لم نكن معنيين بعقد مقارنة بين الكيفية التي استبق بها النظام في المملكة المغربية حراك الربيع العربي لديه, والكيفية التي تعامل بها النظام في الأردن مع ذلك الربيع بعد ما يقارب عامين من انطلاقه.. ولكن لكون الملك عبد الله الثاني عقد مقارنات متكررة معتبرا الحالتين متشابهتين, وبخاصة في ظهوره المطوّل على برنامج جون ستيوارت " ديلي شو" الشهير أميركيا, فإننا سنقدم بضعة مقارنات موجزة غير تلك التي يقدمها مستشارو الملك الذين زكّوا تلك المقارنة لديه أو أكدوا ذلك الشبه. والمقارنة هنا تقدم على سبيل العينة, لأننا ما زلنا لا نعتبر ما يجري في المملكة المغربية أنموذجا يحتذى. فلنا أنموذجنا الخاص المتقدم جدا والذي يعود تاريخه "لأجدادنا المؤسسين" (مقابل "الآباء المؤسسين" لأميركا قبل مئتي عام الذين نعى الملك غياب أنموذجهم عن الحالة الأردنية) الذين عقدوا مؤتمر أم قيس عام 1920, أي قبل تشكيل إمارة شرق الأردن.. وقرارات مؤتمرهم قدمت بعدها كمطالب لسلطة الانتداب البريطاني باعتبارها مسؤولة دوليا عن المنطقة. ويُلخص ذلك الأنموذج الدستور الذي طالب به أجدادنا, وهو "دستور دمشق" الذي استنسخ لحد بعيد الملكية الدستورية كما هي مطبقة في بلجيكا وبريطانيا. وقد فصلت هذا في مقالتي السابقة على هذا الموقع المعنونة بـ"تلاوين ثورة ناهزت القرن"، ولعل حال بطانة الملك ومستشاريه يظهرها أن الملك لم يوضع حتى في صورة تلك المقالة الحديثة, ولو من باب رصد ما تقوله المعارضة. وحتما ما كان الملك ليقول إنه لم يحدث أن تشكلت في الأردن حكومة من أغلبية برلمانية منتخبة لو وضع في صورة "بعض" ما كتب عن مجريات عام 1957 في الأردن , حيث قام الملك حسين بانقلاب عسكري على برلمان وحكومة متشكلة من حزب الأغلبية البرلمانية بعد أشهر معدودة من انتخابهما بنزاهة, وأعلن الأحكام العرفية وحظر الأحزاب (باستثناء الإخوان المسلمين) وظلت تلك الأحكام وذلك الحظر قائمين حتى عام 1993. وهذا كان سيفسر للملك عبد الله عدم وجود أحزاب حقيقة باستثناء الإخوان, وبالتالي ما كان ليعزو غياب الحالة الحزبية لقصور الشعب الأردني في فهم الحزبية وبرامجها ومعنى اليسار واليمين والوسط.. هذا مع أن تلك التقسيمات فقدت حديتها عالميا منذ أمد. وعلى العموم فهنالك في الحكومة من يعمل رقابته في الاتجاهين, فليس كل ما يقوله الملك عن الأردن وشعبه ينقل إلى الأردنيين بالمقابل, فقد جرى حذف أغلب لقائه هذا عند نشره مترجما, ومن قبله جرى حذف مقاطع مشابهة من لقائه مع وكالة الأنباء الفرنسية. وإذا تركنا إعلام الشعب بالحقائق جانبا, فإن أولويات بطانة الحكم في تثقيف ملك جديد كان يجب أن يقدم فيها تاريخ الأردن والأردنيين المدون في عشرات الكتب لمؤرخين أردنيين وعرب ودوليين على تاريخ أميركا والأميركان. وهذا لا يعني أننا ضد الاقتداء بأميركا في الشأن الديمقراطي, فعلى الأقل كان ذلك الاقتداء سيجعل تعديلات دستورنا التي فاقت مائة خلال ستين عاما الأخيرة كالتعديلات التي لم تصل ثلاثين للدستور الأميركي على امتداد أكثر من قرنين وهي تصب كلها في جهة توسيع وتأكيد حقوق المواطن. ونبين هنا بعض الاختلاف بين ما جرى ليس فقط في أميركا, بل في المغرب وما جرى لدينا. فملك المغرب استبق, ولو بشكل محدود, ربيع الشعب بما خدم تهدئة الوضع وإبقاء الفرصة متاحة لتقديم حسن الظن (كما يقول كتاب ناقدون لما أبقي من صلاحيات بيد الملك). وتعديلات المغرب أقرت باستفتاء شعبي في حين أن التعديلات الأخيرة على دستورنا وضعتها لجنة ملكية وأقرت على استعجال