ليس هدف التقرير الثاني عشر 2012 الذي وضعه مرصد السلم الاهلي والذاكرة ومؤسسة رمزي يوسف عساف تقديم دراسات، وليس عرض اقتراحات اصلاحية تعميمًا لإيهام الناس بأن المعضلة تكمن في اسس الكيان اللبناني، وليس اجترار تعميمات متداولة في السوق، بل صوغ خطاب اكثر وضوحًا ودقة وخطة طريق عملانية.
نعتمد مفهوم الحرب الداخلية في توصيف الحروب بالوكالة التي تجري اليوم في دول ضعيفة او مستضعفة لأهداف اقليمية ودولية. في حالة لبنان بشكل خاص ننطلق من قول الأخضر الإبرهيمي في 14/2/2004 لدى زيارته الأولى للعراق كرئيس بعثة الامم المتحدة الى العراق. قال للعراقيين معتمدًا على خبرته اللبنانية ومحذرًا: "اذا كان هناك من بلد في هذا الجزء من العالم لا احد يتخيل انه يمكن ان يكون مسرحًا لحرب أهلية فهو لبنان" ("النهار"، 14/2/2004).
في كتابه "من أجل لبنان" يقول كمال جنبلاط: "لبنان أكثر من دولة، إنه بلد أعظم تنوع ثقافي، وكان يمكن أن يكون أكثر غنى، وبما لا يقاس، لو أنه عرف نفسه. كان بوسعه حقًا أن يعطي العالم أمثولة، وأن يكون وطن التوفيق بين الثقافات، ورمزًا ضروريًا أكثر من مفيد، لأنه إنساني حقًا، ولكُنّا أعطينا معنى جديدًا للمساكنة الإنسانية، وقدمنا للمجتمع الحديث مثلاً عن جماعة مختلفة، ليست مجرد حشد من الأفراد على الطريقة الغربية، بل تجمع من الثقافات، أو قل "عصبة أمم "صغيرة".
يرتكز المرصد في منهجيته على حوالى مئة مؤشر تشمل ثلاثة محاور: ادارة التعددية الدينية والثقافية، وترسيخ الثقافة الحقوقية والميثاقية، وبناء ذاكرة جماعية مشتركة ورادعة. في لبنان بشكل خاص الجانب الثقافي الحضاري في الصراع مع العداء الاسرائيلي لا يقل أهمية عن الجانب الدفاعي والعسكري. يقول الامام موسى الصدر: "ان سلام لبنان هو افضل وجوه الحرب مع اسرائيل...".
برزت في السنوات الاخيرة، بالاضافة الى مغامرين ومقامرين بالتاريخ اللبناني وبلبنان اليوم، ظاهرة جديدة في المخادعة imposture. المخادعimposteur هو الذي يظهر على عكس ما يضمره ويقوله ويفعله. انه يلجأ الى خطاب شعبوي مبتذل ويتلاعب بغرائز اتباع من شباب لا يعرف ماذا يريد، ومن حزبيين قدامى ناقمين على انتماءات سابقة، ومن نساء ضيقات الافق في الشأن السياسي. في مجال توصيف الواقع الحالي في لبنان، تُذكر التوصيفات الاربعة التالية: تدهور في سلّم القيم، قلق على الكيان، مساعٍ للاستيلاء على الدولة، ولكن توافر ارادة حماية السلم الاهلي بسبب المصلحة لكل القوى في هذه الحماية.
اقفال الساحة
يُستخلص من مناقشات الندوة التي عقدت بالتعاون مع مؤسسة رمزي يوسف عساف في سبيل صوغ تقرير مرصد السلم الاهلي والذاكرة، التوجهات التالية:
1 - اقفال الساحة: هل تعلّم اللبنانيون من تجربة سنوات الحروب ومئات السنين؟ في وضع حيث تم تعطيل برامج التاريخ المدرسية، تبرز الحاجة الى فضح التلاعب بالعقول مع ايهام الناس بحماية خارج المؤسسات والقانون الناظم للحياة العامة. من خلال اللغة يتم الضحك على الناس. ينطلق الخطاب السلمي من مصالح الناس اليومية والمشروعة. ما معنى استراتيجية دفاعية او اقتصادية او تربوية... في موازاة "تعطيل" الموازنة العامة وتعطيل تعيين موظفين وشل ادارات عامة؟ الحاجة تاليًا الى تأمين المسبقات prérequis/présupposés لأي استراتيجية في اي مجال والا افتقرت الاستراتيجية الى ابعادها البديهية التطبيقية. تحتاج علاقة اللبناني بالدولة الى معالجة في علم النفس العيادي اكثر منها في الشؤون التنظيمية. يدرك اللبناني الدولة في بنيته الذهنية التاريخية وكأنها مؤسسة غريبة عنه. اللعبة السياسية الراهنة هي حلقة مقفلة اذا لم يتم رفع الغطاء بشكل كامل وتفويض مطلق للدولة في مواجهة كل عمل مخالف للقانون: اغتيال، تهديد بالاغتيال، قطع طرق، خطف، مظاهر مسلحة... اللبنانيون متأثرون في ادراكهم النفسي بمفهوم سلطوي للدولة على نمط انظمة مجاورة في حين ان الدولة القوية بذاتها in se هي دولة قمعية ستالينية. الدولة الديموقراطية قوية بشرعيتها اي بقبول الناس بها وليس اذعانهم وتاليًا دعمهم لها.
