رغم كل الانتقادات التي وجهت إلي مسودة الدستور الجديد سواء فيما يتصل بسلطات رئيس الجمهورية أو علاقة مؤسسات الدولة ببعضها أو نظام الإدارة المحلية الذي لا يعطي للمواطنين حق إدارة شئونهم المحلية بأنفسهم. ولا يعطي المجالس الشعبية المحلية سلطة أصيلة تجاه الأجهزة التنفيذية, فإن المأزق الحقيقي في هذا الدستور يتمثل في الجانب المتعلق بحقوق الإنسان.
المسودة خلت من أي إشارة إلي المواثيق الدولية التي وقعت عليها الحكومات المصرية المتعاقبة منذ بداية القرن العشرين وصدق عليها البرلمان فأصبحت جزءا لا يتجزأ من منظومة القوانين المصرية. وهناك من أعضاء لجنة إعداد الدستور من يستنكر الحديث عن هذه المواثيق الدولية ويعتبرها مخالفة للشريعة الإسلامية رغم أن الحكومة المصرية كانت تتحفظ دائما وهي توقع عليها أنها لن تلتزم بالنصوص التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية, والحقيقة أنه لا يوجد تعارض بين المبادئ والأسس التي قامت عليها هذه المواثيق وبين أحكام الشريعة بل الخلاف هو مع تفسير بعض تيارات الإسلام السياسي لهذه الأحكام بما يتعارض مع حقوق الإنسان, وهو خلاف يعود بالدرجة الأولي إلي فهم هؤلاء الدعاة والبيئة التي نشأوا فيها والعادات والتقاليد التي تربوا عليها, وهو ما يجعلنا أمام خلافات كبيرة بينهم حول تفسيرهم لأحكام الدين, يكفي أن نقارن هنا بين فكر الدكتور محمد سليم العوا والدكتور أحمد كمال أبو المجد والمستشار طارق البشري والشيخ شلتوت شيخ الأزهر الأسبق وبين فكر الذين يتصدرون الساحة الآن باسم السلفيين.
وما هو الفكر الذي ستأخذ به لجنة الدستور من هؤلاء وأولئك. يكفي أيضا للتدليل علي المفارقة الكبري في مأزق حقوق الإنسان في الدستور الجديد أن نعلم أن الدكتور محمود عزمي مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة هو واحد من ثلاثة قاموا بصياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة في ديسمبر1948 وهو يعتبر الوثيقة الأم لكل وثائق حقوق الانسان الصادرة بعد ذلك, ولنقارن ما جاء بهذا الاعلان من مبادئ سامية تقوم علي الحق والعدل والحرية والمساواة وهي نفس المقاصد العليا للشريعة الإسلامية وبين ما يقوله الدكتور يونس مخيون عضو لجنة إعداد الدستور وعضو مجلس الشعب السابق عن حزب النور السلفي الذي يقيم تعارضا غير موجود في الواقع بين هذه المواثيق وبين مبادئ الشريعة الإسلامية, والذي يطالب بمراجعة هذه الاتفاقيات. ومما يثير الدهشة هنا أنهم لا يرفضون اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل بينما يرفضون تأكيد حقوق الإنسان المصري طبقا لما وصلت إليه البشرية في الوقت الراهن من قيم ومبادئ تصون حقوق الإنسان وتحمي حرياته وتوفر له الأمن والأمان من تغول الحكومات عليه. يدخل في إطار هذا الاختلاف أيضا رفض ما جاء في المادة(71) بين المسودة عن تحريم الإتجار بالبشر, ويفسرون ذلك أنه يمكن أن يمنع زواج البنات في سن مبكره غير مبالين بجريمة زواج أثرياء العرب من كبار السن ببنات مصريات قاصرات لعدة أيام مقابل آلاف الجنيهات يمنحها الثري العربي للأب في صفقة أقل مايقال عنها أنها جريمة نكراء وأنها تجارة صريحة بالنساء يروج لها في أشهر الصيف حيث يرحل الزوج ويترك الطفلة معلقة لا هي زوجة ولا هي مطلقة, وربما يكون قد ترك في أحشائها جنينا لا يستطيع نسبه إلي أبيه.
لا توجد لدي هؤلاء أي حساسية تجاه جريمة الاعتداء علي جسد البنت بالختان وإلحاق الأذي الجسدي والنفسي بها وهو عدوان صريح لا يقبله الدين بأي حال من الأحوال. ولا يقل عن هذا تقصيرا في مجال حقوق الإنسان خلو مسودة الدستور من أي نص علي تجريم التعذيب, حيث لايرد مصطلح التعذيب صراحة في هذه المسودة, بل يكتفي بالنص علي التعويض في حالات القتل أو العجز الناشئ عن الجريمة دون الإشارة الي التعذيب كجريمة يعاقب عليها القانون. كما أنه ليس من المقبول أن يخلو الدستور الجديد من مادة تنص علي المجلس القومي لحقوق الإنسان كهيئة مستقلة مسئولة عن حماية حقوق الإنسان المصري ورصد ما يتعرض له من انتهاكات.
هناك جانب آخر لمأزق حقوق الإنسان في الدستور الجديد يتمثل في أن المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي أنشئ لحماية حقوق الإنسان المصري ورصد وإدانة وفضح ما يتعرض له من انتهاك لحقوقه, يضم هذا المجلس في تشكيله الجديد عددا كبيرا من الأعضاء ذوي التوجه الإسلامي فما هو موقف هؤلاء الأعضاء من هذا التوجه الذي يتعارض مع أبسط حقوق الإنسان؟ وهل يقبلون بإغفال النص في الدستور علي الالتزام بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي وقعت عليها مصر والتي تعتبر طبقا لقانون إنشاء المجلس المرجعية الأساسية له في مجال عمله؟ لقد شكل المجلس القومي لحقوق الإنسان لجنة للدستور تقوم بدراسة مسودة الدستور لإصدار وثيقة تعبر عن رأي المجلس القومي لحقوق الإنسان في المسودة من زاوية حقوق الإنسان, ويرأس هذه اللجنة الدكتور محمد باهي أبو يونس رئيس اللجنة التشريعية بالمجلس وعميد كلية الحقوق جامعة الإسكندرية وسوف يتضح الموقف من هذه المسألة عندما تصدر وثيقة المجلس حول مسودة الدستور, كما أن المجلس سوف يعقد الملتقي السنوي لحقوق الإنسان السابع لعام2012 وسيكون موضوعه حقوق الإنسان في الدستور الجديد, وسيدرس الملتقي مسودة الدستور والقضايا الأساسية لحقوق الانسان في مصروسيتأكد وقتها هل سيكون المجلس بتشكيله الجديد الذي يغلب عليه الطابع الإسلامي مدافعا حقيقيا عن حقوق الإنسان المصري أم أنه سيتخذ موقفا آخر؟ الأيام القليلة المقبلة كفيلة بتوضيح الحقيقة وعندها سوف نلمس في الواقع مدي صحة النقد الموجه للتشكيل الجديد من عدمه, والأمر كله بيد أعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان, إما أن يثبت مصداقيته كمدافع عن حقوق الإنسان أو يتخلي عن مسئولياته أو يؤكد ظنون منتقديه.
|