الأحد ١٣ - ٧ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: شباط ١٥, ٢٠١١
المصدر: جريدة السفير اللبنانية
 
بوصلة الدم والنخب العربية المرتبكة - مسعود ضاهر

قبل أيام من انتصار الحدث التاريخي الذي سجله كل من الشعب التونسي والشعب المصري بدماء الشباب والعرب عزمه على تحصين ما صنعت يداه، كانت منظمات سياسية وثقافية عربية تعقد اجتماعات شكلية تنتهي بتوصيات لا يقيم أحد وزنا لها. فمنذ سنوات طويلة دب اليأس والإحباط في صفوف تلك المنظمات التي اقتصر عملها في الآونة الأخيرة على عقد مؤتمرات استعراضية تنفق عليها مئات آلاف الدولارات كي تصدر بيانات فارغة من أي موقف، وموجهة إلى قمم عربية متهالكة، وجامعة عربية متقاعدة منذ زمن بعيد. وكانت التوصيات تعيد توصيف الأوضاع العربية لتعلن أنها تسير من سيئ إلى أسوأ دون أن تستشف ولو لمرة واحدة ما يجري داخل الساحة النضالية العربية من احتمالات مستقبلية بالغة الأهمية نبه إليها إنجلز بقوله: «التاريخ يتقدم من جانبه الأكثر سوادا».


تكفي الإشارة هنا إلى توصيات وبيانات صدرت عن تلك الأحزاب والمنظمات في الفترة التي كان فيها الحدث الشعبي التونسي يزداد اشتعالا ويقدم قوافل متلاحقة من الشهداء. فتضمن البيان الختامي للمؤتمر العام للأحزاب العربية المنعقد في الرباط في 7 ـ 9 كانون الثاني 2011 تحت عنوان «مواجهة الفتن الداخلية وأعاصير التجزئة الخارجية»، مقررات عدة تقضي بتشكيل المزيد من الوفود، وإنشاء المزيد من اللجان والمكاتب. واعتبرت يوم اعلان نتائج الاستفتاء حول مصير جنوب السودان يوما لمناهضة التجزئة في حال إعلان انفصال جنوب السودان وذلك تحت يافطة «اليوم العربي لمناهضة التجزئة» (!!!). وطالبت بإحياء يوم القرار العربي المستقل على مستوى الوطن العربي من خلال «مسيرة تنطلق من موريتانيا وصولا إلى أحد ثغور فلسطين في 16 أيار 2011، يوم توقيع اتفاقية سايكس بيكو، حيث تلتقي مع مسيرة مماثلة تنطلق من لبنان مرورا بسوريا والأردن». بدورها، عقدت شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية في بيروت خلال يومي السادس والسابع من كانون الثاني2011، «المنتدى الإقليمي» تحت عنوان «الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في ظل الأزمات العالمية: هل هناك حاجة الى رؤية تنموية بديلة في المنطقة العربية؟». وذلك بمشاركة أكثر من 180 مشاركة ومشاركا يمثلون منظمات من المجتمع المدني في 17 دولة عربية. «فقرر المشاركون تنظيم حوار مباشر بين هيئات جامعة الدول العربية وممثلي الشبكات المحلية والوطنية والاقليمية لمنظمات المجتمع المدني في المنطقة العربية، بمشاركة الامم المتحدة، للتباحث في الآليات التي توصل الى تشكيل اطار ممأسس للحوار والتعاون والشراكة، ودعوة الامم المتحدة الى القيام بدور فعال في تقريب وجهات النظر بين جامعة الدول العربية واطراف اخرى... ودعوة ممثل عن منظمات المجتمع المدني لإلقاء كلمة امام القمة القادمة في شرم الشيخ، وفتح القمة امام مشاركة عدد من ممثلي المجتمع المدني والقطاع الخاص والمنظمات الدولية»..(!!!)