2 - التأسيس على قوى الاعتدال داخل كل الاحزاب: الحاجة الى التأسيس على قوى الاعتدال داخل كل حزب حيث يوجد في كل حزب قوى التطرف وقوى الاعتدال. لكنه يوجد داخل القوى ذات الغالبية المسيحية تيارات إلغائية وداخل احزاب اخرى تبعية خارجية ومسار انقلابي على المؤسسات الشرعية.
3 - تفعيل النقابات والهيئات المهنية والاقتصادية كقوى توازنية تجاه مخاطر هيمنة حزبية: تحولت أكثر الهيئات النقابية منذ السنوات 1980 الى مجرد امتداد لقوى حزبية او مجرد قوى تابعة لاحزاب وهي تستنزف عملها في اولويات ليست اولوياتها. لا يختزل المجتمع المدني بالجمعيات بل يشمل التنظيمات النقابية والمهنية. كفانا اصدار بيانات من قوى اقتصادية للتجار والمصارف والصناعيين... تنحصر بالتشكي والنق والاستنكار مع تجنب طرح مواقف مبدئية لمصلحة الديموقراطية وتحصين السلم الاهلي. تتطلب المخاطر التي تهدد اليوم السلم الاهلي وبالتالي مصالح الهيئات الاقتصادية مواقف مبدئية واضحة وضاغطة.
4 - مقاومة ظاهرة الاديان المُخيفة والاديان الخائفة: منبع الخوف الذي امتد عربيًا وعالميًا من اديان مُخيفة (اسلاميين، تطرف اسلامي، اصولية...) واديان اخرى اصبحت خائفة من اسلام واسلاميين ومتطرفين...؟ هو انظمة استبدادية عربية عممّت الوهم عالميًا انها هي الضامنة لعدم وصول متطرفين اسلاميين الى الحكم وان بديلها هو التطرف والارهاب! استوعب مسيحيون عرب ايديولوجية الحماية من التطرف فأصبحوا خائفين من البديل وينّظرون خوفهم بتصريحات ومقولات وسلوكات تتناقض مع التراث المسيحي العربي في نشر الديموقراطية والحريات وحقوق الانسان.
5 - حملة مواطنية ضد اعلام فتنة ومماحكة وتصادم... وسوق خضار! اختزل بعض الاعلام في لبنان، بخاصة المتلفز، السياسة في المماحكة والمشاكسة والتصادم. هل يكون الصحافيون اصحاب قضية؟ ذُكرت اسماء رواد من الماضي، في حين يدخل البعض الى الاعلام اليوم مثل بائع خضار على سوق الخضار. تتطلب صيانة السلم الاهلي في لبنان اليوم نقل قيم الجمهورية في لبنان الى الاجيال الجديدة وبالتالي التواصل بين الاجيال فيكون الشباب، بخاصة في الجامعات، اقل استتباعًا واستزلاماً.
6 - سلوك الناخبين سنة 2013: يرتبط الاصلاح الانتخابي بثلاثة عوامل: قانون الانتخابات، وادارتها الديموقراطية، وايضًا سلوك الناخبين، ما يعني ان الاصلاح الانتخابي ليس مسألة تقنية صرفاً. يتطلب استقلال لبنان الثاني مشاركة واسعة في انتخابات 2013 من ناخبين وليس مقترعين وحتى بأوراق بيضاء اذا لزم الامر.
7 - الانتهازية والأغطية: وصلت الانتهازية في لبنان الى درجة قصوى وهي تبرز في صمت مسؤولين في حكومات واحزاب او اكتفائهم بتعميمات. شملت عدوى الانتهازية والتموضع حسب الظروف اساتذة جامعيين وقضاة ومحامين عملوا في قضايا حقوق الانسان ومسؤولين في مؤسسات رسمية ودينية يتمتعون بأوضاع محصنّة، ما يشكل الخطر الاكبر على الاستقلال والسيادة والقواعد الناظمة للحياة العامة.
يُبين استشهاد وسام الحسن ورفاقه في العملية الحربية الارهابية في الاشرفية في 19/10/2012 انه ما زال بين اللبنانيين ابطال كبار يواجهون انتهازيين ومخدوعين وسياسيين اقزام يوفرون التبرير والغطاء لاعداء لبنان. اصبح بعد اليوم هذا الغطاء شديد الشفافية. هل يمارس القضاء الدولي والوطني دوره؟
تعرض لبنان لاستراتيجية مُركزة لجعل نظامه البرلماني المركب معطلاً وغير قابل للحكم من خلال فقدان بوصلة المبادئ السيادية والميثاقية والدستورية. لا ينجو لبنان في المرحلة الحالية الا من خلال مقاومة وتصدٍ وممانعة ووضوح المبادئ لمصلحة دولة الحق وشرعية المؤسسات، ضد كل اشكال الحروب والفتن الداخلية وبالتكليف من أجل الآخرين، الباردة او الساخنة في لبنان او بالتقسيط في اي جزء من لبنان.
ما حصل من نقاش خلال اعمال مرصد السلم الاهلي والذاكرة في المؤسسة اللبنانية للسلم الاهلي الدائم بالتعاون مع مؤسسة رمزي يوسف عساف يؤسس لانشاء هيئة وطنية للسلم الاهلي تدعو الى اجتماع واجتماعات طارئة ومفتوحة.
|