السبت, 27 نوفمبر 2010
إبراهيم عرفات *
للروائي المصري علاء الأسواني عبارة بسيطة يختتم بها مقالاته، صاغها على هيئة شعار يقول «الديموقراطية هي الحل». وفي رأي البعض، فإن الأسواني تعمد بهذه العبارة معارضة الشعار المعروف لجماعة الإخوان المسلمين الذي يردد أن «الإسلام هو الحل». لكن من لا يرون تناقضاً بين الإسلام والديموقراطية لا يوافقون على أن الأسواني ابتكر شعاره نكايةً بالإخوان، وإنما ليذكّر الجميع بأن هناك حلاً رحباً في مقدوره أن يستوعب كل التيارات والديانات، يتعايش في ظله الجميع اسمه الديموقراطية. وبعيداً من الحكم على نية الأسواني، فما يهم هو الحكم على صحة الشعار نفسه. والشعار صحيح تماماً. وهذه ليست وجهة نظر وإنما حقيقة تؤكدها الأدلة والتجارب. فما طبقت أمة الديموقراطية بصدق إلا وتقدمت، وما غرقت أمة في الاستبداد إلا وتخلفت.
لكن العالم العربي على رغم كل الأدلة والتجارب، سواء التي خاضها أو تلك التي سمع عنها، يبقى هو الأقل حظاً في العالم في مستوى الديموقراطية. ولم تنجح تجربة السنوات الخمس الأخيرة في أن تكون استثناءً من تاريخ عربي طويل، لا يقل عن قرنين، لم يبرز فيه فرسان للديموقراطية إلا وخبا نجمهم.
كان الظن قبل خمس أو ست سنوات أن ربيع الديموقراطية قد هبّ أخيراً على العالم العربي وأن مظاهر الحراك السياسي والحيوية الإعلامية والجرأة الجماهيرية وصلت إلى حد لا يمكن إيقافه. وشجع على هذا الاعتقاد ما أبدته الحكومات العربية نفسها من اهتمام غير معهود بالمسألة الديموقراطية، وهو ما عكسه البيان الختامي للقمة العربية في تونس في ايار (مايو) 2004، وتعهد فيه القادة العرب، وكما ورد في النص، «مواصلة الاصلاح والتحديث في بلداننا... من خلال تعزيز الممارسة الديموقراطية وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام». وهو التعهـــد الذي واكبه تأسيس منابر ومراصـــد ومؤسسات تتابع وترعى عملية التـــحول الديموقراطي. وظهر مع هذه المـــنابر وبفضل حالة الحراك السياسي غير المسبوقة فرسان في أكثـــر من بلد عربي، كان أبرزهم في مصـــر، كتبوا وتظاهروا وأسسوا تجمعـــات وقادوا تحركات من أجل إتمام المهمـــة التاريخية التي طالما استعصت على كل من سبقهم.
لكن المهمة لم تتم، وباتت تواجه حالياً وضعاً بالغ الصعوبة. فبعد ست سنوات من المحاولات الدؤوبة تبين أن ربيع الديموقراطية في العالم العربي يقترب من نهايته إن لم يكن قد وصل إليها بالفعل. اتضح أنه كان ربيعاً كاذباً، وأن الفرسان على رغم محاولاتهم واجبة التقدير، كانوا يخوضون معركةً من دون أسلحة تناسب المهمة، في مقدمها سلاح الجمهور الذي كان دائماً هو الفيصل في تجارب التحول الديموقراطي الناجحة في العالم بأسره شرقاً وغرباً.
ومما يحمل على الأسى أن افتقار فرسان الديموقراطية لهذا السلاح لم يكن جديداً. فالسلبية الشعبية في العالم العربي لها تاريخ طويل وقد يكون لها مستقبل أطول. وقد ظن فرسان الديموقراطية أن هذه السلبية ستنتهي على أيديهم. لكنها لم تنته وإنما كررت نفسها بطريقة تكاد تكون مطابقة لما حدث في مناسبات تاريخية أخرى ظن دعاة الحرية أن الشعب لن يخذلهم فيها فخذلهم.محمد البرادعي، مثلاً، اعتقد أن الشارع الناقم على الأوضاع المعيشية الصعبة وسياسات الحكومة المنحازة الى الأثرياء سيلبي دعوته وسيقف معه بالملايين. قال للناس من البداية «قفوا معي كي أقف معكم». لكن على رغم الفروسية التي أبداها، لم يجد من الناس رد الفعل الذي كان يتوقعه. وهو ما يشبه ما لاقاه فارس مصري آخر أقدم وأهم بكثير من البرادعي راهن على أن قضيته الــوطنية ستنجح في حشد الناس من خلفه، وأعني به أحمد عرابي. ضحى عرابي بالغالي والنفيس في مواجهة استبداد الخديوي ومن أجل الدفاع عـــن مصر ضد الانكليز ثم وجد الناس تنفضّ من حوله. فما كان منه إلا أن قال عبارته البليغة: «يا أبناء وادي النيل الذي عز خلاصه، إلى متى وأنتم عاكفون على الفكاهات ومضـــاحك الحكايات ومحال الترهات؟ وإلى أين تذهـــب بكم المذاهب وتغيب بكم الغياهب وتخدعكم الكواذب».