لم تكن هناك إشارة واحدة لما كان يجري على الساحة التونسية، ما يؤكد أن الحركة الشعبية العربية باتت أكثر تقدما وجذرية من ممثلي جميع الأحزب والمنظمات السياسية والنقابية العربية. فقد أدخلت الدولة التسلطية في العالم العربي الهلع في صفوف النخب السياسية والثقافية والنقابية العربية وأدخلتها في مرحلة اليأس والإحباط. وورثت تلك الدول كل أشكال القمع والإرهاب من نظام الحكم الاستبدادي العثماني والاستعماري الأوروبي. وشكلت الأجهزة الأمنية العمود الفقري للسلطة السياسية الحاكمة والمتحالفة مع السلطة الدينية ومثقفي السلطة. ونشرت الرعب في نفوس المواطنين على امتداد الوطن العربي. وتبادل وزراء داخليتها الذين كانوا يجتمعون بانتظام منقطع النظير، آخر مبتكرات الارهاب والقمع المستوردة من ترسانة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، لإرغام رعاياها على الانصياع لسلطتها المطلقة. فكانت النخب العربية النهضوية أبرز ضحاياها حيث قتل او سجن قسم كبير منهم، وصودرت أعمالهم. وتم تهجير آلاف المثقفين العرب الذين انتشروا بكثافة خارج الوطن العربي، ومنهم من أقام في هجرة دائمة دون رغبة في العودة إلى الوطن المحكوم بسلطة إستبدادية صادرت الحريات والحقوق الفردية والعامة.


لكن شباب تونس ومن بعدهم شباب مصر كسروا حلقة الخوف من نظامهما البوليسي حين قرروا النزول إلى الشارع بالصدور العارية. وتدرجوا من خطى عفوية عبر إحراق الفرد نفسه احتجاجا على الظلم اللاحق به، إلى هبة شعبية أطاحت برأسي السلطة في كلا البلدين. وهي إرهاصات ثورية لحركات جماهيرية بقيادات شابة، وتواجه تحديات كبيرة في عملها المستمر لنسف ركائز الحكم التسلطي ومنعه من استعادة قواه مجددا.


لقد فاجأ شباب تونس وشباب مصر الانتلجنتسيا العربية المتهالكة والمستكينة إلى توصيف الأزمات التي تعيشها المجتمعات العربية، ورصد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تزداد حدة، والتحذير من أزمة الاندماج والهوية، ومخاطر الانقسامات الإثنية والدينية، والتنديد بدور الدولة التسلطية على امتداد العالم العربي. وكانت تصدر بيانات تمت صياغتها بكلمات منمقة ومدروسة بعناية فائقة حتى لا تزعج أيا من الدول العربية التي تعيش حالة تفكك شامل بعد إتساع دائرة الصدامات الطائفية، والعرقية، والقبلية، وصعود التيارات الأصولية لتصبح قطب الصراع الأساسي في ظل غياب شبه تام للأحزاب والمنظمات الديموقراطية والقومية والعلمانية.


اللافت للنظر أن نجاح الشباب التونسي في تحقيق بعض أهدافه الأساسية أطلق حركة ثقافية واسعة على امتداد العالم العربي. فامتلأت وسائل الإعلام بمقالات تستخرج الدروس من الحدث التونسي وتدعو شعب تونس للتنبه من مخاطر تجديد النظام. ولعل اطرف ما وردني من رسائل في هذا المجال كلمة صادقة من مثقف تونسي مرموق، عايش الحدث بتفاصيله وتعرض للقمع لسنوات عدة. ومما جاء في كلمته: «ضجيج الساحة الاعلامية المحتدمة بعصابات النهب السياسي يطل علينا هذه الايام ويحاول نهب مكتسبات الشعب التونسي دون ان يكون لمثقفيه يد في ما حققته جماهير الفقراء، والعاطلون عن العمل، والمهمشون».


