ليس الحقّ جوهراً خالداً لا يفنى، هذا إذا كان ثمّة جوهر خالد لا يفنى أصلاً. فالحقّ، مثل كلّ شيء آخر، قابل للتبديد وإساءة الاستخدام، كما أنّه قابل لمفاعيل مرور الزمن بالتغيّرات التي يُحدثها والعادات الجديدة التي يؤسّسها والضجر الذي يستجرّه. كلّ هذا يؤدّي إلى تآكل الحقّ واستنزافه.
الحقّ الفلسطينيّ شاهد صريح على ذلك. أمّا الآن، فالحقّ السوريّ بدأ يتعرّض لاحتمال كهذا.
فالانتهاكات التي يقدم عليها الثوّار السوريّون، على تعدّد أسمائهم، تتزايد إعداماً وقتلاً وخطفاً وتعدّياً. وهذا إنقاص وحسم من الحقّ السوريّ في الثورة، حسمٌ لا يعطي خصوم الثورة أيّ حقّ، إلاّ أنّه يترك الصراع برمّته ضعيف الحقوقيّة.
تبديد الحقّ وإساءة استخدامه ينجمان جزئيّاً عن استطالة النزاع والعجز عن حسمه. وهذه مسؤوليّة العالم وقواه الفاعلة بالدرجة الأولى. ذاك أنّ النظام السوريّ نجح، من خلال دفع الثورة إلى العسكرة، ومن ثمّ إطالة الصراع من غير أن يتّضح في الأفق ما يوحي بتدخّل فاعل، في تحقيق إنجاز كبير: إنّه حمل المجتمع السوريّ على كشف تناقضاته المكبوتة والمخبّأة. هكذا صارت تداهمنا، فضلاً عن الانتهاكات والارتكابات، عناوين تدور حول صراعات العرب والأكراد والسريان، فضلاً عن السنّة والعلويّين، كما تصفعنا وقائع بعضها يطال علاقة المدن بالأرياف وبعضها يطال علاقة المناطق بالمناطق.
ما من شكّ في أنّ النظام ليس الصانع الوحيد لهذه التناقضات، وليس هو خالقها ومُستحضرها من سماء صافية. بيد أنّ المعادلة التي اشتغل عليها النظام مفادها ربط سقوطه بتعفّن المجتمع على نحو يكاد يكون مطلقاً.
وهذا ما يفرض على الثورة مهمّة بالغة الصعوبة، تزداد صعوبتها في موازاة استطالة النزاع وتقطّع الأواصر بين الجماعات والمناطق، ناهيك عن الأحقاد التي تتراكم في تلك الغضون. والمهمّة هذه هي، بالضبط، الوقوف في وجه التعفّن الذي يراهن النظام عليه ويستخدمه كأمضى سلاح له في معركة البقاء والزوال. لهذا يكتسب البُعد الأخلاقيّ في الثورة دوراً متعاظم الأهميّة، علماً بأنّ "الاخلاقيّ" هنا هو شرط "الوطنيّ" و"الديموقراطيّ".
فإذا كانت الجماعات الدينيّة المتطرّفة والشلل العسكريّة المنفلتة من كلّ عقال أبرز نتاجات العفن الذي يعوّل النظام عليه، كان التنصّل من تلك الجماعات ومن سلوكها ولغتها العمل الأشدّ إلحاحاً والأكثر كفاءة في مواجهة العفن. وإذا كانت أعمال الارتكاب والخطف والاعدامات أبرز الوسائل في إحداث التعفين، كان التصدّي لتلك الوسائل أبرز أشكال الصيانة لما لا يزال صحّيّاً في المجتمع السوريّ، وللحقّ السوريّ تالياً.
لكنّ هذا كلّه يبقى وعظاً محضاً ما دام أنّ الاقتراحات تلك لم تحظ بالقوى التي تضعها على رأس جدول أعمالها، وتبدي القدرة على تفعيل ذلك. وفي انتظار أن تتّضح معالم التحرّكات السياسيّة والتنظيميّة الأخيرة، يجدر الانتباه والتنبيه إلى أنّ الحقّ السوريّ يتعرّض اليوم للاستنزاف. وكم هو مُقلق أن ننتهي أمام لوحة من توالد المشكلات وانعدام الحلول.
|