بلا مناقشه في مجلس الأعيان المعين بكامله, بعد إقرارها بذات الطريقة من قبل البرلمان الأكثر رفضا من الشعب الأردني في تاريخ كافة مجالسه النيابية. ونتوقف عند أحد أبرز ما جرت المقارنة فيه بين الدستورين الأردني والمغربي. فقد جرى النص في تعديلات الدستور المغربي على أن "رئيس الحكومة ينبثق من الأغلبية المكونة للبرلمان", ومع أنه بقي للملك حق حل البرلمان والحكومة فإن تلك التعديلات تقول إن مراجعة الدستور "يمكن أن تشمل السلطات المخولة للملك ورئيس الحكومة وللبرلمان", واقتراحها يمكن أن يأتي من الملك أو عضو (أو أكثر) من أعضاء مجلسي النواب والمستشارين. وغني عن القول إن النواب لا يطرحون تعديلا إن لم يكن يمثل مطلبا لقطاع من الشعب, والمطلب الشعبي يعبر عنه "الشارع" لكون المسيرات والاعتصامات والمظاهرات حقوق تعبير لعامة الناس تجيزها كل الدساتير والقوانين المعاصرة. ومع أن هذا النص -وغيره من تعديلات الدستور المغربي- يمكن أن "يقرأ قراءة ضيقة لترجع البلاد للخلف" كما يقول ناقد مغربي, فإن هذا يبقى أكثر ديمقراطية من الإصرار الرسمي الأردني على أن "سلطات الملك غير قابلة للمساس إطلاقا".. لا بل إن المطالبة السلمية بإدخال تعديلات على تلك السلطات كالتي أجراها الملك محمد السادس جرى تجريمها, إذ وجهت لنشطاء شباب معتقلين تهمة "العمل على تغيير الدستور بطرق غير مشروعة!!". هذا في حين أن دستورنا كان ولا يزال ينص على آليات تعديله, فكيف يجرّم طلب ما هو حق مشروع دستوريا!!
ومطالب تعديل المواد من 35 إلى 38, التي تتيح للملك تعيين وعزل الحكومة ومجلس الأعيان وحل مجلس النواب, تبنتها كافة مكونات الحراك وفي مقدمتهم الجبهة الوطنية للإصلاح وعلى لسان رئيسها المحامي ورئيس الوزراء ومدير المخابرات الأسبق الأستاذ أحمد عبيدات, ولم يزعم أحد أن هذه محاولة للانقلاب على الدستور أو "تحريض على مناهضة نظام الحكم". وشخصيا لا أجد حالة ينطبق عليها وصف "العمل على تغيير الدستور بطرق غير مشروعة" سوى ما قامت به مجموعة عسكرية في إسبانيا من احتلال للبرلمان واحتجاز أعضائه رهائن ومطالبة الملك بإعلان الأحكام العرفية كي تستعيد تلك المجموعة سلطتها على الحكم التي كانت لها إبان الحكم العسكري لفرانكو. وهو ما رفضه الملك كارلوس, وأدى موقفه المؤيد للديمقراطية إلى تزايد شعبيته بحيث تجد العديد من الإسبان المنخرطين في مختلف الأحزاب يسمّون أنفسهم بـ"الكارلوسيين".
فارق آخر في ذات شأن صلاحيات الملك بين التعديلات التي أجراها الملك الحسن السادس وتلك التي أجراها الملك عبد الله الثاني, يظهر في أن تعديل الدستور في المغرب, بعد إقراره بأصوات ثلثي كل من مجلسي النواب والمستشارين (كلاهما أصبح منتخبا) يسري مفعوله بعد عرضه على استفتاء شعبي. أما آلية تعديل الدستور لدينا فقد بقيت على حالها, أي أنه يلزمها ثلثا كل من مجلس النواب ومجلس الأعيان المعين بكامله من قبل الملك, ويلزمها توقيع الملك بدل الاستفتاء. أي أنه من المستحيل عمليا إدخال أي تعديل دستوري لا يريده الملك ولو حظي بإجماع شعبي. من هنا تبدو عدم جدية دعوة الحكومة الأردنية لمقاطعي الانتخابات إلى أن يشاركوا ليتسنى لهم تعديل الدستور من تحت قبة البرلمان, وقولها إن مكان طلب التعديلات والإصلاحات ليس الشارع. ونأتي للمحكمة الدستورية. فحسب تعديلات دستور المغرب تتشكل المحكمة الدستورية من اثني عشر عضوا يعين الملك ستة منهم وينتخب كل من مجلس النواب ومجلس المستشارين ثلاثة أعضاء منهم. ويحق لأي مواطن مغربي اللجوء إلى تلك المحكمة بعد استنفاده كل آجال التقاضي للطعن في دستورية بعض الأحكام. بينما صادرت تعديلات دستورنا, بإدخالها المحكمة الدستورية, حق المواطنين الذي كان قائما منذ إقرار الدستور عام 1952 بالطعن في دستورية أي قانون عند أية محكمة ومن أية درجة كانت وصولا لمحكمة العدل العليا. وبغض النظر عن أن رد العدل العليا لتلك القضايا جعل ذلك الحق شكليا، فالمحكمة الدستورية الجديدة معينة بكاملها من الملك, ويقتصر حق الطعن لديها في الحكومة ومحكمة الاستئناف ومجلس الأعيان المعين ومجلس النواب الذي تأتي مقاطعة انتخابه الواسعة الآن لتلاشي الثقة بنزاهة انتخاباته. وفي حين أن شروط عضوية المحكمة الدستورية المغربية تتضمن كون الأعضاء قانونيين "بتكوين عال" وعلى كفاءة قضائية أو فقهية أو إدارية ممن مارسوا مهنتهم لمدة تفوق خمس عشرة سنة.. فإن شروط عضوية الحكمة الدستورية الأردنية ذات الأحكام الملزمة لقضاة المحاكم الأخرى كافة وتتولى مهمة تفسير الدستور وكذلك القوانين, فضفاضة بحيث أمكن أن يعين في أول تشكيل لها من هو ليس قانونيا بالتأهيل العلمي بل يحمل بكالوريوس في الأدب الإنجليزي, وكان قد عين مؤخرا في مجلس الأعيان ثم في اللجنة الملكية لتعديل الدستور التي نصف أعضائها ليسوا قضاة ولا قانونيين. ولا يسمح حيز المقال بالتوسع أكثر في مقارنة مع تجربة أخرى لا يتطلع إليها الشارع الأردني ابتداء. ولكن بما أن التعديلات على الدستورين, المغربي والأردني, جاءت ضمن ما حاول واضعو تلك التعديلات تقديمه على أنه "الدستور المنحة" الآتي من الحاكم, فسأعرض لدستور عربي آخر ينطبق عليه وحده صفة "المنحة" بالفعل. وأمكنني أن أطلع على قصة وضعه عبر زميل سياسي أردني أسر إلي بأنه نصح الحكومة القطرية, حين شرعت في وضع قانون انتخاب للبلديات أن لا يبدؤوا بالبلديات إن أرادوا تحاشي النيابة، "لأن الديمقراطية كرة ثلج ستكبر بسرعة". فجاء رد قطر على النصيحة بتشكيل لجنة أخرى لوضع الدستور حتى قبل أن تتم لجنة البلديات عملها. وهوما دفعني للبحث في ذلك الدستور واكتشفت أوجه شبه عديدة بدستورنا الأصل ترجح أنه كان من مصادر لجنتهم. ولكن استوقفني أمران, الأول أن الدستور القطري عالج ما نعاني منه نحن من عبث بالدستور يتجلى في أن الدولة تُسيّر الآن بما يزيد على مائتي قانون مؤقت غير دستوري, بزعم كثرتها وبالتالي صعوبة نظرها في البرلمان الذي جرى حله تحديدا لتنفرد الحكومة بإصدار تلك القوانين, وجلها يشرع للفساد ويحميه أو يصادر حقوق وحريات المواطنين الدستورية. والأرجح أن هذا ما جعل القطريين ينصون في دستورهم على وجوب أن تنظر القوانين المؤقتة في أول اجتماع "لمجلس الشورى" يلي إصدارها, وهو ذات نص دستورنا, ولكن الإضافة القطرية كانت بتحديد أربعين يوما لرد تلك القوانين أو طلب تعديلها من الحكومة في سقف زمني إذا انقضى دون إجراء التعديل يصبح القانون لاغيا. الأمر الثاني, وهو الأهم الذي يضيء مسألة "حسن الظن" الذي تحدث عنها زميلنا المغربي, هو أن دستور قطر نص صراحة على أن "الأحكام الخاصة بالحقوق والحريات العامة لا يجوز طلب تعديلها إلا في الحدود التي يكون الغرض منها منح المزيد من الحقوق والحريات والضمانات لصالح المواطن".
كان بودي أن أكتب هذا في موقع آخر غير "الجزيرة".. ولكن السؤال هو أين؟؟ وبالذات كان بودي لو أن مقالتي هذه أمكن نشرها ابتداء في صحيفة أردنية.. ولكن الجواب هو أنه حتى المواقع الأردنية التي تعيد نشر مقالاتي مهددة بالإغلاق في ظل قانون مطبوعات جديد يمهد به "لخريف الديمقراطية" الآتي!!
|