لقد أسقط جيل جديد في تونس ومصرالخوف من النظام التسلطي التونسي ومواجهة الموت بالصدور العارية. فقدم نموذجا يحتذى للنخب العربية، وطالبها بالانخراط في الانتفاضات المرتقبة في بلدانها بدل الاكتفاء بالنصح والارشاد لمن صنع الانتفاضة الشعبية الأولى في تاريخ العرب المعاصر أعقبتها ثورة أرقى في مصر. وباتت الساحة حبلى بمزيد من الانتفاضات الشعبية التي بدأت تؤسس لهوية عربية جديدة ترتكز أساسا على الثقة التامة بقدرة الجماهير العربية على تحقيق الانتصار في مواجهة أنظمة التسلط في بلدانها. واثبتت إنتفاضتا تونس ومصر أن الشباب العربي لا تنقصه الشجاعة ولا الاستعداد للموت في سبيل حرية الوطن وحق المواطن العربي في حياة كريمة.


لقد كسر الشباب العربي مقولة الحفاظ على الاستقرار الداخلي التي كانت تهدف فقط إلى حماية أنظمة تسلطية عربية تفرط في استخدام القمع ضد شعبها لحمله على اليأس والاستسلام. وما يقلق قادة العرب اليوم في أكثر من دولة عربية أن سقوط حاجز الخوف لدى الجماهير الشعبية يجعلها على استعداد لمواجهة رصاص القمع بأعصاب صلبة. ويكشف هذا المنحى الجديد والبالغ الأهمية كيف أن الدول التسلطية العربية عاجزة عن مواجهة شعب أراد الحياة، كما أثبتت تجربتا تونس ومصر. فقوة الدولة المركزية في عصر العولمة تنبع من توفير أقصى ما تستطيع من خدمات لشعبها وليس بقدرتها على ممارسة القمع ضد شعبها، علما بأن تقارير التنمية العربية دلت على أن نسب الأمية والجهل والفقر وغياب فرص العمل فاقت أكثر التوقعات تشاؤما عن واقع العالم العربي. ولم يعد للجماهير الشعبية في العالم العربي، خاصة الأجيال الشابة منها، ما تخسره سوى قيودها. ختاما، بعد أن كسر شباب تونس ومصر جدار الخوف، برز انقلاب في الذهنية العربية السائدة فاجأ تحليلات غالبية المثقفين العرب. فهناك خروج منظم من مرحلة الانطواء على الذات واليأس إلى مرحلة الانخراط المباشر في عملية التغيير. ولم يعد من خيار أمام المثقف العربي الديموقراطي سوى الانخراط اليومي في الدفاع عن إرهاصات التغيير الايجابي في الدول العربية. فالاستنكار وحده لم يعد كافيا لأن العالم العربي يواجه مرحلة مصيرية يتوقف عليها مستقبل جميع الشعوب العربية. وذلك يتطلب اتخاذ موقف عربي جامع لمنع إثارة الفتن الداخلية، والتصدي لمشروع تفتيت الدول العربية برعاية أميركية ـ صهيونية مشتركة. فالنظام السياسي العربي الرسمي عاجز عن الإصلاح لكنه مصر على قطع الطريق أمام التغيير. وإعتمد الطائفية، والقبلية، والعرقية، ركائز ثابتة ومولدة للأزمات، والحروب الأهلية. واستدرج تدخلات خارجية دفاعا عن أنظمة تسلطية. لكن دم الشباب التونسي والمصري قلب المعادلة من خلال النضال الصلب دفاعا عن حياة حرة كريمة. فسالت دماء طاهرة في شوارع تونس ومصر تؤسس حتما بناء غد عربي مشرق. وبات على النخب العربية أخذ العبرة من بوصلة الدم العربي بدلا من الإكثار من النصح والإرشاد. وهذا ما عبرت عنه كلمات الشاعر الكبير لوركا: «تعالوا انظروا الدم في الشوارع، تعالوا انظروا الدم، تعالوا انظروا الدم «. واثبتت بوصلة الدم العربي أن مواجهة الأنظمة التسلطية العربية ممكنة بالإرادة الصلبة والاستعداد للتضحية بالذات، وليس ببيانات التأييد والاستنكار.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة