في تونس، التي تعيش تحت حكم الإسلاميين، تحوّلت ندوة "الدين والدولة" المنعقدة في مدينة الحمّامات أيام 15و16 و17 تشرين الأول الماضي، بدعوة من "مركز دراسات الوحدة العربية" والمعهد السويدي في الإسكندرية، إلى ندوة نقدٍ، أحيانا عنيف، للتيارات الدينية ولا سيما لحركات "الإخوان المسلمين" في العالم العربي وبالأخص "الإخوان المسلمين" المصريين، كما للتيارات السلفية في كل مكان.
مع أن الندوة حظيت باهتمام خاص من الشيخ راشد الغنوشي زعيم "حزب النهضة" الحاكم إذْ حضرها على مدى يومين من أيامها الثلاثة، مع ذلك لم يستطع "الرجل الأقوى" في تونس الحالية كما يصفه رجل الشارع العادي وليس فقط النخبة السياسية المؤيدة أو المعادية له، أن يغيّر من طبيعتها النقدية المركّزة هذه، بل واجه في بعض الجلسات نقدا مباشرا فكريا وسياسيا، وإن كان، لا شك، استحصل على احترام شخصي إضافي من النخب العربية العلمانية والإسلامية التي كانت تشارك في الندوة.
من داخل الندوة وعليها هذه بعض ملاحظاتي كمراقب وكمشارك:
الملاحظة الأولى: كانت في الندوة، إضافةً إلى الحضور المتعدد والكثيف لأسماء عربية محترمة معروفة أو غير معروفة، غياباتٌ وفراغات. أما الغيابات فهي عدم مشاركة بعض كاتبي الأوراق الأساسية ومنها مثلا الورقة الهامة والخِلافية التي وضعها للندوة القاضي والمؤرخ المصري الدكتور طارق البشري (كاتب الإعلان الدستوري الأول بعد الإطاحة بالرئيس حسني مبارك) والتي أعاد فيها قراءة التاريخ المصري الحديث باعتباره منذ ثورة عرابي في أواخر القرن التاسع عشر إلى ثورة 1952 إلى ثورة ميدان التحرير يتم بمشاركة قيادية فاعلة من الجيش المصري كما أن ثورة 1919 التي لم يشارك فيها الجيش لأنه، حسب الكاتب، كان مُبعَدا إلى السودان بقرار الاحتلال البريطاني، شاركت فيها بفعاليةٍ البيروقراطية المدنية للدولة المصرية رموزا وقواعد. لكن النقطة الخلافية في ورقة البشري هي ما اعتبره "افتعال" النخبة الليبرالية المصرية المسيطرة في الإعلام لِـ"أولوية" نقاشية فرضتها هي مسألة هل تكون الدولة مدنية أم دينية؟ وهذا في نظره افتعال سجالي لأن المسألة الحقيقية هي دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي التحديثي ومتطلباته. هذا يجعلك كمراقب تنتبه إلى حجم النقمة التي تسود اليوم في أوساط النخبة الرافضة لدور "الإخوان" السلطوي في مصر والحذرة منه على الدكتور طارق البشري والتي تتهمه- خارج جلسات الندوة- بالتواطؤ الكامل مع "الإخوان المسلمين".
أيا تكن مدى الدقة الموضوعية للتهمة التي يوجّهها طارق البشري إلى النخبة الليبرالية- وهو نقاش يمتدّ تلقائيا إلى دول عربية أخرى- فإن الجانب الإيجابي بل التقدمي من رأي الدكتور البشري-كما أرى- هو أنه دلالة فكرية جديدة ومؤثرة على أن التيّارات الدينية الحاكمة ستجد نفسها أمام ثانوية بل هامشية دور الدين في مواجهة التحديات التحديثية الفعلية في إدارة الدولة، أيِّ دولةٍ في العصر الحديث، تحديات مكافحة الفقر والفساد وتأمين العدالة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي. وإن كنتُ لا أوافق الدكتور البشري أن نقاش "دولة مدنية أم دينية" هو محضُ "افتعال ليبرالي".
أما الفراغات فكانت في ضعف "تمثيل" بل غياب مشاركين من التيارات السلفية. وإذ أضع كلمة تمثيل بين هلالين لأن ندوة فكرية ليس دورُها تأمينَ التمثيل السياسي، لاشك أن المطلوب دعوة بعض السلفيين ليكتمل الحوار بل السجال مع تيّار نسمع عن "أهواله" ونشاهدها من تومبوكتو إلى سيناء دون أن نراه في محفل فكري كهذا المحفل الذي كنا فيه. فبعكس "الإخوان المسلمين" الذين "دُرِّبوا" وتدرّبوا على الحوار بالحسنى وبالقمع معا على مدى ثمانين عاما لا تزال بَرّيةُ السلفيين السياسية نافرةً لاسيما داخل "غابات" المدن. وحدها المشاركة في العملية الديموقراطية، كما بدأ يظهر نسبيا في مصر، هي التي يمكن أن تروّض شخصيتهم. وهذه النقطة جعلت بعض المشاركين يتحدّث عن "قلق سعودي" محتمل من تبنّي السلفيين العرب لثقافة "انتخابية" بما قد يغيّر أدوارهم باتجاه آخر مضاد للنفوذ السعودي.
وُوجِه الغنوشي بأسئلة بل باتهامات عن تساهل الحكومة التونسية مع عنف السلفيين فقال بلهجة الدفاع عن النفس أن مرجعية القانون هي المعيار في التعامل مع السلفيين وروى كيف أدّت بعض المواجهات مع الشرطة إلى قتل عددٍ منهم. ثم بنوع هادئ من التبرّم سأل: هل تريدون صيد الثعالب؟ بما معناه هل تريدون أن نقتلهم أو أن نكون عنيفين جدا معهم فقط لأنهم سلفيون!
شهدت الندوة تقديم أوراق بحثية ذات مستوى مهم حول علاقة الدين بالدولة كما الأوراق المغربية والسعودية وورقة لباحث سويدي حول مسلمي السويد ناهيك عن مداخلة القطب الليبي الحالي الدكتور محمود جبريل ومساهمة أستاذة وأستاذ جامعيين ليبيّين آخرين بما بات يجعلنا نشاهد ونسمع في المحافل الخارجية نوعية ليبية كانت مطموسة في العهد المنصرم عبر الحضور الأمني الطاغي والهزيلِ القماشةِ الشخصية. لكن غابت أوراق عن سوريا والعراق وإن كان حضور المعارض السوري الصديق ميشال كيلو جعله "نجما" يريد الكثيرون الحديث معه ولكن ليس في القاعة وإنما خارجها بسبب اهتمامهم الشديد بالوضع السوري ومنهم من هو آتٍ من أقاصي المغرب ويطرح أسئلة سجالية ودقيقة ليست مختلفة عن أسئلة بيروت ولربما أكثر عقلانية.
الملاحظة الثانية: كان حضور "مجموعة" المثقفين المسيحيين اللبنانيين مميزا. ومع أنهم دُعوا وحضروا بصفاتهم الأكاديمية وليس طبعا كمجموعة، إلا أن الآراء التي أبداها كلٌ منهم في مجال اختصاصه، عكست حساسية ثقافية ساهمت في جعل النقاش في هذه البيئة المسْلمة بطبيعتها أكثر اتصالا بل أكثر تحديا بَنّاءً لمفاهيم ربما كانت ستنزع بدونهم إلى تبسيطية أكثر. لاسيما أن الصدف شاءت أن تغيب "الحساسية" القبطية من الحضور المصري لكن دون أن تغيب طبعا كثافة النقد الليبرالي للتيارات الدينية "على يد " أسماء مهمة بينها عالم الاجتماع المصري البارز سعدالدين ابرهيم الذي فاجأني بطاقة روائية جذابة عندما روى على المنبر تجربته في السجن مع قادة "الإخوان المسلمين" وبينهم من هو الآن رئيس جمهورية مصر أي محمد مرسي. روى سعد الدين ابرهيم كيف كان خيرت الشاطر زعيم عنبر هؤلاء القادة "الإخوان" داخل السجن بدون منازع. وبعد أن أبدى إعجابه بـ"الشخصية الفذة" لخيرت الشاطر كما عرفه في السجن ومدى انضباطية السجناء "الإخوان" وحتى نظافة ثيابهم التي قال أن مدير السجن (الموجود فيه حاليا حسني مبارك) كان يحترمها كثيرا، انقضّ سعد الدين ابرهيم في هجوم سياسي صريح وبحضور راشد الغنوشي على "مشروع "أخْونة" مصر قائلا أن "الإخوان" الذين يحاولون السيطرة على مفاصل الدولة بما فيها الجيش ستستوعبهم الدولة المصرية "النهرية" العريقة وبيروقراطيتها الضخمة على المدى الأبعد (لاحظتُ بألمٍ الحالة الصحية الصعبة لابرهيم والذي يبدو أن تجربة السجن قد أنهكته جسديا).
الملاحظة الثالثة: ظهر في الندوة موقف مهم جدا من موضوع "الردة" (عن الدين الإسلامي) ينبغي الاطلاع عليه عندنا في المشرق العربي. فقد أجمع كلٌ من عبد المنعم أبو الفتوح المرشح البارز للرئاسة المصرية وراشد الغنوشي بناء على مواقف فقهاء معاصرين كالدكتور سليم العوا أن مفهوم "الردة" ليس دينيا بل هو سياسي. ففي رأيهما أنه عندما ثارت القبائل على الخليفة أبي بكر كان ارتدادها سياسيا وواجَهَها لأنها حملت السلاح ضد الدولة وليس لأنها تراجعت عن الدين الإسلامي . كان هذا الموضوع قد طرح في القاعة عندما تحدّثتُ في إحدى الجلسات عن ورقة العمل التي أصدرها سينودوس أساقفة الشرق الأوسط عام 2010 برئاسة البابا بينيديكتوس والتي جاء فيها أنه في الشرق الأوسط أو "العالم العربي التركي الإيراني" توجد "حرية عبادة لكن لا توجد حرية ضمير" وحرية الضمير تعني في لغة السينودوس حرية تغيير الدين. هذا الموقف عاد البابا وأكّد عليه في "إرشاده الرسولي" الذي قدّمه خلال زيارته للبنان قبل أسابيع. عندها أدلى الغنوشي بموقفه وتلاه لاحقا أبو الفتوح والملاحظ أن أحداً لم يعترض في القاعة على رأيهما هذا الذي يجيز الردة عن العقيدة ولا يجيز حمل السلاح ضد الدولة الاسلامية.
بالمناسبة يستشعر المراقب كم هي الثقافة الاسلامية حاضرة بكل ثقلها التاريخي حتى في ندوة نخب مشبعة بمعرفة وقيم الجامعات الغربية. فبسبب كثافة الاستشهادات من التاريخ الاسلامي تراءى لي أنني أمضيتُ اليومين الأوّلَيْن من الندوة متجوّلا بين مكة ويثرب في العقود الأولى من القرن الأول الهجري!
في ما كانت أعمال الندوة جارية في إحدى قاعات الفندق الكبير كتبتُ بضع كلمات في صفحتي على الفايسبوك: أنا الآن في تونس تحت حكم الإسلاميين أشاهد السيّاح الأوروبيين الأجانب نساء ورجالا يتمددون امام مسبح فندق "لورويال" في مدينة الحمامات بثياب السباحة بكل حرية وطبيعية وبين أكُفّ بعضهم وبعضهن أقداح البيرة المشعة وكؤوس الويسكي الواثقة وكؤوس النبيذ الأنيقة في هذا الطقس الخريفي. إنها قبل أي شيء آخر تونس الديموقراطية حيث الحوار والتنوع والصدام ولكن أيضاً تونس الفقيرة أكثر مما كانت. من سينتصر على الآخر الفقر أم الديموقراطية؟ يبدو لي أننا أمام هذه الثنائية الاستراتيجية ذات الطرفين المتناقضين لزمن طويل في الحاضر والمستقبل العربيين الجديدين...
|