في كل 14 شباط، تعلن قيادات 14 آذار أنها قرّرت العودة الى الساحات والى الوضوح والى خيارات الناس الذين ملؤوا بيروت بأصواتهم وأحلامهم وآمالهم عام 2005، وتؤكد أنها لن تساوم على دماء الشهداء وعلى العدالة وعلى مشروع بناء الدولة.
وفي كل 14 شباط، يلبي جزء من اللبنانيين نداء النزول الى ساحة الحرية أو الى البيال، لأسباب عديدة. بعضها يرتبط بتعلّقهم بذكرى الشهداء، وبعضها بسبب ولائهم "الأهلي" لتيارات 14 آذار وقياداتها، وبعضها لأن الهجوم المضاد على تطلّعاتهم وحقوقهم لم يتوقف، وبعضها تحدّياً لسلاح "حزب الله" وتأكيداً على عدم الخضوع لإرهابه، وبعضها الآخر نتيجة اعتقادهم أن 14 آذار تبقى رغم سلبيّاتها – وما أكثرها – أقل وطأة على الاستقرار والاستقلال والتنوّع بما لا يقاس من المعسكر المقابل لها.
وفي كل 15 شباط، تعود أمور قوى 14 آذار إلى ما كانت عليه. بطء في التعاطي مع أكثر الملفات داخلياً، وسوء تقدير في الحسابات وقبول بالتسويات ثم انتقاد لمؤدّيات هذه التسويات، من "المقاومة" وسلاحها الى "الثلث الضامن" ووزيره المتنكّر، وقبل ذلك الدوحة وقبلها "النصف زائداً واحداً".
وفي كل 15 شباط يعود الاستسلام الى إيقاع الوضع الإقليمي والمبادرات السعودية تجاه سوريا، ويسيطر انتظار القرار الظني على ما عداه...
قد يُقال إن توازن القوى داخلياً وخارجياً منذ العام 2007 لم يسمح بشيء مختلف. وقد يُقال إن النقد هيّن ومراقبة العثرات أسهل من محاولات تفاديها. والقولان صحيحان الى حدّ ما.
لكن حد صحّتهما لا يغيّر من كون الأزمة الـ14 آذارية، في ما هو أبعد من توازنات القوى التي يفرضها سلاح "حزب الله" والمصاعب التي تنتجها الحياة السياسية اللبنانية، هي أزمة ثقافة سياسية وأزمة قيادة لم تستطع تجديد خطابها وصقله بما يتجاوز الشعارات الوطنية الفضفاضة المتّكئة الى أرضيات مذهبية وأهلية ضيقة. ولم تستوعب أهمّية الإصلاح وضرورة العمل لبلورة بنوده على نحو يضعف الاستقطابات الطائفية ويحدّ من قدرة "حزب الله" على التعبئة الداخلية واستنفار العصبيات.
والإصلاح هذا يشمل قانون الانتخاب واللامركزية الإدارية، ويشمل أيضاً السياسات الاقتصادية والاجتماعية. كما يشمل التحرّر من كل قيد وحساب خارجي يملي بين الفينة والأخرى تنازلات بلا جدوى، لصالح بلورة شبكة علاقات عربية ودولية لدعم أولويات الحركة الاستقلالية في لبنان...
وكل هذا لا يعني أن الوصول الى حل مع "حزب الله" حول مستقبل سلاحه متاح في المدى المنظور، ولا أن فكّ الأسر الإقليمي ممكن من خلال إصلاحات سياسية داخلية كالتي ذكرنا. لكنه بالتأكيد يعني أن تمتين الجبهة الداخلية والسير فعلياً ببناء الدولة يخفّفان من وطأة الأسر ومن سطوة السلاح، ويؤمّنان تماسكاً لا يحتاج كل عام الى وعد بتحقيقه وبالقطع مع ما سبقه. على أن ما قد يبدو هذه المرة في الوعد الـ14 آذاري الجديد مختلفاً بعض الشيء عن الماضي هو أنه يأتي من قوى لم تعد في السلطة، ولم تعد مطالبة بتحقيق ما تعجز عنه، نتيجة تكوينها وحساباتها. صارت معارضة، ويمكن لها التمسّك بمواقف أكثر حسماً تجاه كل ما سيطرح عليها، وصارت بحِلّ من مسار مصالحات عربية ترنّح، كما أنها على الأرجح على أبواب استحقاق قانوني دولي سيربك خصومها: القرار الظني.
الأكثر جدة من ذلك، أن 14 آذار صارت تواجه فريقاً قادراً على ارتكاب الأخطاء يومياً في إدارته الاستئثارية للسلطة، إن نتيجة إسفافه الخطابي واستفزازه العاطفي المجيّش خصومه والمانع عنهم التراخي، أو نتيجة "بلطجته" المنفّرة، أو نتيجة استناده الى حسابات محور إقليمي يسير طرفاه بصعوبة وسط الرياح العاتية، وجلّ ما قد يقدّمانه له بعض البترو دولار والوقود والكثير من العزلة الدولية والتوتّرات الديبلوماسية وخطابات النخوة ومقارعة المؤامرات... والمصير البائس المشترك.
|