاستبداد. ولكن شراراتها تختلف قوة وضعفا، فان وجدت الشرارة في الوقت المناسب وبالقوة المناسبة انطلقت الثورة وتفجرت الاوضاع في هذه البلدان. فلا يمكن ان يكون هناك عدالة وامن واستقرار في ظل الانظمة الشمولية، مهما سعت لاشباع بطون مواطنيها. وما لم تتوفر الحرية التي تشبع نفس الانسان وتحقق كرامته، فان هذا الانسان مرشح للثورة على الواقع الذي يعيشه والذي يعتبره مسؤولا عن تهميشه وانتهاك حقوقه الاساسية، ومنها حرية التعبير والتجمع والمشاركة السياسية وتقرير المصير وانتخاب نظام الحكم الذي يرتئيه. واغلب هذه الحقوق لا يتوفر في ظل الانظمة التي تحكم، ليس بتفويض شعبي بل بالتسلط وفقا لمنطق الغلبة والقهر. وما جرى في الكويت مؤخرا يؤكد عدم وجود نظام محم من الاضطراب الداخلي خصوصا اذا كانت البلاد محكومة بنظام سياسي لا يلبي طموحات المواطنين او ينسجم مع المعايير الدولية للحكم المدني العادل.
 
هذا البلد الخليجي كان يطرح من قبل الغرب مثالا لما يمكن ان تكون عليه الممارسة السياسية بدول مجلس التعاون الخليجي، فهو يحفظ للعائلة الحاكمة موقعها في الحكم والادارة، ويعطي للمواطنين قدرا من المشاركة في التشريع والرقابة. مع ذلك بقيت الكويت منذ 'استقلالها' قبل اكثر من نصف قرن مسرحا للتوترات السياسية التي ما برحت تعصف بالبلاد بين الفترة والاخرى. فلديها دستور مكتوب يحظى بموافقة اغلب المواطنين، ومجلس امة يمارس دورا تشريعيا ورقابيا، وان كانت صلاحياته في الحكم محدودة. والحكومة ليست منتخبة بل يعينها الامير شخصيا. والامير يملك صلاحيات واسعة منها حل مجلس الامة وتعيين الحكومة، وذاته مصونة لا تمس. برغم ذلك لم تكن التجربة الكويتية موضع رضى من قبل بعض دول مجلس التعاون الذي تأسس في 1981 وفق ما جاء في ورقة كويتية قدمت لدول الخليج الاخرى في تلك الفترة. وشهدت التجربة الانتخابية الكويتية مدا وجزرا، حتى وصلت في السنوات الاخيرة الى حالة من الاضطراب غير مسبوقة. ففي غضون اربعة اعوام تم حل المجلس ثلاث مرات، وشكلت خمس حكومات. ولذلك اسبابه المتعددة التي ما برحت تتحدى الوضع الكويتي وتعرضه للكثير من المساءلة والنقاش. والواضح ان هذا الوضع لم يعد مشجعا للآخرين الباحثين عن تطوير جاد لاوضاع بلدانهم السياسية. فقد مر نصف قرن على تلك التجربة بدون ان تتطور، وما تزال المماحكات بين اعضاء المجلس والعائلة الحاكمة تؤطر الممارسة السياسية، وتبعث القلق في نفوس افرادها وداعميهم في واشنطن ولندن. كما انها بقيت، طوال هذه الفترة، مقلقة للنظام السعودي الذي يرفض اي شكل من اشكال الشراكة الشعبية في الحكم والادارة، ويرى في ذلك تقويضا لمنظومة حكم مضى عليها قرابة القرن من الزمن.
 
