الجمعة, 26 نوفمبر 2010 خالد غزال *
يثير المشهد العربي المتوالي منذ سنوات تأزماً وتفككاً في بنى الدولة وانقسامات حادة بين المجموعات القائمة، أسئلة حول قدرة المجتمعات العربية على بناء استقلالاتها عبر مكوناتها الداخلية وقواها السياسية والاجتماعية، وتكوين دولة حديثة تسمح بتحقيق الاستقرار وتأمين تطور المؤسسات فيها. يقدم النموذجان اللبناني والعراقي اليوم أوضح دليل على المسار الذي تسلكه المجتمعات العربية عندما تصل الانقسامات داخله الى حدود تعجز فيه القوى المحلية عن إنجاز تسوية، فينكشف الداخل في شكل كامل أمام الخارج، وتصبح الأزمة رهينة التسويات الإقليمية والدولية، بما يجعل موقع القوى الداخلية المحلية على الهامش، فتفرض التسويات الخارجية عليها وتجري رعايتها عبرها.
شهد لبنان منذ عقود هذا التدخل الخارجي في إدارة أزماته الداخلية، ولا يزال في صميم هذا التدخل العربي- الإقليمي- الدولي، كــــما يشــــهد الــــعراق حالـــة مــــماثـــلـــة بعد أن عجزت مكوناته الداخلية عن تشكيل حكومة عراقية على رغم مرور أشهر على انتخابات نيابية أجريت فيه، مما يضع العراق أمام حالة شبيهة بما هو جار في لبنان.
إذا كان العراق ولبنان يمثلان حالة فاقعة في الانكشاف والعجز، إلا أن سائر المجتمعات العربية غير محصنة عن ولوج هذا المسار في حال تطورت الانقسامات البنيوية داخلها وتحولت نزاعات أهلية متواصلة. ليس هناك من مجتمعات في العالم بمنأى عن النزاعات الداخلية بين المجموعات التي يتكون منها البلد، لكن القدرة على السيطرة عليها وعدم انفلاتها يظل مرهونا أولاً بأهلية القوى المحلية في الوصول الى تسويات موقتة تتيح وضع حد للانفجار وتعيد الصراعات الى مسارها السلمي. يرتبط ذلك بمدى تكون مجتمعات وولادة دولة ومؤسسات ومجتمع مدني، وهي عوامل مساعدة على إنجاز تسوية. لكن المجتمعات العربية والدول التي نشأت فيها بعد نيلها الاستقلالات ظلت تعاني من تشويه في التكوين ومعضلة في التركيب. تركبت مجمل الكيانات العربــــية مــــنذ مطلع القرن العشرين وفق ما يؤمن لدول الاستعمار الغربي مصالحها الاستراتيجية وهيمـــــنتها على الموارد الاقتصادية، بما جعل هذه المجتمعات محكومة بألغام اجتماعية وسياسية وصراعات مذهبية واثنية، بما يجعل انفجارها وارداً في أي لحظة، وبما يسمح للخارج التدخل بما يهدد مصالحه وأمنه. ترافقت الاستــــقلالات مع تــــكوّن نخب محلية ضعيفة وتفتقر الى الإمكانات اللازمة لإدارة البلد، مما جعل مؤسسات البلد السياسية والاقتصادية والأمنية تدار في شكل غير مباشر من هذا الخارج، الى حد بعيد.
على رغم أن الفترة الزمنية التي مرت على هذا التركيب تعتبر كافية الى حد ما لتكوّن مجتمعات مستقلة وولادة نخب سياسية وتحقيق ما يسمح بإقامة حد كبير من الاندماج الاجتماعي، مما يجعل هذه المجتمعات قادرة على إدارة أزماتها انطلاقاً من تغليب المصالح الوطنية العامة، وبما يسمح بالمحافظة على الإنجازات المتحققة، إلا أن اندلاع الخلافات يظهر دوماً هشاشة التكوين الوطني والاجتماعي والسياسي، بما يجعل هذه الخلافات مدخلاً لانفجارات تهدد مكونات ووجود البلد عبر تحولها الى نزاعات مسلحة.
سادت في المجتمعات العربية ايديولوجيات ومفاهيم سياسية في ذروة الحراك الوطني والسياسي، تركت أثرها على مسار هذه المجتمعات، بما فيها طبيعة الصراعات الدائرة الآن. لم تعرف هذه المجتمعات نخباً متشبعة بثقافة الديموقراطية والاعتراف بالآخر والعيش سوياً على رغم كل الاختلافات، انطلاقاً من المصالح العامة. وهو أمر يستوجب الإقرار بحقوق سائر المجموعات التي يتكون منها البلد المحدد. ما عرفته هذه المجتمعات نوع من الايديولوجيا الشمولية، قومية أو اشتراكية أو دينية، تقوم في جوهرها على احتكار الحقيقة ورفض الإقرار بالمساواة بين قوى المجتمع.
هكذا تحولت هذه الايديولوجيات الى إقصاء واستئصال المجموعات غير المتوافقة معها. ولّد هذا المسلك نموذجاً في الحكم، بحيث تحكمت الأقلية بالسلطة عندما أتيح لها أن تصل الى السلطة، كما تحكمت الأكثرية أيضاً في البلد عند استيلائها على السلطة، سواء كان ذلك عبر الانقلابات العسكرية أو العملية الدستورية. هذه الديكتاتوريات من الأكثريات أو الأقليات الحاكمة، أسست في العمق لانقسامات حادة بين المجموعات، جعلها تنفجر عنفاً عند أول فرصة في تبدل مواقع السلطة.
بديلاً عن تجذّر موقع الدولة وسيرها حثيثاً لتصبح القوة فوق الجميع وتحتكر العنف، ويجري التسليم لها بالإدارة العامة، تنحو المجتمعات العربية وجهة انحلال هذا الموقع للدولة، نحو انبعاث العصبيات التي قامت الدولة على حسابها في الأصل. هكذا نرى صعوداً للعصبيات العشائرية والقبلية والطائفية في أكثر من مكان عربي، يقترن بتحول الولاءات نحو هذه العصبيات، واعتبارها الملجأ الضامن والحامي لمصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية.
لعل ما يشهده لبنان والعراق اليوم من انحلال للدولة وطبيعة الولاءات المجتمعية السائدة أكبر دليل على فشل تكون دولة عربية مستقلة. في المقابل، تبدو بعض الدول العربية، في الشكل، مستعصية على مثل هذا الانحلال، لكن التدقيق في التناقضات التي تعتمل داخلها تؤشر الى ما سيحصل إذا ما تعرض الحاكم فيها الى التبدل، بحيث قد يؤدي التغير في طبيعة الجهة الحاكمة الى نوع من حرب أهلية دامية.
لا يمكن إغفال دور الخارج عن إذكاء الصراعات ومنع التسويات، لأن هذا الخارج يعمل لديمومة سلطة تؤمن له مصالحه. لكن الخطاب العربي يبالغ كثيراً في تحميل الخارج مسؤولية العجز عن القدرة على حل المشكلات الداخلية، فالخارج يقوى تدخله أو يضعف وفق ما تؤمنه له الممرات الداخلية. لا تفيد نظرية المؤامرة في منع إنجاز التسويات الداخلية، ولا يفيد الهروب الى استدعاء الخارج في حل خلافاتنا. تبقى المسؤولية في انعدام الأهلية المحلية عن تأمين الطرق لإدارة النزاعات الداخلية ومنع تفجر المجتمع وتناثره.
* كاتب لبناني
|