كان الدعم الجماهيري ولا يزال هو السلاح المفقود الذي جعل فرسان الديموقراطية بلا جياد. وعلى رغم ما توافر لهم من أسلحة أخرى، إلا أنها لم تكن لتصمد أمام ترسانة متمرسة من آليات القهر والتحكم. فالدعم الخارجي مثلاً تبين أنه يعمل ضد فرسان الديموقراطية أكثر مما يعمل من أجل قضيتهم. ووسائل الإعلام التي أتاحت لهم نافذة يشرحون من خلالها قضيتهم كانت وسائل إعلام أخرى أكثر منها عدداً تقف في وجهها ولا همّ لها إلا تشويه صورة الفرسان وتسفيه قضيتهم. ناهيك عن التضييق والتحرش والاستفزاز التي تعرضوا لها من جانب جهات الإدارة والأمن.
وليس لوقوف فرسان الديموقراطية اليوم بلا جياد إلا تفسير واحد هو أن السلطوية كسبت الجولة الأخيرة وبدأت تستعيد كثيراً من أنفاسها. ربما لم ولن تسترد السلطوية العربية أمجادها كما كانت قبل خمسين أو ستين عاماً لكنها بفضل الذكاء الذي اكتسبته بخبرة السنين وقدرتها الهائلة على التكيف مع مختلف الظروف تمكنت من وأد ربيع الديموقراطية الذي لم تكن تريحها نسماته. والدليل على نجاحها أنها تركت فرسان الديموقراطية ينادون بتعــديل الدساتير ونزاهة الانتخابات فيما واصلت هي هندسة كل ما في السياسة وعلى كيفها. فلم تعدّل الدساتير إلا بالطريقة التي تعجبها ولم تجر الانتخابات إلا بالطريقة التي تريدها. ثم يأتي دليل أهم من هذا وهو أنها نجحت في أن تفرض على الناس القضايا الكبرى التي يتكلمون في خصوصها. كان فرسان الديموقراطية يريدون أن يتناقش الناس حول الحريات ومحاربة الظلم والتصدي للاستبداد وأن يعرفوا أكثر عن حقوقهم وأن يتعلموا كيف يشاركون وكيف يصوتون وكيف يراقبون الانتخابات وسلوك المسؤولين. لكن كل هذا انزوى الآن أمام قضايا أخرى هي عند الناس أخطر وأعظم وأهم.
لم تعد الغالبية العربية، وربما لم تكن يوماً، يهمها حديث فرسان الديموقراطية عن أولوية الديموقراطية. ما يهم الغالبية وما يعنيها في المقام الأول والأخير مسائل معيشية مباشرة مثل أسعار السلع وأزمة المواد الغذائية ومشكلة البطالة. ولو برزت مسألة أخرى يهتم بها العامة غير تلك المسائل فليست الديموقراطية من بينها. فعندما تكون تداعيات القرار الظني في لبنان في شأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري هي الهاجس الجماهيري، وعندما يكون انقسام البلد إلى اثنين بعد أيام هو الموضوع الأول في السودان، وعندما تصبح «القاعدة» حديث الساعة في اليمن والجزيرة العربية، وعندما تتقدم أخبار الخلاف بين السنّة والشيعة ما يتلقفه الناس من أخبار، وعندما ينشغل المصريون بتدبير لقمة العيش فلا يمكن مع كل هذا أن يكون فرسان الديموقراطية قد نجحوا في لفت انتباه الناس إلى القضية التي كرسوا أنفسهم من أجلها.
ومن الطبيعي مع انتكاسة الديموقراطية أن ينقسم فرسان القضية إلى فريقين أحدهما يترجل مبتعداً والآخر يواصل ويتحمل. ولا لوم على الفريق الأول وكل من ترجل طالما أنه يبتعد لسبب مقنع. وليس غير التقدير الرفيع لكل من يصر على أن يواصل ويتحمل.
وفي ظني أن أغلب من ترجل من فرسان الديموقراطية لم يترجل نهائياً وإنما هو في حاجة لاستراحة سيظل خلالها على تعاطفه مع من قرر أن يواصل ويتحمل. أما من يتحمل فقد باتت مهمته أثقل وهو يرى بعض رفاقه من الفرسان قد تركوه وترجلوا، ويرى الجياد التي علق عليها آماله لا تزال على سلبيتها. والنوعان معاً، من يترجل ومن يتحمل، يؤكدان أن الديموقراطية في العالم العربي لا يبنيها فرسان وإنما ستظل تنتظر الجياد.
والجياد إلى الآن لا تصهل وهو ما يتيح للسلطوية باستمرار أن تجدد نفسها. صحيح أن الديموقراطية كما يقول الأسواني هي الحل، لكن مفتاح الحل ليس في يد الفرسان وإنما للغرابة في يد من يتمنى التغيير ولا يعرف أن المفتاح في يده.
* أكاديمي مصري
|