الامر المؤكد ان المشكلة لا تكمن في التجربة الكويتية فحسب، بل في عقلية التخطيط الاستراتيجي لدول مجلس التعاون الخليجي. فهذا المجلس تأسس في ذروة المد الثوري الذي شهدته المنطقة بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران في 1979، التي كانت، في نظر الكثيرين، بركانا سياسيا لن يوفر الانظمة الاستبدادية في المنطقة. جاء المجلس ليوفر لدوله الست كيانا سياسيا متصديا لاية تحديات سياسية او ثورية، من الخارج او الداخل. وبدلا من ان يقرأ حكام دول مجلس التعاون اوضاع بلدانهم وشعوبهم بشكل متفحص وموضوعي بلحاظ تطويرها وازالة اسباب التوتر والثورة، اقتصر الاهتمام الرسمي على تأسيس هذا الكيان الذي يعتبر امنيا في جوهره، وسياسيا في ظاهره. ثلاثون عاما كانت فرصة واسعة من الزمن توفرت لحكومات دول المجلس لاعادة تقييم اوضاعها وتطوير نظمها السياسية لتفادي ما حدث لنظام الشاه الذي كان هو الآخر، مدعوما بقوة من الولايات المتحدة الامريكية. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، بل جمدت الامور في مكانها، وانحصر الاهتمام الرسمي في هذه الدول بالابعاد الامنية التي بذلوا جهودا كبرى لاحتواء آثارها وتطوراتها. هذه النظرة تجاوزت الموضوعية تماما، فالازمة التي تواجه دول مجلس التعاون ليست امنية ابدا، بل سياسية بالدرجة الاولى. ومنذ حادثة الحرم التي تزعمها المعارض السعودي جهيمان العتيبي في 1979، لم يسجل ضد اية مجموعة معارضة في هذه الدول، على اختلاف انتماءات هذه المعارضات الايديولوجية او المذهبية، خروج خطيرعلى طابعها السلمي، برغم محاولات حكومات دول المجلس وصم اية معارضة بالعنف والارهاب. وحتى تنظيم القاعدة لم يستهدف السعودية بشكل مباشر، بل انصرف خارج حدودها، وتوجه الى افغانستان مستهدفا الولايات المتحدة بشكل اساسي. لقد كان متاحا امام دول مجلس التعاون فرصة من الزمن تكفي لتطوير انظمتها السياسية بما يحمي انظمة حكمها ويحيد قوى المعارضة ضدها. فلماذا لم تقدم تلك الدول على مبادرات من هذا النوع؟ ولماذا تنحصر خياراتها عندما يحدث تحد خطير لاي منها، بالحل الامني؟ ولماذا تسعى دول مجلس التعاون لتضليل الرأي العام لديها وفي العالم بان انظمتها مستقرة تماما وان تلك الانظمة لا تواجه تحديات خطيرة اطلاقا؟
 
ان من غير المنطقي وصف كل احتجاج ضد نظام سياسي محدد بانه ثورة، كما ان من غير المقبول وصفه بانه 'غوغاء' او 'شغب' او اعتباره 'تحريكا من الخارج'. فهذه المقولات قديمة لا يجوز التشبث بها دائما لان هذا التشبث يشوش على الحقيقة ويزيد طريقة التعاطي معها تعقيدا. وربما من السابق لاوانه وصف ما يجري في الكويت بانه ثورة. ولكن من المؤكد انه تحد سياسي للنظام سيتحول الى ثورة شاملة ما لم يتم التعاطي معه بجدية. كما ان من غير المجدي محاكمة كل من اعترض على نظام الحكم او انتقد مسؤوليه، ايا كان موقعهم، او دعا للتغيير، خصوصا في اجواء الحراك العربي. من غير المجدي كذلك اقحام كافة المعادلات والاعتبارات الحزبية او القبلية او الايديولوجية او المذهبية للتخندق وراء هذا التيار او ذاك، فالتشطير المجتمعي لا يخدم ايا من الفرقاء. صحيح ان انظمة الاستبداد عندما تحاصر من قبل شعوبها من كل جهة تسعى لتفريقها بأي اسلوب مهما كان وضيعا، ومن بينها التمزيق وفق اي من هذه الاعتبارات، ولكن هذه الانظمة لن تستطيع ان تخرج من ازمتها بتمزيق صف شعوبها، بل ان لجوءها لهذه الاساليب انما يساهم في اضعاف البلاد وتمزيق شعبها، بدون مردود يذكر للنظام نفسه. وتجربة الوضع في البحرين دليل على ذلك. فالتخندق في المستنقع الطائفي قد يشق المجتمع ولكنه لا يحمي النظام. ويمكن القول ان العديد من زعامات التحرك السياسي في الكويت كان قد تخندق في المستنقع الطائفي ازاء ثورة شعب البحرين معترضا على منطق الثورة، ولكنه اليوم يمارس دورا مشابها لما حدث في البحرين. والأمل ان يشعر رواد التغيير في العالم العربي ان الطريق لأمن البلدان وشعوبها لا يتحقق الا بالتوافق والتعايش والتحمل والتسامح، وان التطرف الفكري او الايديولوجي لا ينسجم مع منطق الثورة وروحها. ومن يريد ان يبحث الشأن الكويتي بعقلية التحزب والانتماء الفئوي سيجد مجالا لتفسير الحدث وفق افتراضاته المؤسسة على تلك العقلية. ولكن ذلك لن يجديه كثيرا في تحليل الوضع واستشراف ما سيحدث.
 
وسواء استطاع الحراك الحالي في الكويت تحقيق شيء من الاصلاح السياسي ام فشل في ذلك، فان المطالبة باصلاح نظامها السياسي لن يتوقف. وسواء اتفق المراقب مع ما طرحه رموز التحرك ومنهم الدكتور وليد طبطبائي او مسلم البراك ام اختلف مع توجههما الفكري والايديولوجي، فسيظل هناك استحقاق اصلاحي سيظل يحاصر أسرة آل صباح الحاكمة، حتى يتحقق شيء من الاصلاح الحقيقي وليس الشكلي. فان لم تبادر لذلك فليس مستبعدا ان تتفاعل الظروف لتؤدي الى ثورة شاملة. وبالاضافة للجذور المحلية للحراك السياسي القائم، فثمة اسباب اخرى من بينها الربيع العربي، ومنها كذلك استمرار ثورة شعب البحرين برغم التدخل السعودي المباشر لقمعها. وبرغم وجود ادلة تربط التحرك الكويتي بدفع مباشر او غير مباشر من الرياض، فثمة خشية لدى قطاع واسع من تدخل سعودي عسكري على غرار ما جرى في البحرين. وقد ساهم صمت الشعوب الخليجية ازاء التدخل السعودي في البحرين في ترسيخ قناعة المسؤولين بدول مجلس التعاون بحتمية تكرار ذلك التدخل في الكويت لو اقتضى الامر، برغم انه مناقض ليس للاعراف والقوانين الدولية فحسب بل لميثاق مجلس التعاون نفسه. فالتدخل المسموح به وفق بنود الاتفاقات الخليجية ينحصر بالدفاع عن اي بلد خليجي يتعرض لاستهداف خارجي، الامر الذي لم يحدث في البحرين، وفق ما اكده تقرير لجنة بسيوني، وقرار حكومة البحرين من طرف واحد اعادة سفيرها الى طهران.
 
برغم الاقتحام الانكلو امريكي للحقول المزهرة في الربيع العربي بهدف قتل ازهارها، فان روح التغيير في نفوس الجيل العربي الجديد ستتعمق خصوصا اذا تصاعد القمع السلطوي ضد النشطاء او تكثف التآمر الدولي ضد الثورات. وقد اصبح واضحا ان قوى الثورة المضادة ارتدت حلة التغيير وتقمصت دعوات الاصلاح لتسحب البساط من تحت اقدام الثوار، واستخدمت اساليب التشويش والتحبيط وتحطيم المعنويات ببث روح الفرقة بين ابناء الامة الواحدة لمنع التكاتف والتضامن على طريق التغيير الثوري. وبقدرة قادر تحول بعض ثورات الربيع العربي الى صراعات دموية واعمال عنف بعيدة عن روح التغيير وفق منهج المقاومة المدنية. وحتى الدول التي انتصرت ثوراتها بشكل او آخر، مثل تونس ومصر وليبيا اصبحت مستهدفة من قبل تلك القوى لمنع قيام انظمة حكم مستقلة تتناغم في اطروحاتها مع تطلعات الجماهير. هذا الخيار الغربي بالتصدي للثورات وحرف مساراتها لم ينجح بالشكل الذي يأمله الغربيون، ولذلك ما يزال هؤلاء يحركون ما بقي لديهم من وسائل ضاغطة كالتهديد بقطع المعونات، او اثارة البلبلة ضد الاسلاميين الذين وصلوا الى الحكم عبر صناديق الاقتراع، او تشويش صورتهم لدى الرأي العام بالضغط عليهم لتخفيف رفضهم الاحتلال الاسرائيلي ودفعهم لاتخاذ خطوات توحي بضعف مواقفهم ازاءه. ولكن ما يجري الآن من حراك شعبي يتصاعد في العديد من الدول الصديقة للغرب يكشف ضعف الاستراتيجية الغربية الهادفة لافشال مشاريع التغيير وثوراته. فبالاضافة لكل من البحرين والكويت تواجه السعودية توسعا في الاحتجاجات في مناطق اخرى غير المنطقة الشرقية. فقد شهدت ساحة سجن الطرفية في اطراف الرياض ومناطق الجوف والقصيم والمدينة احتجاجات من عائلات السجناء الذين يصل عددهم، حسب بعض الاحصاءات، الى اكثر من ثلاثين الفا. كما يشهد الاردن حراكا شعبيا مطالبا باصلاحات حقيقية.
 
ان ما يحدث في الكويت من تظاهرات قبل اسابيع من الانتخابات التي حددها الامير في الاول من ديسمبر المقبل، ينطوي على ابعاد عديدة: اولها ان التجربة البرلمانية الكويتية قد استنفدت اغراضها واصبح عليها ان تجدد نفسها بشكل جاد او تواجه استحقاقات حراكات شعبية تتوسع باضطراد. ثانيها: ان سياسة القمع لم تعد اسلوبا فاعلا لحماية الانظمة، فقد استنفدت هذه السياسة هي الاخرى اغراضها، ولم تعد رادعا عن الاحتجاج والتظاهر. وعندما يصل القمع الى قتل المتظاهرين يسقط كوسيلة رادعة لان التجربة تؤكد ان سقوط الضحايا يلغي الموت كرادع عن الاحتجاج والتظاهر. ثالثها: ان دول مجلس التعاون الخليجي عاجزة عن التعاطي الايجابي الفاعل مع تطورات اوضاعها، وما تزال عقلية القمع والاستئصال الوسيلة الاولى لمواجهة التحديات الداخلية، وهي سياسة لم تنفع ايا من الحكام الديكتاتوريين سابقا، بل ساهمت في اسقاط انظمتهم بعد حين. رابعها: ان الاصلاح السياسي اصبح حتمية سياسية لا مفر منها، ولا تستطيع قوة ما، مهما عظمت، كسر ارادة الشعوب الباحثة عن الاصلاح السياسي. وفي حالة دول مجلس التعاون فان الاصلاح المنشود يبدو احيانا مستحيلا. فمن اهم المطالب الاصلاحية ان يشعر الشعب بدوره في العمل السياسي من خلال نوابه المنتخبين، وان يكون حكم القانون هو اساس التعامل بين المواطنين، خامسها: ان التحرك في الكويت، بعيدا عن هوية رواده الحاليين، او القوى التي تقف وراءهم، او حقيقة ما يطرحونه من مطالب، يتجاوز الاشكالات الشكلية ويتصل بعمق مشكلة التمثيل السياسي للمواطنين في نظام الحكم من جهة، وشكل النظام السياسي الذي يريدونه، ودور المواطنين كأفراد في مشروع الاصلاح والتنمية والبناء من جهة اخرى، وهو امر غائب عن اجندات الحكومات والمعارضات. سادسا: ان من الخطأ الاستمرار في سياسة الاعتماد على الغربيين في المجالات الامنية والعسكرية والاقتصادية. فلدى دولنا من الخير والامكانات الشيء الكثير، وبالاعتماد على الامكانات المحلية يمكن تنفيذ برامج اصلاحية حقيقية تعيد للمواطنين شعوره بالكرامة والدور المنوط به، خلال عملية الاصلاح والبناء.

 

 

' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
المعارضة الكويتية تعزز موقعها ومجلس الأمة بلا نساء
أول انتخابات نيابية كويتية في ظلّ كورونا ورهان على نسبة المشاركة والإتيان "بوجوه معارضة"
الشيخ مشعل الأحمد الصباح يؤدي القسم أمام مجلس الأمة الكويتي ولياً للعهد
"القبس" : احباط مؤامرة تستهدف أمن الكويت
قاضيات يؤدين اليمين للمرة الأولى في الكويت
مقالات ذات صلة
انتخابات الكويت والورشة الحقيقية - وليد شقير
الكويت وأزمة نصف الديمقراطية - عبد الرحمن الراشد
"الإخوان" والدولة الوطنية - حامد الحمود
الكويت على مفترق طرق - شفيق ناظم الغبرا
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة